المنشورات

الشّعْرَاوي

المفسر: محمّد متولي الشعراوي.
ولد: سنة (1332 هـ) اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف.
كلام العلماء فيه:
• قلت: من مجلة "منار الإسلام" نذكر بعض لمقتطفات من حياته:
1. ولد في 15 إبريل عام (1911 م) بقرية دوقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية في جمهورية مصر العربية.
2. حفظ القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشرة.
3. حصل على العالمية من كلية اللغة العربية في القاهرة عام (1941 م).
4. عمل أستاذًا للشريعة بجامعة أم القرى في مكة المكرمة عام (1950).
5. في عام (1963 م) وبعد سحب البعثة الأزهرية من السعودية عاد إلى مصر وتولى منصب مدير مكتب شيخ الأزهر.
6. سافر إلى الجزائر رئيسًا لبعثة الجزائر وعمل في التدريس فيها لمدة سبع سنوات واختير وزيرا للأوقاف وشؤون الأزهر في الفترة من (1976 - 1978).
7 - عرضت عليه مشيخة الأزهر إلا أنه رفضها وتفرغ لتفسير القرآن الكريم.
8 - أختير عضوا في عدد من المجامع العلمية وحصل على عدد من الجوائز التقديرية آخرها اختياره الشخصية الإسلامية لعام (1997) من قبل جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم كما منحه صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وساما رفيعا قام معالي وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف محمد بن نخيرة الظاهري بتقليده إياه) أ. هـ.
• قلت: سوف نعتمد في بيان مذهبه الإعتقادي على ما فسره من سور القرآن الكريم من كتاب "تفسير الشعراوي"، سنذكر بعض المواضع منه، حول تأويله للأسماء والصفات، وكيف عرف الإيمان على ما ننقله إلى القاريء الكريم .. والله تعالى المستعان.
قال في قول الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ... } [النور: 35] إلى آخر الآية (1/ 169).
"كأن الله سبحانه وتعالى .. يريدنا أن نعرف بتشبيه محس .. أن مثل نوره كمشكاة .. والمشكاة هي (الطاقة) .. وهي فجوة في الحائط بالبيت الريفي .. ونحن نضع المصباح في هذه الطاقة .. إذن المصباح ليس في الحجرة كلها .. ولكن المصباح في زجاجة .. تحفظه من الهواء من كل جانب .. فيكون الضوء أقوى .. صافيا لا دخان فيه .. كما أن الزجاج يعكس الأشعة فيزيد تركيزه .. والزجاجة غير عادية ولكنها: "كوكب دري" .. أي هي مضيئة بذاتها وكأنها كوكب .. ووقودها شجرة مباركة يملؤها النور لا شرقية ولا غربية .. أي يملؤها النور من الوسط ويخرج صافيا .. والزيت مضيء بذاته دون أن تمسه النار .. فهي نور على نور .. أيكون جزء من هذه المشكاة ذات المساحة الصغيرة مظلما؟ .. أم تكون كلها مليئة بالنور القوي؟ .
وهذا ليس نور الله تبارك وتعالى عن التشبيه والوصف، ولكنه مثل فقط للتقريب إلى الأذهان .. فكأن نور الله يضيء كل ركن وكل بقعة .. ولا يترك مكانا مظلما .. فهو نور على نور .. "أ. هـ.
وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (1/ 233):
"حينما يقول الله جل جلاله. استوي .. يجب أن نفهم كل شيء متعلق بذات الله على أنه سبحانه ليس كمثله شيء. فالله استوى والملوك تستوي على عروشها. وأنت تستوي على كرسيك. ولكن لأننا محكومون بقضية "ليس كمثله شيء" لا بد أن نعرف أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء والله حي. وأنت حي. هل حياتك كحياته؟ والله سبحانه وتعالى يعلم وأنت تعلم هل علمك كعلمه؟ والله سبحانه وتعالى يقدر. وأنت تقدر. هل قدرتك كقدرته؟ طبعا لا. فعندما تأتي إلى {استوى} فلا تحاول أن تفهمها أبدا بالمفهوم البشري .. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما في الأرض وما في السماء. وهو سبحانه يعلم المكان بكل ذراته. والموجودين في هذا المكان أو المكين. بكل ذراته وأنت تعرف ظاهر الأمر .. والله سبحانه ونعالى يعمل غيب السموات والأرض حتى يوم القيامة. وبعد يوم القيامة إذن فهو جل جلاله. ليس كمثله شيء. ولا يمكن أن تحيط أنت بعقلك بفعل يتعلق بذات الله سبحانه وتعالى. فعقلك قاصر عن أن يدرك ذلك. لذلك قل سبحان الله. ليس كمثله شيء في كل فعل يتصل بذات الله .. "استوى إلى السماء" هذا الكلام هو كلام الله. فالمتحدث هو الله عزَّ وجلَّ.
بعض الناس يقولون تلقينا القرآن وحفظناه. نقول لهم إن الذي حفظ القرآن هو الله سبحانه وتعالى، وما دام قد حفظ كلامه فهو جل جلاله يعلم أن الوجود كله لن يتعارض مع القرآن الكريم .. والله سبحانه وتعالى حفظ القرآن ليكون حجة له على الناس. وما دام الله جل جلاله هو الخالق. وهو القائل. فلا توجد حقيقة في الكون كله تتصادم مع القرآن الكريم .. واقرأ قوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وهذا من عظمة الله أن حفظ كلامه ليكون حجة على الناس. والله سبحانه وتعالى وجدت صفاته قبل أن توجد متعلقات هذ الصفات، فهو جل جلاله، خلق لأنه خالق، كان صفة الخلق وجدت أولًا، وإلا كيف خلق أول خلقه، إن لم يكن سبحانه وتعالى خالقًا؟ ) أ. هـ.
وقال في الاستواء (9/ 5697):
" {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بما يليق بذات الله، فلا نأخذ الاستواء على المعنى الذي يدل على مكان محيز؛ لأنه سبحانه منزه عن أن يكون متحيزًا في مكان؛ فذاته سبحانه ليست كالذوات، وفعله ليس كالأفعال، وصفاته ليست كالصفات" أ. هـ.
وقال في قوله تعالى من آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى آخر الآية من سورة البقرة (255) (2/ 1920) ما نصه: "و"الحي" هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله، لأن القدرة بعد الحياة، والعلم بعد الحياة، فكل صفة لا بد أن تأتي بعدها في الذكر وإلا فليست صفة من صفات الله أسبق من صفة ولا متقدمة عليها فكلها قديمة لا أول لها، فلو كان عدمًا فكيف تأتي الصفات على العدم؟ ، وكلمة "حي" عندما نسمعها نقول: ما هو الحيّ؟ . إن الفلاسفة قد احتاروا في تفسيرها، فمنهم من قال: الحيّ هو الذي يكون على صفة تجعله مُدرَكا إن وُجدَ ما يُدرَكْ.
كأن الفيلسوف الذي يقال ذلك: يعني بالحياة حياتنا نحن، وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك. ونقول لصاحب هذا الرأي: لا، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلا بد أن تقول: الحياة هي أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلاحيته لمهمته، هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف، فـ (الحي": هو الذي يكون على صفة تبقى له صلاحيته لمهمته، مثال ذلك النبات، ما دمت تجده ينمو، إذن ففيه حياة تبقى له صلاحية مهمته، فلو قطع لانتهت الصلاحية. ومثل الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته، والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل، هذا التفاعل فرع وجود الحياة، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا"أ. هـ.
ثم قال في قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ} الآية (2/ 1102):
"وقوله الحق: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ} نجد أن كلمة "شيء" تعنى أقل القليل.
وقوله سبحانه "من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض، يعلمنا أن الحق فيما يتكلم به عن نفسه ولخلقه فيه نظائر، كالوجود، هو سبحانه موجود وأنت موجود، وكالغني هو غني وأنت غني، كالعلم هو عالم وأنت تكون عالما، فهل نقول: إن الصفة لله كالصفة عندنا؟ لا، كذلك كل ما يرد بالنسبة للغيب فيما يتعلق بالملّه إضافة أو وصفا؛ لا تأخذها بالمناسب عندك؛ بل خذها في إطار "ليس كمثله شيء".
فإذا قيل لله يد، قل: هو له يد كما أن له وجودا؛ وبما أن وجوده ليس كوجودي فيده ليست كيدي بل أفهمها في إطار "ليس كمثله شيء"، فإذا قال: "وسع كرسيه"، نقول: هو قال هذا، وما دام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار "ليس كمثله شيء". فلا تقل له كرسي وسيقعد عليه مثلنا، لا. لقد وجدنا من قال أين يوجد الله؟ ! ! متى وجد؟ ! ! وقلنا ونقول: "متى" و"أين" لا تأتي بالنسبة لله، إنها تأتي بالنسبة لكم أنتم، لماذا؟ لأن "متى" زمان و "أين" مكان. والزمان والمكان ظرفان للحدث، فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان، مثال ذلك أن أقول: "أنا شربت" وما دام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان، لكن هب أنني لم أشرب، أيكون هناك زمان أو مكان؟ ! لا، فما دام الله ليس حدثا فليس متعلقا به زمان أو مكان، لأن الزمان والمكان نشآ عندما خلق الله وأحدث هذا الكون، فلا تقل: "متى" لأن "متى" خلقت به، ولا تقل "أين" لأن أين خلقت به ولأن"متى" و "أين" ظرفان؛ هذه للزمان، وهذه للمكان، والزمان والمكان فرعا الحدث، وعندما يوجد حدث فقل زمان ومكان.
إذن فما دام الله ليس حدثًا، فإياك أن تقول فيه متى، وإياك أن تقول فيه أين، لأن "متى" و "أين" وليدة الحدث، وقوله الحق: "وسع كرسيه" نأخذه -كما قلنا- في إطار "ليس كمثله شيء"، الكرسي: في اللغة الكِرس. والكِرسُ هو: التجميع، ومنه الكراسة وهي عدة أوراق مجمعة، وكلمة "كرسي" استعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يبنى عليه الشيء، فمادة "الكرسي" "الكاف والراء والسين" تدل على التجميع وتدل على الأساس الذي تثبت عليه الأشياء، فنقول: اصنع لهذا الجدار كرسيًا، أي ضع لهذا الجدار أساسًا يقوم عليه، ونطلق أيضًا على القوم العلماء الذين يقوم بهم الأمر فيما يشكل من الأحداث، والشاعر العربي قال: "كراسي في الأحداث حين تنوب" أي يُعتمد عليهم في الأمور الجسيمة.
وحين ينسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى. فإن السلف لهم فيها كلام والخلف لهم فيها كلام، والسلف يقولون: كما قال الله نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار "ليس كمثله شيء"، وبعضهم قال: نؤولها بما يثبت لها صفة من الصفات، كما ثبتون قدرة الحق بقوله الحكيم.
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ} [الفتح: 10].
أي أن قدرة الله فوق قدرتهم، وكما قال سبحانه وعن قدرته في الخلق:
{وَالسَّمَاءَ بَنَينَاهَا بِأَيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
إن كمال قدرة الله أحكمت خلق السماء، والحق سبحانه مقدس ومنزه عن أن يتصور المخلوق كلمة "يد" بالنسبة لله، ونحن نقول: الله قال ذلك، ونأخذها من الله؛ لأنه أعلم بذاته وبنفسه، ونحيلها إلى ألا يكون له شبيه أو نظير، كما أثبتنا لله كثيرًا من الصفات، في خلق الله مثلها ومع ذلك نقول: علمه لا كعلمنا، وبصره لا كبصرنا، فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟ . فتكون في إطار "ليس كمثله شيء".
والعلماء قالوا عن الكرسي: إنه ما يعتمد عليه، فهل المقصود علمه؟ . نعم. وهل المقصود سلطانه وقدرته؟ . نعم، لأن كلمة "كرسي" توحي بالجلوس فوقه، والانسان لا يجلس عن قيام إلا إذا استتب له الأمر، ولذلك يسمونه "كرسي الملك"، لأن الأمر الذي يحتاج إلى قيام وحركة لا يجعلك تجلس على الكرسي، فعندما تقعد على الكرسي، فمعنى ذلك أنا لأمر قد استتب، إذن فهو بالنسبة لله السطان، والقهر، والغلبة، والقدرة.
أو نقول: ما دام قال: "وسع كرسيه السموات والأرض، فوسع الشيء أي: دخل في وسعه واحتماله."والسموات والأرض" نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا، إنه سبحانه يقول: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
وقال في (2/ 1106) أيضًا:
"إن الحق يقول: "وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما"، ومعنى آده الشيء، أي أثقله، وحتى نفهم ذلك هب أن إنسانًا يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات، فإن زدنا هذا الحمل إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه، ويجعل عموده الفقري معوجًا حتى يستطيع أن يقاوم الثقل، فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الأرض من فرط زيادة الوزن الثقيل".
ثم قال عن آية الكرسي:
"هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لأن كلمة "الكرسي" هي الظاهرة، فيها وكلمة "الكرسي" فيها: تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات الحق جل وعلا".
وقال في الإيمان عند تفسير الآية: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية [البقرة: 260] (2/ 1139):
"إن إبراهيم - عليه السلام - يسأل: كيف تُحيي الموتى؟ أي أنه يطلب الحال التي تقع عليها عملية الإحياء، فإبراهيم - عليه السلام - لا يتكلم في الإحياء، وإنما كان شكه - عليه السلام - في أن الله سبحانه قد لا يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى؟ ولنضرب هذا المثل -ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد- والمثل لتقريب المسألة من العقول؛ لأن الله منزه عن أبي تشبيه.
إن الواحد منا يقول للمهندس: كيف بنيت هذا البيت؟ إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلى محدث وهو البيت الذي تم بناؤه، فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة الإيمان؟ لا.
ولنعلم أولًا ما معنى: عقيدة؟ . إن العقيدة هي: أمر معقود، وإذا كان هذا فكيف يقول: "ليطمئن قلي"؟ فهل هذا دليل على أن إبراهيم قبل السؤال، وقبل أن يجاب إليه، لم يكن قلبه مطمئنًا؟ لا، لقد كان إبراهيم مؤمنًا، ولكنه يريد أن يزداد اطمئنانًا؛ لأنه أدار بفكره الكيفية التي تكون عليها عملية الإحياء، لكنه لا يعرف على أية صورة تكون" أ. هـ.
قال في قول سحرة فرعون عندما شاهدوا معجزة موسى - عليه السلام - وحقيقتها وإيمانهم بالله تعالى بعدها: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمِينَ} [الأعراف: 121] (7/ 4301).
وهل هم سجدوا بعد الإيمان؟ أم آمنوا بعد السجود؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود، ولكن كان الأمر يقتضي إلا يسجد أحد إلا لأنه آمن، لكن نحن نعرف أن الإيمان عمل قلبي، والسجود عمل عضلي وسلوك عملي، فكل منهم آمن بقلبه فسجد.
وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم، فيقولو: آمنا برب العالمين؛ لذلك نحن لا نرتب السجود على إيمان، بل نرتب السجود مع القول بالإيمان وبإعلان الإيمان؛ لأن إعلان الإيمان شيء، والإيمان شيء آخر، فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلان الإيمان، وكأن الناس سألوهم: ما الذي جرى لكم؟ فقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمِينَ}.
إذن فمن يحاول أن يستدرك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الإيمان يعني وجود الإيمان اولًا، والسحرة قد آمنوا فسجدوا، فاستغرب منهم الناس هذا السجود، وهنا قال السحرة: لا تستغربوا ولا تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين"أ. هـ.
ثم نذكر ما قال الشيخ الشعراوي في صفة اليد عند قوله تعالى: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} الآية [المائدة: 64]، (6/ 3261).
"ونعرف أن اليد جارحة حرة الحركة تنفعل يمينًا وننفعل شمالًا وتنفعل إلى أسفل والى أعلى، ولها من الأصابع ما جعل الله لكل أصبع مع زميله مهمة، وليلاحظ كل منا أصابعه في أثناء أي عمل، سيجدها تتاعد وتتقارب بحركة إرادية منسجمة لتؤدي المهمة، وخلفة الأصابع بالمفاصل والعُقَل وحجم كل عُقلة يختلف عن الأخرى، لتؤدي المهمة بانسجام، وساعة تعوّق هذه الجارحة عن أداء مهمتها فأنت بذلك تكون قد غللتها، أي ربطتها عن التصرف المطلوب منها.
ومعنى قوله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي أن يد الله -والعياذ بالله- مشلولة الحركة.
وقد قالوا ذلك قبل ظهور سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 

وقبل زحف الإسلام عليهم لينقض باطلهم.
وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون والزراعة، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا، فقال "فنحاص" وهو واحد من اليهود لماذا قبض الله يده عنا؟ إن يد الله مغلولة، ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد، ولكن الحق يقول هنا: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، ومعنى ذلك أن "فنحاص" عندما قال ذلك سمعوه وسرّهم ما قال، ووافقوه عليها.
أو أنهم حينما شاهدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول الهجرة وقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود فيتندرون على تلك الحال ويقولون: إن يد الله مغلولة عن محمّد وآله.
أو أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا؛ لأنه سيعاقبنا أيامًا معدودة. والذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلًا لأحداث خلقه إنما يكفر بالله، لأنه ينزل الله من مكانته، فإذا كانت يد الله مغلولة، فهذا الرباط والغَلُّ والمنع يكون من خلق الله، وكيف يقدر خلق من خلق الله أن يربط يد الله؟ . لقد اجترأوا على مقام الألوهية وهذا من سوء الأدب، تمامًا كما قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].
وحينما قالوا: "يد الله مغلولة" وردّ الحق عليهم: "بل يداه مبسوطتان" وقال قبلها: "غلت أيديهم" فهل يدعو الحق عليهم؟ طبعًا لا؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق، ولكن الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد وصفًا لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم.
{وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ} وهذا يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفًا لا يليق فلا بد أن ندحضه، لأن الحق لا يدعو على عبيده، لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له.
إذن فإن قالها الحق فهي إما أن تكون خبرًا، وإما تعليمًا لنا، فإذا كانت خبرًا نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول، وإن كان القصد هو تعليمنا، فنحن نتعلم الأدب الإيماني، ونرد أي وصف لا يليق بحلال الله".
ثم قال: "ويتابع سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ}، وهو يعطي من يريد، وكلمة "اليد" في اللغة تطلق على الجارحة وتطلق على النعمة، فيقول الرجل: إن لفلان عليّ يدًا لا أنساها، أي أنه قدم جميلًا لا يُنسى. واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد، وتُطلق اليد ويراد بها الملكية فيقول سبحانه: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الآية [البقرة: 237].
أي الذي يملك أن ينُكح المرأة، وهو الذي يعفو، وفي القتال نجد القول الحكيم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيدِيكُمْ} الآية [التوبة: 14].
أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال، لذلك نجد الحق قد قال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الآية [ص: 75].

وآدم هو الخلق الأول وكلنا من بعده مخلوقون بالتناسل من الزوجية، وقد كرّم الله الإنسان بأنه خلقه بيديه، وخلق كل شيء بـ"كن"، إذن: كلمة "اليد" تطلق على معان متعددة، والرسول يقول: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" (1).
أي عندما تجتمع الأيدي تكون هي اليد القادرة، وعندما نقرأ كلمة "يد الله" فهل نحصرها في نعمته أو ملكه؟ .
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].
والله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فلنقف عند الوصف، نعم له يد، وله يدان، وإياك أن تتصور أن كل ما يتعلق بالله مثل ما يتعلق بك؛ لأن الأصل أن لك وجودًا الآن، ولله وجود، لكن وجودك غير وجود الله، وكذلك يده ليست كيَدِكَ، حتى لا نشبه ونقول: إن له يدًا مثل أيدينا، فلنقل إن المراد باليد هو القدرة أو النعمة، والهدف الراقي هو تنزيه الحق، وهناك من يقول: إن لله يدًا ولكن ليست كأيدينا لأننا نأخذ كل ما يأتي وصفًا لله على أنه "ليس كمثله شيء" والتأويل ممكن. مثلما بيّن الحق: أنه قد صنع موسى على عينيه.
وتأخذ أي مسألة تتعلق بوصف الله إما كما جاءت، بأن له يدًا ولكن ليست كالأيدي، وله وجود لا كالوجود البشري، وله عين ليست كالأعين، ولكن كل وصف لله نأخذه في إطار "ليس كمثله شيء"، وإما أن نأخذ الوصف بالتأويل، ويراد بها النعمة ويراد بها القدرة، ويقول الحق: {بل يداه مبسوطتان} والمراد هنا هو "النعمة" ولم يكتف سبحانه بأن يرد بأن له يدًا واحدة تعطى: لا، بل يرد بما هو أقوى مما يمكن، فهو يعطي بيديه الاثنتين، وهو القائل:
{وَأَسْبَغَ عَلَيكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} من الآية [لقمان: 20].
إنه يُعطي الظاهر ويعطي الباطن، وإياك أن تقول تلك اليد اليمني وتلك اليد اليسرى؛ لأن كلتا يدي الله يمين. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ} أي أنه سبحانه لا يمكن أن يكون بخيلًا، حتى وإن منع الحق فذلك منح وعطاء وإنفاق؛ لأن الذي يطغى بنعمة، قد يذهب به الطغيان إلى بلاء وسوء مصير؛ لذلك يقبض سبحانه عنه النعمة ليعطيه الأمن من أن ينحرف بالنعمة، ولذلك نجد القول الحق في سورة الفجر: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] أ. هـ.
ثم يقول الشعراوي: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" إذن فكله إنفاق. وسبحانه ينفق كيف يشاء، فلا يبخل أبدًا حتى وإن منع، فالمنع في موضعه الصحيح هو عين الإنفاق، وهكذا يكون عطاء الله عطاء النعمة ظاهرة كانت أو باطنة فإن أردت بـ "اليد" القدرة فيدا الله مبسوطتان بالثواب لقوم وبالعقاب لقوم آخرين، وهو سبحانه وتعالى يعطي لحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - المناعة الإيمانية ضد كل متمرد عليه، أو ضد كل متأبٍ ومستكبر من الكافرين أو من أهل الكتاب" أ. هـ.
وقال الشيخ الشعراوي في صفة الكلام عند كلام الله تعالى لموسى - عليه السلام - (7/ 4340) ما نصه:
"وقوله سبحانه: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} هو قول يدل على أن كلامًا حصل من الله لموسى فكيف يحدث ذلك وسبحانه قد قال في مسألة الكلام بالنسبة للبشر كلامًا عامًا:
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51].
وفي هذا نفي أن يكلم الله البشر، إلا بالوسائل الثلاث: الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا، والوحي النسبة للأنبياء يكون بإلقاء المعنى في قلب النبي دفعه، مع العلم اليقيني بأن ذلك من الله عزَّ وجلَّ، وقد يراد بالوحي الإلهامات، مثل الوحي إلى أم موسى، والوحي إلى الحواريين، وكذلك إلى الملائكة، وقد يراد بالوحي: التسخير؛ كالوحي للأرض، والنحل.
وبعد ذلك: "أو من وراء حجاب" أي أن يسمع كلامًا ولا يرى متكلمًا، "أو يرسل رسولًا" هو جبريل - عليه السلام -، والقرآن لم ينزل إلا بطريقة واحدة، بواسطة نزول جبريل - عليه السلام - على - سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فما نزل القرآن بالالهام، وما نزل القرآن من وراء حجاب بل نزل بواسطة رسول من الله وهو جبريل وله علامات.
وهنا في كلام موسى نقول إن الكلام وقع فيه من وراء حجاب وهنا نمسك عن الخوض فيما وراء ذلك لأنه غيب لم يكشف لنا عنه ونترك الأمر فيه لله.
وقد سبق أن قلنا: إن صفات الله لا يوجد مثلها في البشر، فليس وجود الإنسان كوجود الله، وليس غنى الإنسان كغنى الله، وكذلك لن يكون أبدًا كلامك ككلام الله، لأن كل شيء يخص الله إنما نأخذه في إطار "ليس كمثله شيء" وقد بين الحق سبحانه وتعالى أن كلامه لموسى تميز لموسى، ولذلك يقول الحق: {إِنِّي اصْطَفَيتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144].
ويجب أن ناخذ كل وصف يوجد في البشر، ويوجد مثله، في وصف الله مثل "استوى"، و "جلس" و"وجها، و"يد" نأخذ كل ذلك في إطار "ليس كمثله شيء".
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} [الأعراف: 143].
وحينما خص الله موسى بميزة أن تكلم إليه، حصل من موسى استشراق اصطفائي، وكأنه قال لنفسه: ما دام قد كلمني فقد أقدر أن أراه، لأن استطابة الأنس تمد للنفس سبل الأمل في الامتداد في الأشياء مثلما قال موسى من قبل ردًّا على سؤال الله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17)} [طه: 17].
كان الجواب يكفي أن يقول: "عصا" لكنه قال: {قَال هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} الآية [طه: 18].
قال ذلك على الرغم من أن الحق لم يسأله: ماذا تفعل بها؟ وأراد بالكلام أن يطيل الأنس بربه، وكأنه عرف أنه من غير اللائق أن يكون الجواب مجرد كلمة ردًّا على سؤال، ولله المثل الأعلى- نجد الإنسان منا حين يرى طفلًا صغيرًا يداعبه ويطيل الكلام معه إيناسًا له، وحين وجد موسى أن الله يكلمه استشرقت نفسه أن يراه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} [الأعراف: 143].
لم يقل موسى: أرني ذاتك، بل قال: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه لا يمكن أن يرى الله، لكن إن أراه الله، فهذا أمر بمشيئة الحق، وقدم موسى الطلب معلقًا بمشيئة الله وإرادته، لأنه يعلم أنه غير معد لاستقبال رؤية الله، لأن تكوينه لا يقوى على ذلك، وحتى في الوحي والكلام لم يكلم ربنا الناس مباشرة، بل لا بد أن يصطفي من الملائكة رسلًا، ثم تكون مرحلة ثانية أن يصطفي من البشر رسلًا، ويبلغ الرسل الناس كلام الله، لأن الصفات الكمالية العليا الخالقة لا يمكن أن يستوعبها المخلوق".
ثم بعدها قال في الرؤية:
"كذلك الرؤية وسيظهر ذلك لنا حينما يعطي الله الدليل على أنه خلقكم لا على هيئة أن تروه الآن، ولكن حين تبرزون في الآخرة وتعدون إعدادًا آخر، فمن الممكن أن تنالوا شرف رؤيته: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
ولا يستوي الناس في ذلك؛ لأن المؤمن هو من ينال شرف النظر إلى الله، أما الكافر فهو محجوب عن رؤية الحق، يقول تعالى في شأن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فلا يستوي المؤمن والكافر في هذه الحالة، فما دام الكافر محجوبًا فالمؤمن غير محجوب ويرى ربه، وقال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ}. قال الحق: {قَال لَن تَرَانِي}.
وفي اللغة نجد أن "لن" تأتي تأبيدية، أي تؤيد المستقبل أي لا يحدث ولا يتحقق ما بعدها. فهل معنى ذلك أن قول الحق: {لَن تَرَانِي} أن موسى لن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة؟ . ونقول: ومن قال إن زمن الآخرة هو زمن الدنيا؟ إن هذه لها زمن وتلك لها زمن آخر:
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
إذن فزمن الآخرة وإعادة الخلق فيها سيكون أمرًا آخر، يكفي أن أهل الجنة سيأكلون ولن تكون لهم فضلات، إنه خلق جديد. إن مجيء "لن" في قوله الحق: {لَن تَرَانِي} تأبيدها إضافي، أي بالنسبة للدنيا، وفيها تعليل لعدم قدرة موسى على الرؤية، وأضاف سبحانه: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
وسبحانه هنا يعلل لموسى بعملية واقعية فأوضح: لن تراني ولكن حتى أطمئنك أنك مخلوق بصورة لا تمكنك من رؤيتي انظر إلى الجبل، والجبل مفروض فيه الصلابة، والقوة، والثابت، والتماسك؛ فإن استقر مكانه، يمكنك أن تراني إن الجبل بحكم الواقع، وبحكم العقل، وبحكم المنطق أقوى من الإنسان، وأصلب منه وأشد، ولما تجلى ربه للجبل اندك، والدك هو الضغط على شيء من أعلى ليسوى بشيء أسفل منه، والحق هو القائل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21].
وهنا في موقف موسى وحواره مع الله يتأكد لنا أن الله تجلى على خلق من خلقه، ولكن أيقدر المتجلي عليه على هذا التجلي أم لا يقدر؟ إن أقدره الله فهو يقدر، أما إن لم يقدره الله فلن يقدر. والجبل هو الأصلب، فلما تجلى له ربه اندك، إذن فمن الممكن أن يتجلى الله على بعض خلقه، ولكن المهم أيقوى المستقبل للتجلي أو لا يقوى؟ ولم تقو طبيعة موسى على التجلي لله بدليل أن الأقوى منه لم يقو".
ثم قال في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَال سُبْحَانَكَ} "وساعة تسمع كلمة سبحانك" أعرف أنه يراد بها التنزيه لله من الحدث الذي نحن بصدده وهو رؤيته -تعالى- أي تنزيهًا لك يا رب أن يراك مخلوقك، لأن الرؤية قدرة بصر على مرئي، ومعنى: "رأيت الشيء، أي أن عين البشر قد قدرت على الشيء، ولو أننا نحن المخلوقين رأينا الله بقانون الضوء، فهذا يعني أن أبصارنا تقدر على ربنا وهذا لا يمكن أبدًا، لأن المقدور لا ينقلب قادرًا، والقادر لا ينقلب مقدورًا.
{فَلَمَّا أَفَاقَ قَال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
وتوبة موسى هنا من أنه سأل الله ما ليس له به علم، ولأنه لم يقف عند التجليات المخالفة لنواميس الكون، وأن ربنا قد أعطاه بدون أن يسأل، لقد كلمه الله، فلماذا يصعد المسألة ويطلب الرؤية؟ ولماذا لم يترك الأمور للفيوضات التي يعطيها الله له ويتنعم بفيض جود لا ببذل مجهود؟ .
ويقرر موسى ويقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}، أي بأن ذاتك -سبحانك- لا يقدر مخلوق أن يراها ويدركها. لقد شعر موسى ببعض من انكسار الخاطر لأنه طمح إلى ما يفوق استطاعته وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وكأنه قد فهم ما أوضحه الحق له: لا تلتفت إلى ما منعتك" أهـ.
• قلت: وبعد الذي ذكرنا مقاطع من تفسيره، ومنهجه فيه الميل إلى العقل أكبر من النقل، وهذا واضح جدًّا، حتى إننا قرأنا أو سمعنا من خلال بعض محاضراته من خلال الأجهزة السمعية، فهذا من أهم الأمور التي يمكن ملاحظتها في تفسيره فهو يفتقد إلى الأحاديث والآثارة وأقوال المفسرين والترجيح على أساس الدليل الصحيح: إذا وجد، ولكن هو يؤثر علم الكلام والاستطراد به أكثر من مما ذكرت من أصول وعلوم التفسير ويعطي قدرة الشيخ الشعراوي الأدبية من لغة أو نحو وعلم الكلام وأصوله وهو يميل إلى المذهب الأشعري كما نلاحظ في قوله بالإيمان عن سحرة فرعون، أو قول النبي الكريم إبراهيم - عليه السلام - حول رؤيته لقدرة الله تعالى في إعادة خلق المخلوق أمامه، وما ذكرنا من بعض الصفات لله سبحانه.
ومن المعلوم أن المدارس الشرعية الإسلامية، وطلابها وعلمائها في القرون المتأخرة هذه وخاصة الأزهر فمذهبهم المشهور عندهم الشافعي، وأصول اعتقادهم على المذهب الأشعري عمومًا، والمعروف أن المعتقد الأشعري يكاد يكون ملاصقًا للمذهب الشافعي، بعد أن ظهر أبو الحسن الأشعري ... والله أعلم.
ولعل -كما نقلناه سابقًا- علماء ومشايخ القرن الحالي والذي قبله قد تخبطوا في مذاهب وفرق المسلمين من ماتريدية أو أشعرية أو تشيع وحتى يصل الأمر إلى أقوال المعتزلة وأصولهم وتبنيها، وقول الخوارج وغيرهم، قد جعل الحيرة في معتقدات هؤلاء إلا القليل منهم من الذين كانوا على منهج السلف الصالح باتباع الكتاب والسنة.
نقول: ولتوجه الشيخ الشعراوي في اعتماده على علم الكلام في التفسير، جعله عرضة إلى النقد العلمي، أو التنقص من شخصه، كما في بعض كتب الرد ككتاب "اللهيب الشاوي في تأديب الشيخ الشعراوي" (1) وكتاب "إقامة الحجة والبرهان على من زعم أن الله في كل مكان وفسر برأيه القرآن" (2)، فمثلًا من الكتاب الأخير سوف نذكر موضعًا يدل على الرد غير الدقيق على الشيخ الشعراوي وقد يصل إلى مستوى الاتهام بالانحراف والكفر، ولعل الخطأ يكون في الناقد نفسه، ومن المؤسف أن السباب والشتم طاغية على مثل هذين الردين، وهذا منهج مردود عليهم وعلى من ينهج منهجهم في الرد غير العلمي والأخلاقي.
قلت: قال عبد الكريم بن صالح الحميد في كلامه على السحر كما ذكره الشيخ الشعراوي في تفسيره لآية سجود سحرة فرعون (ص 21): "في كلامه -أي الشعراوي- على سجود السحرة: فلما رأوا معجزة موسى كانوا أقدر الناس على فهمها والسجود لها.
الجواب -أي لعبد الكريم-: السجود للمعجزة كفر، والسحرة إنما سجدوا لله .. ) إلى آخر كلامه قلت: ولو تمحص أكثر لأنصف الشعراوي وقوله الكامل في تفسيره لهذه الآية قال الشعراوي (7/ 4100) لقوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)} [الشعراء: 46]:
"ولم يقل الحق: وسجد السحرة، ولكنه قال: "وألقي" مما يدل على أن خرورهم للسجود ليس برأيهم، ولكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم، كان شيئًا آخر ألقاهم ساجدين، وهو الانبهار بالحق، فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر، ثم يفاجأ مجموعة السحرة أن موسى حين ألقى عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحرًا" أ. هـ. قول الشعراوي.
إذن هو لم يقصد سجود السحرة لعين السحر، وإنما انبهارهم من بالحق وقدرة الله تعالى التي جعلها على يد موسى - عليه السلام -، وكذا ذكر عبد الكريم بن صالح الحميد عن الشعراوي: أنه أعطى لإبراهيم القدرة على الخلق حينما طلب منه أن يأتي بالطير ويقطعها .. كما في (ص 24) من كتاب "البرهان" وهذا أيضًا مردود على عبد الكريم دعواه ضد الشيخ الشعراوي وقد ذكرنا نص ذلك آنفًا، وإنما هو فيه يجعل الإيمان  هو التصديق وما طلبه إبراهيم - عليه السلام - اطمئنان لإيمانه وهو أمر تكميل، وهذا هو قول الأشعرية فهو يميل إليه وأيضًا في إيمان السحرة، وليس كما ادعاه صاحب"البرهان" وهو في ذلك قد تعدى، ولم يذكر خطأ الشيخ الشعراوي في منهج الإيمان، وإنما جعلها على غير منحاها الصحيح.
ولهذا وغيره لم نذكر ردود مثل هذه الكتب؛ لفقدان المنهج العلمي، وجعل التنقص من شخص العالم أو الشيخ كالشعراوي وغيره أصلًا إلى جانب الضعف في إيراد النصوص التي أخطأ فيها ذلك المردود عليه، وجعلها ضمن ما يراه صاحب الرد لا على أصول العلم وضوابطه.
إذن مما نقلناه سابقًا من تفسير الشيخ الشعراوي لآيات القرآن الكريم يتضح معتقده على مذهب الأشاعرة وعلم الكلام والفلسفة والقول بالرأي في بعضه واعتماده على العقل دون النقل، وهناك بعض الآيات تدلّ على تصوفه ومن الجدير بالملاحظة أنه رغم قوله في بعض آيات الصفات عند تفسيره لها: بأن يذكر الأمثلة المعاصرة وغيرها بدون تأويل ولا تشبيه ولكن هو في بعضها يؤول ويشبه في غير موضع التأويل والتشبيه، رغم تنزيهه لذلك قبل قوله، وذكره قول الله تعالى {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} ولكنه يؤول ولعل ما ذكرناه يكفي لتوجيه القول، وفي تفسيره الكثير مما ذكرنا آنفًا، فإلى الاستزادة فليراجع ..
والله الموفق لخير السبيل وهو أعلم بالصواب.
وفاته: سنة (1419 هـ) تسع عشرة وأربعمائة وألف.
من مصنفاته: له "تفسير القرآن".






مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید