المنشورات

محمّد عبده

النحوي، اللغوي، المفسر: محمّد عبده بن حسن خير الله الغرابلي الحنفي المصري، من آل التركماني.
ولد: سنة (1266 هـ) ست وستين ومائتين وألف.
من مشايخه: حسن الطويل، والشيخ محمّد البسيوني، وجمال الدين الأفغاني وغيرهم.
من تلامذته: محمّد رشيد رضا، وطنطاوي جوهري وغيرهما.
كلام العلماء فيه:
* الأعلام: "مفتي الديار المصرية، من كبار رجال الإصلاح والتجويد في الإسلام. قال أحد من كتبوا عنه: "تتلخص رسالة حياته في أمرين: الدعوة إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، ثم التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة" وتعلم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم بالأزهر. وتصوف وتفلسف .. " أ. هـ.
* الأعلام الشرقية: "أخذ يتردد على حلقات التدريس يتعلم النحو والصرف والبلاغة والتفسير والحديث وفقه الإمام مالك، ثم تحول إلى فقه الإمام أبي حنيفة، وأخذ المنطق والفلسفة والرياضيات".
وقال: "من الفتاوى والمسائل العلمية المهمة أنه كان ينكر الوسيلة ويحلل الموقوذة ويسوغ لبس القبعة ويجيز ربح صناديق التوفير ويحاول الاجتهاد ويفسر القرآن على غير طريق السلف" أ. هـ.
* قال مؤلف كتاب "التفسير والمفسرون" (2/ 549) وتحت عنوان (عيوب هذه المدرسة) أي مدرسة الشيخ محمّد عبده قال: "أما ما نأخذه على هذه المدرسة، فهو أنها أعطت لعقلها حرية واسعة، فتأولت بعض الحقائق الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم وعدلت بها عن الحقيقة إلى المجاز أو التمثيل، وليس هناك ما يدعو لذلك إلا مجرد الاستبعاد والاستغراب. استبعاد بالنسبة لقدرة البشر القاصرة، واستغراب لا يكون إلا ممن جهل قدرة بالله وصلاحيتها لكل ممكن.
كما أنها بسبب هذه الحرية العقلية الواسعة جارت المعتزلة في بعض تعاليمها وعقائدها، وحملت بعض ألفاظ القرآن من المعاني ما لم يكن معهودًا عند العرب في زمن نزول القرآن وطعنت في بعض الأحاديث: تارة بالضعف وتارة بالوضع، مع أنها أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى بإجماع أهل العلم، كما أنها لم تأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة، في كل ما هو من قبيل العقائد، أو من قبيل السمعيات مع أن أحاديث الآحاد في هذا الباب كثيرة لا يستهان بها".
* قلت: كما تكلم صاحب كتاب "التفسير والمفسرون" عن الإمام محمّد عبدة كمفسر، فتكلم عن الكتب التي ألفها كتفسير، ثم تطرق إلى منهجه في التفسير فقال:
(منهجه في التفسير:
كان الأستاذ الإمام هو الذي قام وحده من بين رجال الأزهر بالدعوة إلى التجويد، والتحرر من قيود التقليد، فاستعمل عقله الحر في كتاباته وبحوثه، ولم يجر على ما جمد عليه غيره من أفكار المتقدمين، وأقوال السابقين، فكان له من وراء ذلك آراء وأفكار خالف بها من سبقه، فأغضبت عليه الكثير من أهل العلم، وجمعت حوله قلوب مريديه والمعجبين به.
هذه الحرية العقلية، وهذه الثورة على القديم، كان لهما أثر بالغ في المنهج الذي نهجه الشيخ لنفسه، وسار عليه في تفسيره.
وذلك: أن الأستاذ الإمام اتخذ لنفسه مبدءًا يسير عليه في تفسير القرآن الكريم، ويخالف به جماعة المفسرين المتقدمين، وهو فهم كتاب الله من حيث هو دين يرشد النّاس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة: وذلك لأنه كان يرى أن هذا هو المقصد الأعلى للقرآن، وما وراء ذلك من المباحث فهو تابع له، أو وسيلة لتحصيله (1).
يقرر الأستاذ الإمام هذا المبدأ في التفسير، ثم يتوجه باللوم إلى المفسرين الذين غفلوا عن الغرض الأول للقرآن، وهو ما فيه من هداية وإرشاد وراحوا يتوسعون في نواح أخرى من ضروب المعاني، ووجوه النحو، وخلافات الفقه، وغير ذلك من المقاصد التي يرى الأستاذ الإمام أن الإكثار في مقصد منها يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهي، ويذهب بهم في مذاهب تنسيهم معناه الحقيقي (2).
لهذا نرى الأستاذ الإمام يقسم التفسير إلى قسمين:
أحدهما: جاف مبعد عن الله وكتابه، وهو ما يقصد به حل الألفاظ، وإعراب الجمل، وبيان ما ترمى إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية. قال: وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيرًا. وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون، كالنحو، والمعاني، وغيرها.
وثانيهما: ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام، على الوجه الذي يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام، ليتحقق فيه معنى قوله تعالى {هُدًى وَرَحْمَةً} ونحوهما من الأوصاف قال الأستاذ الإمام: (وهذا هو الغرض الأول الذي أرمى إليه في قراءة التفسير) (1).
هذا .. وإن الأستاذ الإمام لا يريد من كلامه السابق أن يهمل الناحية البلاغية أو النحوية مثلًا في تفسير القرآن، ولكنه يريد أن يأخذ المفسر من ذلك بمقدار الضرورة، فيبين المفسر -مثلًا- من وجوه البلاغة، وضروب الإعراب بقدر ما يحتمله المعنى، وعلى الوجه الذي يليق بفصاحة القرآن وبلاغته. وذلك بدون أن يتجاوز مقدار الحاجة.
ثم إنا نجد الأستاذ الإمام -وقد وضع لنفسه هذه الخطة في التفسير- يشترط شروطًا لا بد من توفرها عند من يريد أن يفسر القرآن يحقق الغرض منه، وقد ذكرناها بحملها عند كلامنا عن العلوم التي يحتاج إليها المفسر.
القرآن لا يتبع العقيدة وإنما تؤخذ العقيدة من القرآن:
ويري الأستاذ الإمام: أن القرآن الكريم هو الميزان الذي توزن به العقائد لتعرف قيمتها، ويقرر أنه يجب على من ينظر في القرآن أن ينظر إليه كأصل تؤخذ منه العقيدة، ويستنبط منه الرأي، وينعى على ما كان من كثر المفسرين، من تسلط العقيدة عليهم، ونظراتهم للقرآن من خلالها، حتى تأولوا القرآن بما يشهد لعقائدهم، ويتمشى معها، وفي هذا يقول: (إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقاد بكتاب الله تعالى، من غير أن ندخلها أولًا فيه، يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين، وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن، وحشرناها فيه أولًا، فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان فلا يدري ما هو الموزون به).
(أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلًا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها. كما جرى عليه المخذولون، وناد فيه الضالون).
ثم قال: "وإن الأستاذ الإمام لم يكن كغيره من المفسرين الذين كلفوا بالإسرائيليات فجعلوا منها شروحًا لمبهمات القرآن، بل وجدناه على العكس من ذلك نفورًا منها، وشرودًا من الخوض فيها، لاعتقاده أن الله تعالى لم يكلفنا بالبحث عن الجزئيات والتفصيلات لما جاء به مبهمًا في كتابه، ولو أراد منا ذلك لدلنا عليه في كتابه أو على لسان نبيه، وهو يصرح بأن هذا هو (مذهبه في جميع مبهمات القرآن يقف عند النص القطعي لا يتعداه، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه (2) ".
وإذا نحن تتبعنا أقواله في مبهمات القرآن وجدناه محافظًا على هذا المبدأ، لا يعدل عنه ولا يحيد، إلا في مواضع قليلة نادرة".
ثم ذكر رأي محمّد عبدة بمسألة اللسحر فقال:
"موقفه من السحر:
ولقد كان من أثر إعطاء الأستاذ لنفسه الحرية الواسعة في فهم القرآن الكريم، أنا نجده يخالف رأي جمهور أهل السنة، ويذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة، من أن السحر لا حقيقة له، ولذلك عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (4) من سورة الفلق {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} نجده بعد أن يفسر معنى النفث والعقد، يفسر المراد بالنفاثات في الآية فيقول: (المراد بهم هنا هم النمامون، المقطعون لروابط الألفة، المحرقون لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم، وإنما جاءت العبارة كما في الآية، لأن الله جل شأنه أراد أن يشبههم بأولئك السحرة المشعوذين، الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء وزوجه -مثلًا- فيما يوهمون به العامة، عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحلوها، ليكون ذلك حلا للعقد التي بين الزوجين، والنميمة تشبه أن تكون ضربًا من السحر لأنها تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة، بوسيلة خفية كاذبة. والنميمة تضلل وجدان الصديقين. كما يضلل الليل من يسير فيه بظلمته. ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق .. ".
ثم تطرق إلى مسألة خطيرة وهي إنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة التي ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة:
ثم راح الشيخ -رحمه الله- يرد ما جاء من الروايات في سحر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وقد رووا هنا أحاديث في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحره لبيد ابن الأعصم، وأثر سحره فيه، حتى كان يخيل له أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك، وأخرجت مواد السحر من بئر، وعوفي - صلى الله عليه وسلم - مما كان نزل به من ذلك، ونزلت هذه السورة، ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه - عليه السلام - حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه يفعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه {إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رَجُلًا مَسْحُورًا} (1)، وليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله، وخيل له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه، ولا يوحى إليه، وقد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر، فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح. والحق الصريح في نظر المقلد بدعة، ونعوذ بالله .. يحتج بالقرآن على ثبوت السحر ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه - صلى الله عليه وسلم -، وعده من افتراء المشركين عليه. ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه الصلاة والسلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه خولط في عقله وإدراكه في زعمهم).
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه - عليه السلام -، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذا هو ليس بمسحور قطعًا، وأما الحديث فعلى فرض صحته، هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها الظن والمظنون، على أن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال، فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم يبلغه، أو أن شيئًا نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان .. إلخ).
وهذا الحديث الذي يرده الأستاذ الإمام رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة، فإن السحر الذي أصيب به عليه الصلاة والسلام كان من قبيل الأمراض التي تعرض للبدن بدون أن تؤثر على شيء من العقل، وقد قالوا إن ما فعله لبيد بن الأعصم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من السحر لا يعدو أن يكون نوعًا من أنواع العقد عن النساء، وهو الذي يسمونه (رباطًا)، فكان يخيل إليه أن عنده قدرة على إتيان إحدى نسائه، فإذا هم بحاجته عجز عن ذلك. أما السحر الذي نفى عنه - صلى الله عليه وسلم - فمراد به الجنون، وهو مخل ولا شك بمقام النبوة، وقد قالوا {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}.
ثم إن الحديث رواية البخاري وغيره من كتب الصحيح، ولكن الأستاذ الإمام ومن على طريقته لا يفرقون بين رواية البخاري وغيره فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخاري، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن. وهذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة التي هي بالنسبة للكتاب في منزلة المبين من المبين، وقد قالوا: إن البيان يلتحق بالمبين، وليس هذا الحديث وحده هو الذي يضعفه الشيخ، أو يتخلص منه بأنه رواية آحاد، بل هناك كثرة من الأحاديث نالها هذا الحكم القاسي، فمن ذلك أيضًا حديث الشيخين (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها) فإنه قال فيه: (إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة) (1).
فهو لا يثق بصحة الحديث رغم رواية الشيخين له، ثم يتخلص من إرادة الحقيقة على فرض الصحة، بجعل الحديث من باب التمثيل، وهو ركون إلى مذهب المعتزلة، الذين يرون أن الشيطان لا تسلط له على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء فقط" أ. هـ.
قلت: بعد أن تناولنا محمّد عبدة كمفسر وتبين لنا كيف كان يقدم العقل على نصوص النقل -وهو ما ذهب إليه المعتزلة- نتكلم الآن عن محمّد عبدة كمؤسس حقيقي لجيل الإصلاحيين في زمنه.
فقد تكلم صاحب كتاب "العصرانيون" عن هذا الموضوع بالتفصيل ونحن سنذكر ما قاله  مختصرًا.
ففي معرض تعريفه بالشيخ يقول: "وقد بلغ كره محمّد عبده للسياسة أوجه حين قال: "أعوذ بالله من السياسة، من لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس".
والحقيقة أنه ترك السياسة ولم تتركه، بل استغلته واتخذته مطية لها عن طريق المعتمد البريطاني كرومر الذي يقول: "إن أهمية الشيخ -محمد عبده- السياسية ترجع إلى أنه يقوم بتقريب الهوة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين، وأنه هو وتلاميذ مدرسته، خليقون بأن يقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع فهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوربي".
"لقد كان محمّد عبده يبذل للإنجليز النصيحة خالصة ويرشدهم إلى ما يوطد اختلاطهم، وقد صرح كرومر بأن الشيخ سيظل مفتيًا في مصر ما ظلت بريطانيا العظمى محتلة لها".
وقدم له الإنجليز الحماية، فصدر العفو عنه بسبب الضغط البريطاني وفي الآستانة كثرت الدسائس ضده. يقول محمّد رشيد رضا:
"كان المراد من الدسائس أن يحبس الأستاذ الإمام أو يهان، وهم لا يجهلون أن السفارة البريطانية كانت بالمرصاد، وَأنها لا تسكت للحكومة الحميدية على ذلك لو أقدمت عليه، والسلطان ورجاله لا يجهلون هذا أيضًا".
ومما يؤخذ على الشيخ محمّد عبده أيضًا: اشتراكه مع أستاذه الأفغاني في المحافل الماسونية، ونشاطه فيها، وتعاونه مع أستاذه في نشر مبادئه.
وكان الشيخ محمّد عبده، هو الذي صاغ برنامج الحزب الوطني المصري، وجاء فيه: "الحزب الوطني حزب سياسي ديني، وإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذاهب، وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليها).
ثم شرع في الكلام عن منهجه وآرائه:
1 - للشيخ محمّد عبده منهجه وآراءه الإصلاحية: إذ يتجلى منهجه في التفسير بأنه يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في العصر، فهو يفسر الطير الأبابيل بأنها جراثيم الجدري، أو الحصبة يحملها نوع من الذباب أو البعوض، والنفاثات في العقد بأن المراد فيها: النمامون المقطعون لأوامر الألفة.
2 - وفي بعض فتاوى الشيخ، نجد محاولة لتأويل أحكام الفقه تأويلًا عصريًا يبرر لواقع الحضارة الغربية، ومن أهم فتاواه في ذلك: حل إيداع الأموال في صندوق التوفير، وأخذ الفائدة عليها، وفي رأيه في تعدد الزوجات، إذ يرى أن الظروف والملابسات السائدة في المجتمع تجعل من المستحيل العدل بين النساء، ولا بد من منع تعدد الزوجات إلا في حالات استثنائية يقررها القاضي.
3 - دعا إلى تحرير الفكر من التقليد، وأن يفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، ذلك أنه عاصر شيوخًا في مصر جمدوا على التقليد وتنكروا للدليل، وحاربوا كل جديد، ولو كان نافعًا للمسلمين، وآمنوا بالخرافة والشعوذة، فجاءت المدرسة الإصلاحية لتطفئ النار بالنار، وتدفع الغلو بغلو آخر.
كما أن الشيخ قد تأثر في هذه الفترة ببعض المستشرقين خلال إقامته في فرنسا، واستمرت صلاته بهم بعد عودته من منفاه فكان يزورهم ويراسلهم، ومن الجدير بالذكر أن العالم الغربي كان قد فتن بالعقل البشري وجعله ندًا للوحي في هداية الإنسان، ومع هجوم المستشرقين على التصور الإسلامي وعقيدة القضاء والقدر فيه، أراد الشيخ إثبات قيمة (العقل) تجاه (النص)، وإحياء فكرة الاجتهاد، فاصطدم مع الواقع، ومال إلى الغلو عندما أراد أن يثبت لأصدقائه المستشرقين أن أصول الإسلام لا تتعارض مع المنطق والعقل.
4 - تقديم العقل على نصوص النقل: بل يعتمد الإسلام في نظره على الدليل العقلي، وبه يحتج، لا بالمعجزات، بل يعتقد الإمام أن الإيمان بالله لا يؤخذ من الرسول ولا من الكتاب ولا يصح أخذه منهما، بل من العقل. "وقد اتفق المسلمون إلا قليلًا منهم، ممن لا يعتد برأيه، على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات، وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله، فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل، ولا من الكتب المنزلة .. ".
5 - وقد اهتم بالتقريب بين الأديان، إذ أنشأ جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: "الإسلام والمسيحية واليهودية، وذلك في بيروت، بعد أن توقفت العروة الوثقى، واشترك معه في تأسيسها: ميرزا باقر، وعارف أبو تراب، والقس إسحاق تيلر، وبعض الإنجليز واليهود، وكان الإمام صاحب الرأي الأول فيها.
ثم يستطرد صاحب كتاب "أثر المدرسة الإصلاحية في الفكر الإسلامي الحديث، فيقول: (لقد كان لاجتهادات الشيخ محمّد عبده، وآراء تلامذته، الأثر الكبير في تطور الفكر الإسلامي خلال أجيال خلت- وحتى الآن .. إلا أن دعوة هؤلاء قد استغلت في تطوير الإسلام -حسب زعمهم- ومن ثم الاقتراب به من قيم الحضارة المادية الغربية.
وكان من أبرز المسائل التي فتح الشيخ محمد عبده بابها:
- "الحديث عن الوطنية والإقليمية، والعناية بالتاريخ السابق للإسلام ومن ثم الدعوة إلى الحرية والحياة النيابية، وكذلك دعوتهم إلى إعادة النظر في وضع المرأة الاجتماعي، وقضية الحجاب وتعدد الزوجات، وتقييد حرية الطلاق".
- "لقد أراد الشيخ محمّد عبده أن يقيم سدًا في وجه الاتجاه العلماني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية، برت عليه إلى العالم الإسلامي، لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر.
ثم جاء فريق تلاميذ محمّد عبده وأتباعه، فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية".
وقد تستر وراء الإصلاحيين عدد من أصحاب الدعوات الهدامة والمبادئ المنحرفة، ومن هؤلاء دعاة تحرير المرأة.
ويرى بعض الباحثين أن الشيخ محمّد عبده كان وراء قاسم أمين، في كتابه "تحرير المرأة"، وأن الكتاب قد جاء ثمرة لعمل مشترك بين كل من الشيخ محمّد عبده وقاسم أمين، وكانت الصياغة النهائية بقلم الشيخ محمّد عبده.
بل يرى بعضهم أن الشيخ محمّد عبده هو الذي ألفه، ووضع اسم قاسم أمين عليه دفعًا للحرج، وكان ذلك بإشارة من (اللورد كرومر)، والأميرة نازلي إذ كان هؤلاء يترددون على صالونها باستمرار.
وتحت مظلة المدرسة الإصلاحية، ظهر كتاب الشيخ علي عبد الرازق، (الإسلام وأصول الحكم) يدعو فيه صاحبه إلى فصل الدين عن الدولة، وذلك عام (1925 م).
وظهر كذلك دعاة التحرر الفكري في الأدب والثقافة، وكان على رأسهم: أحمد لطفي السيد، مدير الجامعة، وطه حسين عميد حركة التغريب.
ومن ذلك حركة إنكار السنة جزئيًّا أو كليًّا، أمثال أحمد أمين ومحمود أبو رية.
ومن دعاة التضليل: محمّد أحمد خلف الله في كتابه "الفن القصصي في القرآن" إذ زعم فيه أن ورود الخبر لا يقتضي وقوعه، وعندما رفضت الجامعة المصرية (جامعة فؤاد) هذه الرسالة، دافع عنها المشرف عليها (أمين الخولي) قائلًا: "إنها ترفض الآن ما كان يقرره الشيخ محمّد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنتين وأربعين عامًا" لقد ساهم الشيخ في التقريب بين الثقافة التقليدية وثقافة أوربا، ومن هنا فإن المستشرق جيب يقول:
"إن تلامذته هم أولئك الذين تعلموا على الطريقة الأوروبية، إذ أن ما كتبه الشيخ كان بمثابة درع واقية للمصلحين الاجتماعيين والسياسيين، وإن عظمة اسمه قد ساهمت في نشر أخبار لم تكن تنشر من قبل، ثم إنه قد أقام جسرًا من فوق الهوة السحيقة بين التعليم التقليدي، والتعليم العقلي المستورد من أوروبا، الأمر الذي مهد للطالب المسلم أن يدرس في الجامعات الأوروبية دون خشية من مخالفة معتقده، وهكذا انفرجت مصر المسلمة بعد كبت".
وقد كانت آراء المدرسة الإصلاحية، وآراء الاشراق والمعتزلة، هي المنهل الثر للعصرانيين الجدد أيضًا، الذين دفعوا بمقولات هؤلاء أشواطًا بعيدة في التحرر وتطوير الدين، والتفلت من ثوابته الأساسية.
ولعل آراء المعاصرين للشيخ محمّد عبده تلقي ضوءًا على خطورة هذه المدرسة ومؤسسها:
يقول الشيخ مصطفى صبري: "أما النهضة المنسوبة إلى الشيخ محمّد عبده فخلاصتها أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين، فقرب كثيرًا من الأزهريين إلى اللادينيين خطوات، ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة، وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين، كما أنه هو الذي شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر".
ويقول في موضع آخر من كتابه: "فلعل الشيخ محمّد عبده، وشيخه جمال الدين، أرادا أن يلعبا في الإسلام دور لوثر وكلفن زعيمي البروتستانت في المسيحية، فلن يستنّ لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين، وإنما اقتصر سعيهما على مساعدة الإلحاد المقنع بالنهوض والتجديد".
ويرى أحد معاصري الشيخ محمّد عبده، أن المآخذ على هذه المدرسة تنحصر في أمرين:

أولهما: هو دعوى الاجتهاد المطلق، مع عدم الكفاية من الناحية الروحية العلمية، وفساد الاستعداد من الناحية الروحية والسلوكية.
وثانيهما: هو أنهم مع ترفعهم عن الإقتداء بالأئمة الأعلام من فقهاء المسلمين، تراهم يقتدون بالبروتستانت في تنقيح الإسلام، وباتخاذ قرارات تعمل على تطوير الإسلام حسب زعمهم، مقتدين بالمجامع المسيحية المقدسة".
ثم يتكلم عن المدرسة الإصلاحية وكيف أنه تأثر بالمستشرقين أيما تأثر فيقول:
أما الشيخ محمّد عبده: فقد اتصل بالمعتمد البريطاني كرومر بعد عودته من المنفى، وتعاون معه، ومن ثم فقد حماه الحاكم العسكري هذا، وشجع دعوته في إصلاح التعليم والقضاء والأزهر، تحت مظلة توجيهات المستعمر الإنجليزي.
يقول كرومر مشيدًا بتعاون الشيخ: "إن أهمية الشيخ محمّد عبده السياسية، ترجع إلى أنه يقوم بتقريب الهوة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين، وأنه هو وتلاميذ مدرسته، خليقون بأن يقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع، فهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوروبي "لقد كان محمّد عبده يبذل للإنجليز النصيحة خالصة، ويرشدهم إلى ما يوطد احتلالهم، وقد صرح كرومر بأن الشيخ سيظل مفتيًا في مصر، ما بقيت بريطانيا العظمى محتلة لها".
ويقول كرومر أيضًا "كان لمعرفة الشيخ العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحررة المستنيرة، أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم ويؤخذ على الشيخ أيضًا: اشتراكه مع أستاذه الأفغاني في المحافل الماسونية، وتعاونه مع أستاذه في نشر مبادئها. والجدوى".
وكان الشيخ هو الذي صاغ برنامج الحزب الوطني المصري وجاء فيه: "الحزب الوطني حزب سياسي ديني، مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليها".
ويقول كرومر بأنه تشجيعًا لهذا الحزب وعلى سبيل التجربة، قد اختار أحد رجاله وهو سعد زغلول وزيرًا للمعارف؟ ! !
ويؤخذ على الشيخ أيضًا: اشتراكه مع أستاذه الأفغاني في المحافل الماسونية, وتعاونه مع أستاذه في نشر مبادئها.
وكان الشيخ محمّد عبده قد تأثر بعض المستشرقين خلال إقامته في فرنسا، واستمرت صلته بعد عودته من المنفى، وكان قد أراد أن يثبت لهم أهمية العقل في نظر الإسلام، وإحياء فكرة الاجتهاد، فاصطدم بالواقع ومال إلى الغلو، وكان من ذلك فتاواه في تأويل أحكام الفقه تأويلًا عصريًا، يبرر الواقع أمام الحضارة الغربية، كإباحة بعض أنواع الربا، ومنهجه في التفسير، والحد من تعدد الزوجات، وحظر الطلاق .. إلخ.
"وانسياقًا مع الأثر العصراني الغربي، أنشأ جمعية سياسية دينية سرية، هدفها التقريب بين الأديان السماوية الثلاثة، كان ذلك في بيروت، واشترك معه في تأسيسها: ميرزا باقر وعارف أبو تراب، والقس إسحاق تيلر، وبعض الإنجليز واليهود، وكان الإمام صاحب الرأي الأول فيها.
وكان لتلامذة الشيخ محمّد عبده دور كبير في تطوير آرائه، والجنوح بها بعيدًا نحو العلمانية  الغربية.
من ذلك دعوة قاسم أمين في تحرير المرأة، وأفكار محمّد أحمد خلف الله في القصة القرآنية، وسعد زغلول في اتجاهه الوطني العلماني بدلًا من التيار الإسلامي، وعلي عبد الرازق في كتابه: "الإسلام وأصول الحكم" الذي دعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة.
أما عن دوره في الدعوة إلى وحدة الأديان فيقول:
والدعوة إلى وحدة الأديان فكرة قديمة، وجدت عند ملاحدة الصوفية كما ذكر ابن تيمية رحمه الله في عدد من كتبه وهذه الفكرة الخبيثة قد وجدت قديمًا عند ملاحدة الصوفية كابن سبعين وابن هود والتلمساني، قال ابن تيمية رحمه الله: "كان هؤلاء كابن سبعين ونحوه يجعلون أفضل الخلق "المحقق" عندهم، وهو القائل بالوحدة، وإذا وصل إلى هذا فلا يضره عندهم أن يكون يهوديًّا أو نصرانيًّا، بل كان ابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقًا إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين).
ثم يتكلم عمن تبنى هذه الدعوة حديثًا، ويبتدأ بجمال الدين الأفغاني، ثم يذكر من تأثر بهذه الدعوة من تلامذته فيقول:
(وتأثر بهذه الدعوة تلامذة الأفغاني، وعلى رأسهم الشيخ محمّد عبده، إذ قد دعا إلى التقريب بين الأديان، وكان ذلك بإيعاز من الأفغاني، فقد اتصل الشيخ محمّد عبده برجالات الدين النصراني، وتفاوض معهم منذ عام (1883 م) عندما كان منفيًا في بيروت .. وقد أخذت هذه الدعوة شكلًا عمليًّا بعد وفاة الأفغاني.
حيث اتصل بقس إنجليزي اسمه "إسحاق تيلور" وكتب إليه رسالتين للتقريب بين الأديان .. وقد صرح (تيلور) بأن تفسير الإمام يمهد له الطريق لإثبات الموحدة بين الديانتين، في وسط يلتقي فيه المؤمن بالقرآن والمؤمن بالإنجيل.
وسرت هذه الروح بعد الشيخ محمّد عبده حتى اشتعلت في مصر ثورة (1919 م) بقيادة صحبه وتلاميذه، وفي مقدمتهم سعد زغلزل، حتى اتحد الصليب والهلال، وخطب شيوخ الأزهر في الكنائس، واعتلى القسس منابر الأزهر) أ. هـ.
قلت: وقد فصلنا القول عن خصائص المدرسة الإصلاحية ومنهجها في التفسير وموقفها من السنة النبوية في ترجمة السيد محمّد رشيد رضا تلميذ محمّد عبده الذي يعتبر هو المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة. فليراجع ففيه زيادة توضيح عن انحرافات هذه المدرسة. والله يعصمنا من الخطأ والزلل.
* الماتريدية وموقفهم من الأسماء والصفات: "والشيخ محمّد عبدة من الماتريدية كما يظهر من مؤلفاته وصرح به غير واحد وقد عده الكوثري من أهل وحدة الوجود" أ. هـ.
وفاته: سنة (1323 هـ) ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف.
من مصنفاته: "تفسير القرآن" لم يتمه، "رسالة التوحيد" و"رسالة الواردات" في الفلسفة والتصوف و"شرح نهج البلاغة" وغيرها.





مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید