المنشورات

دروزة

المفسر محمّد عزة دروزة.
ولد: سنة (1305 هـ) خمس وثلاثمائة وألف.
كلام العلماء فيه:
* قلت: ومن كتابه (التفسير الحديث) (1/ 257) وتحت عنوان: تعليق على العرش، قال: "وكلمة العرش تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت، وقد جاءت في سياق ذكر ملكة سبأ في آية النمل هذه {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وجاءت جمعًا في سياق ذكر القرى التي دمرها الله في آية سورة الحج هذه {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاويَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}. وأكثر ما جاءت منسوبة إلى الله عزَّ وجلَّ كما هي في الآيات التي نحن في صددها، أو بصيغة استواء الله على العرش كما في آية الأعراف هذه {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ} وقد ذكرت في آية من سورة هود هكذا {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
وأصل معنى الكلمة الكرسي أو الأريكة المرتفعة المسقوفة. وفي كتب التفسير أقوال كثيرة عن عرش الله ومفهومه ومفهوم استواء الله عليه. وفي بعضها إغراب وتزيد. ويفيد بعضها أن عرش الله مادة.
* الدراسات القرآنية المعاصرة: " ... ولد الأستاذ محمد عزة دروزة ... بمدينة نابلس ونشأ بها أوائل حياته ...
انتخب عام (1960 م) عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية في القاهرة وعضوا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالقاهرة، ومقررا لشعبة التاريخ فيها" أ. هـ.
* اتجاهات التفسير في العصر الراهن -بعد أن وصف الترجمة في تفسيره- قال د. عبد المجيد عبد السلام: "وخير من يصف منهج الرجل هو نفسه كما يعرف الجميع. وإني أرى صاحب التفسير الحديث متأثرا بمنهج أبي حيان الأندلسي الذي وضعه في مقدمة تفسيره "البحر المحيط". هذه واحدة. والثانية أن صاحب هذا التفسير لكونه يفسر القرآن حسب ترتيب النزول لا بد أن يجنح إلى التفسير الموضوعي في مواضع في مواضع كثيرة إن أراد ذلك أو لم يرد. لسبب بسيط وهو أن السور المكية تشتمل على موضوعات ومواقف لا نراها في السور المدنية. وذلك راجع إلى بداية الدعوة ونموها ونهايتها إلى النتيجة الرائعة في يثرب وهجرة الرسول عليه السلام إليها وقيام الدولة الإسلامية فيها. فالمنافقون مثلًا يرد ذكرهم في السور المدنية وحسب.
ولا نجد ذكرا للنفاق والمنافقين في السور المكية. لأن الوضع في مكة كان محصورا في فئتين: فئة كثيرة مشركة وثنية، وفئة قليلة مؤمنة مستضعفة. ومن دراستي لهذا التفسير رأيت أن صاحبه كان يرجع إلى معظم التفاسير المشهورة.
وكثيرا ما كان يتمثلها في تفسيره وينقل عنها ويحيل القارئ عليها في مواضع كثيرة، وهذه التفاسير: تفسير ابن عباس، والطبري، والرازي، والنيسابوري، والبيضاوي، والطبرسي، والبغوي، ومجموعة تفسير ابن تيمية، والنسفي، والخازن، وأبي السعود، والزمخشري، والقاسمي، وجزء عم لمحمد عبده، وتفسير المنار. وغير ذلك. ومن الكتب التي كان يحيل عليها كثيرا: الإتقان، والسيرة الحلبية، والتاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، وتاريخ الطبري، وسيرة الرسول - عليه السلام - للمؤلف، والقرآن المجيد للمؤلف أيضًا" أ. هـ.
وبعد أن ذكر إنكار محمد دروزة للنزعة العلمية، (ص 62) وإنكاره على المفسرين بربط آية بآية، إلى أن قال:
"وإني أختلف مع صاحب التفسير الحديث في استعماله بعض العبارات التي تصف الله تعالى من مثل قوله في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَينَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 65 , 66]: في الآية الأولى صورة من صورة تناقض الكفار المشركين، فهم يخصون الدعاء لله وحده حينما يركبون الفلك لينجيهم إلى البر استتباعًا لعقيدتهم بأنه خالق الكون ومدبره الأعظم الضار النافع وحده، فإذا ما نجاهم عادوا إلى شركهم" (1). فعبارة المؤلف "ومدبره الأعظم" غير دقيقة. وبخاصة أن الماسونية تقول عن الله "مهندس الكون الأعظم" أمام السذج والعميان بمن ينضمون إليها. وإذا بحثت عن هذا المهندس تجده ملك الحكومة العالمية التي تسعى الماسونية لتحقيقها. فهو يهودي من نسل داود - عليه السلام - كما يزعمون.
والله سبحانه ليس خالق الكون وحده، بل خالق الكون والإنسان والحياة. أي ما اصطلح عليه بالوجود. والله سبحانه هو الواجب الوجود.
و"الأعظم" صيغة أفعل التفضيل. وهي توحي بمدبر للكون أقل عظمًا منه ويدخل في ذلك قول الأستاذ أمين الخولي عن القرآن: "كتاب العربية الأعظم" وهذه العبارة توحي بوجود كتاب أقل عظمًا من القرآن الكريم.
ولا يجوز وصف الله بغير الصفات التي وصف بها ذاته، سبحانه وتعالى عما يصفون" أ. هـ.
ولما كان القرآن لا يحتوي شيئًا عن ماهية العرش، كما أنه ليس هناك حديث نبوي ثابت ووثيق في ذلك، فالواجب أن يقف المرء فيما ورد في صدد ماهيته موقف التحفظ.
ولما كان من عادة الملوك أن يكون لهم عروش عظيمة فخمة. ثم لما كان في التعابير الأسلوبية ما يفهم منه أن عروش الملوك كانت وما زالت ترمز إلى سعة الملك وعظمته وفخامته أيضًا، ولما كانت الآيات التي احتوت كلمة عرش الله قد وردت في صدد بيان عظمته عزَّ وجلَّ وعلو شأنه وشمول ربوبيته ونفوذ أمره في جميع الكائنات خلقًا وتدبيرًا وتسخيرًا فالمتبادر أن الكلمة قد استعملت للتقريب والتشيه. ولا سيما أن الله عز وجل ليس مادة يمكن أن تحد بمكان أو صورة أو تحتاج إلى عرش مادي. وفي القرآن آيات نسبت إلى الله اليد واللسان والروح والنزول والمجيء والقبضة مما هو منزه عن مفهوماتها المادية وما هو بسبيل التقريب والتشيه. وهذا وذاك من باب واحد.
ولقد كان تعبير استواء الله على العرش مثار جدل وخلاف بين علماء الكلام. فكان منهم المؤول ومنهم المنزه لله عن الاستواء المادي والعرش المادي، ومنهم الأخذ على الظاهر والواقف عنده بدون تأويل. ومنهم الكاره للجدل القائل "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة" ومنهم القائل: إن معنى استواء الله على العرش استقامة أمر ملك السموات والأرض لله تعالى وانفراده بتدبيره بعد خلقه، وإن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالعقل والنقل مانعة لكل توهم لشبهة تشبيه الخالق بالمخلوق في التعبير بالاستواء على العرش. وإن من الواجب حمل التعبير على المجاز المعتاد استعماله في اللغات البشرية. وهذا متسق مع كلامنا".
وقال من خلال تعليقه على {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2/ 138): "أما جملة {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فإنها تأتي هنا لأول مرة. وقد تكررت بعد ذلك أكثر من مرة.
ولقد علقنا على كلمة العرش بما فيه الكفاية في سياق سورة البروج فلا ضرورة للإعادة ونقول في صدد الاستواء: إن أصل معناه تساوي الشيء واستقامته واعتداله. وقد تطلق الجملة من قبيل المجاز فتكون بمعنى التملك بالنسبة للملك أكثر منها بمعنى الجلوس على العرش أو الكرسي.
ومما قاله ابن كثير إن للناس في هذا المقام مقالات كثيرة ولكن الأولى أن يسار في طريق السلف الصالح بالمرور بالجملة من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، وملاحظة كون الله لا يشبهه شيء من خلقه وليس كمثله شيء. ومما قاله البغوي إن المعتزلة أولت الاستواء بالاستيلاء وإن أهل السنة قالوا إن الاستواء على العرش صفة وصف الله بها نفسه فتؤخذ بالإيمان بلا كيف ولا تشبيه. ومما قاله السيد رشيد رضا إن أحدًا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الرب تعالى على العرش، على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق، وكانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات والأرض له وانفراده هو بتدبيره.
وعلى كل حال فهذا من الأمور المغيبة التي أخبر الله عنها بالعبارة التي اقتضتها حكمة تنزيله، ومن الواجب الإيمان بما جاء في القرآن مع تنزيه الله عزَّ وجلَّ عن الحدود والجسمانية والمشابهة التي يقتضيها تأويل العرش بالمادية والجلوس الجسماني عليه. ومع التنويه بخاصة بوجاهة ما ذكره رشيد رضا من فهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنى الجملة وإن لم يورد نصًّا في ذلك معزوًا إلى أحد وسندًا يسند قوله، ومع ملاحظة أن الآيات في جملتها هنا وفي غير مكان قد وردت في معرض التدليل على عظمة الله وشمول قدرته وملكه وتوكيد كونه الخالق المدبر واستحقاقه بسبب ذلك وحده للعبادة والخضوع. تبارك الله رب العالمين".
وقال في تعليقه على كلمة (محدث) وعلى مسألة خلق القرآن (6/ 156): "ولقد وقف علماء الكلام عند كلمة (محدث) حيث اتخذها بعضهم دليلًا على حدوث القرآن وأولها بعضهم بما يجعل هذا الاستدلال في غير محله؛ لأنه يؤدي إلى القول بأن القرآن حادث وهو كلام الله كما جاء في آية التوبة هذه {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} والكلام من صفات الله القديمة بقدمه التي لا يصح عليها حدوث وخلق.
والكلمة في مقامها واضحة الدلالة على أنها إنما قصدت (آيات جديدة النزول) ولا تتحمل إثارة المعنى الذي أريد الجدل حوله.
ومسألة خلق القرآن من المسائل الكلامية الشهيرة التي أدت إلى فتنة شديد في زمن المأمون الخليفة العباسي وامتدت نحو عشرين سنة واضطهد وعذب في سبيلها علماء كثيرون على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل لأنهم أريدوا على القول بإيعاز من المعتزلة بأن القرآن مخلوق فأبوا.
وهذه المسألة متفرعة عن مسألة أعم. وهي الخلاف على صفات الله بين أهل السنة والمعتزلة. فالمعتزلة قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته متكلم بذاته الخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه غير ذاته هو تعدد لله القديم الذي يستحيل عليه التعدد. وأهل السنة قالوا إن لصفات الله معنى زائدًا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلم بكلام واحترزوا بهذا لمنع تعدد الله القديم بتعدد صفاته لأنهم مثل المعتزلة يعتقدون باستحالة التعدد في حق الله. ثم أبحر الخلاف إلى صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله فقال فريق من أهل السنة إن الله متكلم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها وإن القرآن معنى قائم بذات الله وقيدوا أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به فهو شامل في أي واحد لجميع الكلام الذي يدور في الخلد أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف على حرف نطقًا وكتابة وسمعًا وهذا من سمات الأمور الحادثة.
وقال فريق آخر من أهل السنة إن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن صفة كلام الله الأزلي القديم وأنها مثلها قديمة أزلية أيضًا ليست حادثة ولا مخلوقة.
أما المعتزلة -والشيعة الإمامية مثلهم في أكثر المذاهب الكلامية- فقد قالوا إن الله متكلم بذاته بدون كلام زائد عنها وأنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض فتقرأ وتسمع وأن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفات المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة لسان وحفظ وناسخ ومنسوخ الخ هو مخلوق ولا يصح أن يكون قديمًا أزليًا. ويقولون إن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصحف تواترًا وهذا يستلزم كونه مكتوبًا في المصاحف مقروءًا بالألسن مسموعًا بالآذان وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة، ويرد عليهم أهل السنة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بأسنتا مسموع بآذاننا غير حال فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم وأن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج ..
هذه خلاصة وجيزة جدا لأن التبسط في الكلام ليس من منهجنا، وواضح أن الجماعات المختلفة معترفون بكمال صفات الله وأن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات وتخيلها وتفهمها ومداها وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافيات الكلامية الأخرى، منهم المعظم لله ومنهم المنزه له. وأنهم متفقون على أن القرآن منزل من الله على نبيه.
ونعتقد أن ثوران هذه المسألة الخلافية وما ترتب عليها من فتنة في أوائل القرن الثالث الهجري ذو صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرون الإسلامية الأولى وأنه كان لتسرب الأساليب الكلامية والكتب الفلسفية الأجنبية أثر قوي فيها وأنها لا تتصل بآثار نبوية وراشدية موثقة ثابتة في ذاتها فضلًا عما هناك من آثار نبوية وراشدية تنهى عن الخوض في ماهية الله والقرآن وتوجب أن يظل المسلم في حدود التقريرات القرآنية من أن القرآن كلام الله ومن عند الله وأن لله أحسن الأسماء وأكمل الصفات وأنه ليس كمثله شيء وأنه لا تدركه الأبصار، ولا يتورط ويخوض في ماهيات وكيفيات متأصلة بسر واجب الوجود وسر الوحي والنبوة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل المادي ومما لا طائل من ورائه".
وقال في (7/ 382) تعليقًا على آية الكرسي: "ولقد تعددت الأقوال في صدد الكرسي كما هو الأمر في صدد العرش واللوح والقلم ومنها ما جاء فيه أوصاف مادية لا تخلو من غرابة ولا تنسجم من صفات الله وتنزهه وليست متصلة بحديث نبوي وثيق السند، وأظهر الأقوال وأكثرها انسجامًا مع صفات الله أن الكلمة مستعملة على سبيل المجاز وأن المقصود منها بيان عظمة ملك الله وسلطانه والله أعلم" أ. هـ.
قلت ومن كتاب (الدراسات القرآنية المعاصرة)، وتحت عنوان: منهج المؤلف في البحث. قال محمّد بن عبد العزيز السديس: (يقدم المؤلف لكل سورة يشرع في تفسيرها بمقدمة قصيرة يذكر فيها ما تحتويه السورة من أحكام على العموم. وأين كان نزولها وما تمتاز به مبينًا ما فيها من الآيات المكية إن كانت السورة مدنية وما فيها من الآيات المدنية إن كانت السورة مكية وقد أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه إذ قال: "وقد رأينا ... وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء في تفسيرها، يضمن وصفها ومحتوياتها وأهم ما امتازت به وما يتبادر من فحواها من صحة ترتيبها في النزول وفي المصحف، وما في السور المكية من آيات مدنية. وفي السور المدنية من آيات مكية حسب الروايات. والتعليق على ذلك حسب المقتضى. وكذلك وضع عناوين للموضوعات والتعليقات الهامة التي تناولناها بالبحث والشرح والبيان ليسهل على من ينظر في التفسير مراجعة ما يريد فيها" (1).
والمؤلف يسوق مجموعة الآيات ثم يبين معاني المفردات ثم يذكر ما يؤخذ منها من أحكام ثم يعلق على الآيات إذ يقول: "تعليق على آية كذا .. وفي هذا التعليق يحقق سبب نزول الآية وأين نزلت بعد ذكر الخلاف بين العلماء ويرجح ما يراه راجحًا.
كما يذكر خلاف العلماء في الأحكام وغيرها ويرجح ما يراه راجحًا هذا هو ما يغلب على منهجه. وقد لا يذكر معاني المفردات إذا كانت معانيها واضحة. وقد لا يذكر ما فيها من الأحكام إذا لم يوجد فيها أحكام. كما أنه لا يذكر تعليقًا في بعض الأحيان.
والمؤلف كغيره من المؤلفين له آراء غير سديدة وأخرى سديدة في أمور الاعتقاد والتشريع فأما في الأمور الاعتيادية فله رأيان مجافيان للصواب فيما اطلعت عليه وأمكنني معرفته من آرائه، فهو أولًا يرى: "أن يحمل التعبير بالعرش على المجاز المعتاد استعماله في اللغات البشرية. كما يقول: "إن في القرآن آيات نسبت إلى الله اليد واللسان والروح والنزول والمجيء والقبضة مما هو منزه عن مفهوماتها المادية. ومما هو بسبيل التقريب والتشبيه وهذا وذاك من باب واحد" (1).
ويقول في صدد الكرسي أن أظهر الأقوال وأكثرها انسجامًا مع صفات الله. استعمالها على سبيل المجاز. فيقول: "ولقد تعددت الأقوال في صدد الكرسي كما هو الأمر في صدد العرش واللوح والقلم ومنها ما جاء فيه أوصاف مادية لا تخلو من غرابة ولا تنسجم مع صفات الله وتنزهه وليست متصلة بحديث وثيق السند. وأظهر الأقوال وأكثرها انسجامًا مع صفات الله أن الكلمة مستعملة على سبيل المجاز، وأن المقصود منها بيان عظمة ملك الله وسلطانه والله أعلم" (2).
فالمؤلف يرى أن الكرسي والعرش مستعملة استعمالًا مجازيًا؟ وأنا أقول ما المانع والمحذور الشرعي أو العقلي من استعمالها على الحقيقة. قال صاحب "كتاب متشابه القرآن" في رد هذا القول: "وقد وصف الله نفسه ونعته رسوله - صلى الله عليه وسلم - بآيات وأحاديث تزيد على آيات وأحاديث الأحكام أو تقرب منها. فمن حملها على غير ظاهرها أو المجاز أو الكناية فليحمل آيات الأحكام وأحاديثها وغيرها على غير ظاهرها أو على المجاز والكناية، وعليه ألا يعيب على من فعل ذلك كبعض الباطنية وبعض الصوفية المارقين عن الإسلام، إذ لا فرق بين ذلك عند من له أدنى معرفة بكلام الله ورسوله ولسان العرب الذي نزل به القرآن، وإلا فهو تحكم بغير علم ولا عقل يسوغ له ذلك، ولا عذر له عند الله فيما قلد فيه من قبله مع وضوح الدليل وقدرته على أخذه والوصول إليه.
والله يهدينا ويهدي قومنا إلى سواء السبيل، ويجمع كلمتنا على كتابه" (3).
أما الرأي الثاني فهو رأيه في سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقف حائرًا من حديث سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للرسول مع وروده في الصحيحين ومع معرفته بأنه وارد في الصحيحين إذ صرح بوروده في الصحيحين ومع ذلك وقف حائرًا ظنًّا منه أن ذلك يؤثر في نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) وليس كذلك فإن سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤثر فيه إلا من ناحية الأمور الدنيوية فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه يأتي الشيء فإذا هم به لم يستطع وخاصة فيما يتعلق بالنساء.
غير أن المؤلف مع هذا يحارب وينقد البدع والخرافات الشركية التي وقع فيها جهلة المسلمين فعند تفسيره لآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. قال: (وجملة) {وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} 

أوجدت على ما يظهر في أذهان بعض المسلمين فكرة (التوسل) أي الاستشفاع بالأنبياء وعباد الله الصالحين من أموات وأحياء لدى الله والإقسام عليه بحقهم بقضاء مطالب متنوعة من دفع ضرر وجلب نفع على اعتبار أنهم من الوسائل التي حثت الآية على ابتغائها إليه، وبلغ الأمر أن صاروا يشدون الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم من أولياء الله وينذرون لهم النذر ويقسمون على الله أن يحقق مطالبهم، وقد استشرت هذه العادة عند المسلمين في القرون المتأخرة، ثم تحدث عن محاربة الإمام محمّد بن عبد الوهاب وابن تيمية لهذه البدع والخرافات الشركية ونقل من كتاب ابن تيمية "التوسل والوسيلة".
وأما في الأمور التشريعية فله رأي كغيره من المفسرين في هذا العصر -في الجهاد- إذ يرى أنه للدفاع وهو أشد هؤلاء المفسرين تقريرًا وتأكيدًا على هذه الفكرة، انتقده الشهيد سيد قطب. وإليك ما قاله في تعليقه على آية: 192 من سورة البقرة "وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي:
1 - واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
2 - عدم جواز بدئهم أحدًا غير عدو وغير مُعْتدٍ بقتال.
3 - واجب كفهم عن القتال حال ما ينتهي موقف العدو المعتدي إلى حالة مستقرة من إسلام أو عهد وسلم.
4 - اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سببًا ومبررًا لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (1). ثم يقول "أي أن إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم أشد نكاية من القتل والقتال وأكثر تبريرًا للقتال حتى لو سلمنا جدلًا أن الآية تأمر بقتال الأعداء حتى ينتهوا عن شركهم ويسلموا فإن ذلك بالنسبة للأعداء الذين يقاتلون المسلمين والذين يحق للمسلمين أن يحددوا الشروط التي يكفون بها عنهم" أ. هـ.
وتكلم محمّد بن عبد العزيز السديس أيضًا حول قول صاحب الترجمة في معاهدة المشركين كما في سورة التوبة، وكيف جعل الله تعالى حكمته في تلك الآيات في معاهدة المشركين. وأشار صاحب الترجمة (إلى الحكم التشريعية من التحريم والتحليل ويرد على انتقادات المغرضين من أعداء الإسلام الخارجين الممتزجين بالمسلمين من أبناء جلدتهم وهم ركيزة للأعداء في بلادهم ويسميهم بالأغيار) (2)، فقد ردَّ على المغرضين في إباحة تعدد الزوجات، ودفاعه على حكم الله تعالى ورخصته وتحليله لها، وأيضًا تكلم على ميراث الأنثى وإنصافه سبحانه لها، وفي حكم الله تعالى بقطع يد السارق، وتحريم الخمر، وغيرها من أحكام الله تعالى في كتابه العزيز ورد صاحب الترجمة على من يعارض تلك الأحكام ويجعل منها غرضًا انتقص من الشريعة الإسلامية الغراء.
قال السديس رأيه في الكتاب -أي "التفسير الحديث"- لصاحب الترجمة ما نصه: "يعجبني في تفسير الأستاذ محمّد عزة دروزة التحقيقات والترجيحات التي يسوقها المؤلف أثناء تفسيره للآيات. وسلاسة أسلوبه، وبيانه لحكم التشريع في الشرائع الإسلامية ورده للتهم الملصقة بالإسلام ونبي الإسلام من أعدائه. ولا يعجبني فيه إصراره -أي المؤلف- على حصر الجهاد الإسلامي في مجال الدفاع -وهو مجال الضعف- ومحاولته إيجاد مبررات لرأيه الدفاعي -التي يخيل للإنسان عند قراءته لها أي للمبررات والحجج التي يرددها لتأييد رأيه الدفاعي- أنها صحيحة. لكنه عند التمحيص والنظر يجدها غير صحيحة.
وأحسب أن قول سيد قطب "أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على "الوطن الإسلامي" -وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب- فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ... " (1) أحسب أن قول سيد قطب هذا يشير إلى محاولات دروزة هداه الله إيجاد مبررات وأسانيد لإثبات وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان. فقد لاحظت أنه أكثر الذين قالوا بدفاعية الجهاد استدلالًا واستنادًا وإيجادًا للمبررات. هذا مجرد ظن والله أعلم" أ. هـ.
* قلت: ومما سبق يتضح مذهبه الأشعري، وذلك من خلال ما نقلناه سابقًا في القول بالمجاز، وصفات الله تعالى ورده على المعتزلة بأصول الأشعرية ... والله تعالى الموفق.
من مصنفاته: "التفسير الحديث"، و"بنو إسرائيل في أسفارهم", و"الإسلام والاشتراكية".







مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید