المنشورات

أبو منصور الماتريدي

المفسر: محمّد بن محمد بن محمود الماتريدي (1) السمرقندي، أبو منصور.
ولد: قبل سنة (238 هـ) ثمان وثلاثين ومائتين.
من مشايخه: أبو نصر العياضي، ونصير بن يحيى البلخي، ومحمد بن مقاتل الرازي وغيرهم.
من تلامذته: أبو القاسم الحكيم السمرقندي، وعلي الرستغفني، وأبو محمد عبد الكريم البزدوي وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
• الجواهر المضيئة: "كان من كبار العلماء" أ. هـ.
• سماه في تاج التراجم: "إمام الهدى" أ. هـ.
• معجم المؤلفين: "متكلم أصولي" أ. هـ.
• الماتريدية دراسة وتقويمًا، وتحت عنوان منزلته العلمية قال: "يحتل الماتريدي منزلة كبيرة في تاريخ الفكر الإسلامي حيث أنه مؤسس لإحدى المدارس الكلامية التي ذاع وانتشر فكرها في العالم الإسلامي، وهي المدرسة الماتريدية، التي أصبحت هي والأشعرية تتقاسم العالم الإسلامي، وهذا مما جعل طاش كبرى زاده يفول: "إن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان، أحدهما حنفي، والآخر شافعي، أما الحنفي، فهو أبو منصور محمد بن محمود الماتريدي، إمام الهدى ... ، وأما الآخر الشافعي، فهو شيخ السنة، ورئيس الجماعة إمام المتكلمين ... أبو الحسن الأشعري البصري".
وقد أطلق الماتريدية عدة ألقاب على إمامهم أبي منصور الماتريدي تدل على علو منزلته وقدره عندهم في العلم ونصرة الدين والدفاع عن العقيدة، كإمام الهدى، وإمام المتكلمين، ومصحح عقائد المسلمين، والإمام الزاهد، ورئيس أهل السنة، وبالغ بعضهم في وصفه فعده مهدي هذه الأمة في وقته.
قال أبو المعين النسفي مبينًا منزلة الماتريدي العلمية وقدره عندهم: "ولو لم يكن فيهم [أي الماتريدية] إلا الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله الذي غاص في بحور العلوم واستخرج دررها وأوتي حجج الدين وزين بفصاحته، وغزارة علومه وجودة قريحته غررها حتى أمر الشيخ أبو القاسم الحكيم أن يكتب على قبره حين توفي: (هذا قبر من جاز العلوم بأنفاسه، واستنفد الوسع في نشره وأقباسه فحمدت في الدين آثاره، واجتنى من عمره ثماره).
وهو الذي تخرج عليه الفقيه أبو أحمد العياض في أنواع العلوم، والشيخ أبو الحسن الرستغفني وغيرهما من العلماء المتبحرين في العلوم الملية لكان كافيًا ..
ومن رأى تصانيفه ككتاب التوحيد وكتاب المقالات .. ووقف على بعض ما فيها من الدقائق، وغرائب المعاني وإثارة الدلائل عن مكامنها، [واستنباطها] عن مظانها ومعادنها، واطلع على ما راعى من شرايط الإلزام والإلتزام، وحافظ من آداب المجادلة الموضوعة لفسخ عقائد المغترين بأفهامهم، وقرن بكل مسألة من البرهان الموضوع، لأفاده ثلج الصدر وبرد اليقين، لعرف أنه المخصوص بكرامات ومواهب من الله تعالى، المؤيد بمواد التوفيق ولطائف الإرشاد من الغني الحميد، وأن ما اجتمع عنده وحده من أنواع العلوم الملية والحكمية لن يجتمع في العادات الجارية في كثير من المبرزين المحصلين، ولهذا كان أستاذه الشيخ أبو نصر العياضي لا يتكلم في مجالسه ما لم يحضر الشيخ أبو منصور، فكان كلما رآه من بعيد نظر إليه نظرة المتعجب وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
وكتابه المصنف في تأويلات القرآن كتاب لا يوازيه في فنه كتاب، بل لا يدانيه شيء من تصانيف من سبقه في ذلك الفن، وما أحسن ما قال بعض بلغاء الكتاب في وصفه في كتاب، فقال: كان من كبار الأئمة وأوتاد الملة، وكتابه في تفسير القرآن فتق عن المشكل أكمامه، وقشع عن المشتبه غمامه، وأبان بأبلغ الوصف، وأتقن الرصف أحكامه وحلاله وحرامه، لقاه الله تحيته وسلامه .. ".
وقال الناصري بعد أن ذكر بعض كلام النسفي المتقدم: "وقد اجتمع عنده [أي الماتريدي] من العلوم الملية والحكمية ما صار به علمًا مشهورًا من أعلام الهدى يعرف به الغادي من المهتدي في لحن القول لا يستطيعه أهل الأهواء خصوصًا أهل الاعتزال، حتى كانت المعتزلة يلقبون أهل
السنة به وينسبون سالكي طريقة أبي حنيفة في العقائد والأصول إليه، فيقولون هؤلاء (الماتريدية) لشدة ما يغيظهم شأنه وقوة انتصاره لمذهب السنة الجماعة بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة، ودحضه شبهات الخصوم .. ".
وذكر الزبيدي أن الماتريدي "كان إمامًا جليلًا مناضلًا عن الدين موطدًا لعقائد أهل السنة، قطع المعتزلة، وذوي البدع في مناظراتهم، وخصمهم في محاوراتهم حتى أسكتهم .. وكان يقال له إمام الهدى .. ".
وقال عبد الله المراغي في كتابه (الفتح المبين في طبقات الأصوليين): "كان أبو منصور قوي الحجة، مفحمًا في الخصوم، دافع عن عقائد المسلمين، ورد شبهات الملحدين، ونفى عن العقائد كل ما اعتراها من زيغ وما علق بها من شبه".
ويرى أبو الحسن الندوي أن الماتريدي "جهبذ من جهابذة الفكر الإنسان، امتاز بالذكاء والنبوغ وحذق الفنون العلمية المختلفة".
فللماتريدي إذًا منزلة رفيعة وعالية عند الماتريدية، ومن وافقهم، وهم في الحقيقة يبالغون في تعظيمه والثناء عليه، ويرفعونه فوق منزلته، وهذا حال كل قوم يتصبون لإمامهم، ولا ينظرون إلى الأمور والأشخاص بمنظار الشريعة، فيعرفون الحق من الباطل وينزلون الناس منازلهم" أ. هـ.
• موقف ابن تيمية من الأشاعرة وتحت عنوان منهج الماتريدي وعقيدته: "لا يبعد الماتريدي كثيرًا عن أبي الحسن الأشعري، فهو خصم لدود للمعتزلة، وقد خالفهم في المسائل التي اشتهروا بمخالفة أهل السنة فيها مثل مسائل الصفات، وخلق القرآن، وإنكار الرؤية، والقدرة، وتخليد أهل الكبائر في النار، والشفاعة، وغيرها، وقد ألف في ذلك كتبًا مستقلة، ومع ذلك فالماتريدي لم ينطلق في ردوده عليهم من منطلق منهج السلف -رحمهم الله تعالى- وإنما كان متأثرًا بمناهج أهل الكلام، ولذلك وافقهم في بعض الأصول الكلامية والتزم لوازمها فأدى به ذلك إلى بعض المقالات التي لا تتفق مع مذهب السلف، وإنما كان فيها قريبًا من مذهب الأشعرية.
ومن المسائل التي تميز بها مذهب الماتريدي:
1 - القول بوجوب النظر وإبطال التقليد في مسائل العقيدة ولذلك يقول: "ثبت أن التقليد ليس مما يعذر صاحبه"، وهذا قريب من مذهب بعض الأشاعرة الذين لا يصححون إيمان المقلد.
2 - ومصادر المعرفة عنده: الأعيان (الحس)، والخبر، والنظر.
3 - الاستدلال على إثبات الصانع بدليل حدوث الأجسام المبني على عدم خلوها من الأعراض، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، والماتريدي لا يقتصر على هذا الدليل، وإنما يذكر أدلة أخرى، والعجيب أن الماتريدي يعتز بإجابته أحد شيوخ الاعتزال عن الاعتراض على دليل حدوث الأجسام.
4 - استدلاله في بعض المسائل العقيدة بالسمع والعقل.
5 - والماتريدي يثبت الصفات العقلية لله تعالى كالسمع والبصر والقدرة والإرادة والإحياء والإماتة والرزق، وغيرها من صفات الذات والفعل -وهذا ما يقول به الأشاعرة- إلا أن الماتريدي لا يفرق بين صفات الذات وصفات الفعل ولذلك فهو يقول بأزلية صفات الفعل ومنها صفة التكوين التي قال إنها أزلية، وهي من المسائل الكبار التي تميز بها مذهب الماتريدية عن مذهب الأشعرية، وأصل الخلاف فيها أن الأشاعرة -ومعهم المعتزلة- يقولون: الفعل هو المفعول، فالتكوين أو الخلق هو عين المكون أو المخلوق، لذلك قالوا بحدوث صفات الفعل لله تعالى مثل الخلق، وأن الله لم يكن خالقًا ثم خلق، قالوا: فلو قلنا بقدم صفة الفعل لله تعالى للزم من ذلك قدم المفعول، وهذا يبطل القول بقدم الصانع وحدوث العالم أما الماتريدية فعندهم أن الفعل غير المفعول، والتكوين غير المكون، ولذلك فهم يقولون بأزلية صفات الفعل لله تعالى من الخلق والإحياء والرزق، وإن كان المفعول منها حادثًا، يقول الماتريدي بعد كلام: "والأصل أن الله تعالى إذا أطلق الوصف له، وصف بما يوصف به من الفعل، والعلم، ونحوه، يلزم الوصف به في الأزل، وإذا ذكر معه الذي هو تحت وصفه به من العلوم، والمقدور عليه، والمراد، والمكون يذكر فيه أوقات تلك الأشياء لئلا يتوهم قدم تلك الأشياء"، وأوضح في تفسيره فقال في قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]: "ثم الآية ترد على من يقول بأن خلق الشيء هو ذلك الشيء نفسه، لأنه قال: "إذا قضى أمرًا"، ذكر "قضى"، وذكر "أمرًا"، وذكر "كن فيكون"، ولو كان التكوين والمكون واحدًا لم يحتج إلى ذكر كن في موضع [العبارة] عن التكوين، فالكن تكوينه، فيكون المكون، فدل أنه غيره، ثم لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن فحدث، أوكان في الأزل .. "، ثم رجح أنه موصوف به في الأزل، وأن الشيء يكون في الوقت الذي أراد كونه فيه، والماتريدي بنى قوله على الفرار من حلول الحوادث بذاته تعالى الذي يلزم به الأشاعرة حين يقولون بحدوث صفات الفعل لله تعالى.
6 - والماتريدي من نفاة الصفات الاختيارية لله تعالى تبعًا لمنعه حلول الحوادث بذات الله تعالى، ويبني ذلك على مسألة دليل حدوث الأجسام، وفي مسألة كلام الله قال بأنه أزلي وأنه لا يتجزأ ولا يتبعض وبنى في الرد على الكعي والمعتزلة -في قولهم بخلق القرآن- على منع حدوث كلام الله، والقول بأنه أزلي، أما ما سمعه موسى -عليه الصلاة والسلام- فالله "أسمعه بلسان موسى، وبحروف خلقها، وصوت أنشأه، فهو أسمعه ما ليس بمخلوق"، وقد رد شارح الطحاوية -ابن أبي العز- على الماتريدي قوله هذا، ويؤول الماتريدي الصفات الفعلية مثل صفة الاستواء فيقول -بعد ذكره الأقوال فيه-: "وجمله ذلك أن إضافة كلية الأشياء إليه، وإضافته عزَّ وجلَّ إليها، يخرج مخرج الوصف له بالعلو والرفعة، ومخرج للتعظيم له والجلال ... وإضافة الخاص إليه يخرج مخرج الإختصاص له بالكرامة والمنزلة ... [و] الأصل فيه أن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جل عن التغير والزوال والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم"، وبعد أن يؤصل الماتريدي هذا الأصل يذكر الأقوال في الاستواء من أنه بمعنى الاستيلاء أو العلو والارتفاع، أو التمام، ثم يرجح التفويض لاحتماله أحد هذه المعاني أو غيرها فيقول: فيجب القول بالرحمن على العرش استوى، على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثم لا تقطع تأويله عن شيء، لاحتماله غيره مما ذكره، واحتماله أيضًا ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق" والعجيب أنه يفسر ذلك على مسألة الرؤية.
7 - ينكر الماتريدي أن يكون الله في جهة العلو، ويؤول بعض الأدلة مثل رفع الأيدي إلى السماء تأويلات عجيبة، ولذلك فهو يثبت الرؤية ويرى أن الاستدلال لها بالسمع وحده، والرؤية عنده تكون بلا مقابلة.
8 - يقول بأن الله فاعل مختار على الحقيقة، وهو خالق كل شيء، والعبد مختار لما يفعله وهو فاعل كاسب، وبعد أن يذكر تولي الجبرية والقدرية يقول: "والعدل هو القول بتحقيق الأمرين"، ثم يذكر الفرق في أحوال العبد بين أفعاله الاضطرارية والاختيارية.
9 - يقسم الماتريدي قدرة العبد واستطاعته إلى قسمين: "أحدهما: سلامة الأسباب وصحة الآلات، وهي تتقدم الأفعال .. الثاني: معنى لا يقدر على تبين حده بشيء يصار إليه سوى أنه ليس إلا للفعل، لا يجوز وجوده بحال إلا ويقع به الفعل عندما يقع معه"، والقدرة الثانية هي التي لا تكون إلا مع الفعل -وهذا قول الأشعري- وقد رد الماتريدي على المعتزلة في قولهم: "إنها تكون قبل الفعل"، ومما سبق يتضح أن كسب الماتريدي يعطي العبد الاختيار، وهذا ما يخالف -قليلًا- كسب الأشعري، والماتريدي أيضًا يقول بأنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق.
10 - والماتريدي يميل إلى القول بالتحسين والتقبيح العقلي، كما يثبت والتعليل والحكمة في أفعال الله تعالى، وهذا الأمران يخالف فيهما الأشعري.
11 - والإيمان عند الماتريدي هو التصديق، ومحله القلب، ويستدل لذلك بدليل السمع والعقل، ويري التفريق بين التصديق والمعرفة، ويعقد لذلك مسألة مستقلة، وهو بهذا يرد على الجهمية القائلين بأن الإيمان هو المعرفة.
والماتريدي يرد على القائلين بأن الإيمان قول باللسان، كما يرد على الذين يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وعلى ضوء ذلك فالماتريدي يمنع دخول العمل في الإيمان.
12 - ويوافق الماتريدي أهل السنة في حكم مرتكب الكبيرة، ولذلك فهو يرد على المعتزلة والخوارج في ذلك، ويقرن ذلك بمسألة الشفاعة، وأنها رد عليهم.
13 - وفي موضوع "الإرجاء" المنسوب إلى الحنفية عقد الماتريدي له مسألة مستقلة، ذكر فيها ما ورد من الأقوال فيه -حيث إن كل طائفة تتهم الأخرى بالإرجاء- كما دافع عما نسب إلى القائلين بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان من أنهم مرجئة، ويقول: إن تهمة الإرجاء واقعة
الله تعالى ولم تجعل للخلق فيها حقيقة البتة، وأما على من يسميهم بالحشوية حين يستثنون في الإيمان، أما مسألة الفرق بين الإيمان والإسلام فيرجح أنهما بمعنى واحد.
هذه أهم أقوال وآراء الماتريدي، والتي وردت مفصلة في تفسيره وفي كتاب التوحيد، وبالمقارنة بين أقواله وأقوال أبي الحسن الشعري يتبين أنهما قد اتفقا في بعض المسائل الأصولية مثل إثبات بعض الصفات، ومنع حلول الحوادث، وصحة دليل حدوث الأجسام، والكسب، وغيرها، ومع ذلك فبينهما عدة فروق أهمها:
أ- أن الماتريدي قال: بأزلية صفة التكوين لله تعالى ولم يفرق بين صفات الذات والفعل.
ب- وإنه يقول: بأن موسى سمع الصوت المخلوق حين كلمه ربه تعالى.
جـ- وفي مسألة العلو والاستواء، فالماتريدي ينفي العلو ويؤول الاستواء أو يفوضه، بخلاف الأشعري الذي يثبت العلو والإستواء -وإن روي عنه في الإستواء معنى آخر.
د- قال الماتريدي بالتحسين والتقبيح العقلي، والأشعري قال بالشرعي فقط.
هـ- قول الماتريدي بالحكمة والتعليل، بخلاف الأشعري.
و- منع الماتريدي تكليف ما لا يطاق، بخلاف الأشعري الذي جوزه.
ز- وفي الكسب -مع قوله به كما يقول الأشعري- إلا أنه مال إلى إعطاء العبد حرية في الاختيار، ولذلك فقدرة العبد عنده مؤثرة بخلاف الأشعري.
ح- وفي الإيمان قال إنه التصديق وهذا ما قال به الأشعري، إلا انه خالفه في دخول الأعمال في الإيمان وجواز الاستثناء فيه، وهذان منعهما الماتريدي.
ط- أما رؤية الله فقد أثبتها الماتريدي سماعًا فقط، أما الأشعري فاستدل مع أدلة السمع بدليلين عقليين، أحدهما الوجود، والآخر أن الله يرى الأشياء.
ثانيا: مقارنة بين الأشعرية والماتريدية:
تكون على إثر الأشعري مذهب الأشعرية، وعلى إثر الماتريدي مذهب الماتريدية ولكل من المذهبين أعلامه ورجاله، وكتبه ومتونه العقدية، ومع غلبة المذهب الأشعري في العالم الإسلامي وانتشاره، إلا أن المذهب الماتريدي بقي متميزًا نوعًا ما، ولعل ارتباط كل واحد من المذهبين بمذهب فقهي مخالف للآخر كان له أثر في ذلك.
وليس المقصود هنا متابعة التطور الذي حدث لأحدهما أو كليهما، ولا تفصيل المقارنة بين المذهبين، ولكن يمكن الإشارة بإجمال إلى الملاحظات التالية:
1 - تبين أنه لم يكن هناك لقاء بين الأشعري والماتريدي، إذ لم يجمعهما مكان ولا حتى منطقة معينة، فالأشعري عاش ومات في العراق، والماتريدى عاش ومات في بلاد ما وراء النهر، كما لم يجمعهما شيخ أو شيوخ تتلمذوا على أيديهم، والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كان الأمر كذلك فيم يفسر التوافق بين الرجلين في المنهج والموقف من المعتزلة وممن يسمونهم بالمشبهة؟ أحد الباحثين أجاب بعد إيراد هذا التساؤل بقوله: "ويمكن تفسير وجوه الشبه بينهما في الآراء بأنه يرجع إلى تشابه منهج كل منهما إلى حد ما في التوسط بين العقل والنقل"، وهذا التفسير تحصيل حاصل، لأن السؤال يرد مرة أخرى: لماذا كان منهج كل منهما أدي إلى التوسط بين العقل والنقل؟ ، الحقيقة أنه ليست هناك إجابة واضحة لهذا التساؤل، وإن كان انتشار المذهب الكلابي في العراق والري وخراسان -كما في قصة ابن خزيمة مع الكلابية- ما يدفع إلى القول باحتمال أن يكون هذا المذهب الذي ظهر فيه تلامذة -تناءت بهم الديار- قد انتشر أيضًا في بلاد ما وراء النهر، خاصة وأن تلك المنطقة كانت كما يقول المقدسي تغص بمختلف الطوائف والفرق، ولذلك فمن المحتمل أن يكون الماتريدي أو أحد شيوخه قد تلقي هذا المذهب عن بعض أعلام أو اتباع الكلابية.
2 - تطور المذهب الأشعري -كما سيأتي- وكان تطوره بالقرب من مذهب المعتزلة أو بالالتصاق بالفلسفة أو التصوف، أما المذهب الماتريدي فلم يقع فيه تطور، بل بقيت أقوال الماتريدي -الذي لم يحدث له تطور كما حدث للأشعري- هي المعتمدة لدى متأخري المتريدية كأبي المعين النسفي، ونجم الدين أبي حفص النسفي، ونور الدين الصابوني، وابن الهمام، وغيرهم، فهؤلاء وإن كان قد يقع لبعضهم مخالفة لمذهب شيخهم، إلا أن الأمر لا يصل إلى مستوى التطور الذي حدث للمذهب الأشعري.
3 - اهتم العلماء ببيان الفروق بين المذهبين، وقسموا الفروق أحيانًا إلى لفظية ومعنوية.
4 - على الرغم من وجهود الفروق بين مذهبي الأشاعرة والماتريدية، وقسموا الفروق أحيانًا إلى لفظية ومعنوية.
4 - على الرغم من وجهود الفروق بين المذهبين إلا أنه قد وقع نوع امتزاج بينهما، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
أ- ما فعله ابن الهمام في كتابه المشهور "المسايرة" حيث اعتمد على كتاب الرسالة القدسية -وهي المسماة قواعد العقائد التي ألفها الغزالي لأهل القدس، ثم أدخلها ضمن إحياء علوم الدين- وكان هدف ابن الهمام أن يختصر كتاب الغزالي إلا أنه بعد أن بدأ بالكتابة رأي أن يزيد عليه زيادات مهمة، ولم يزل يزيد فيها -كما يقول- "حتى خرج عن القصد الأول، فلم يبق إلا كتابًا مستقلًا، غير أنه يسايره في تراجمه، وزدت عليها خاتمة ومقدمة"، ولذلك سمى كتابه بالمسايرة، فابن الهمام اعتمد على أحد كتب الأشاعرة، وهذا وحده كاف للتدليل على ما كان بين المذهبين من تقارب، لذلك فابن الهمام، وإن ذكر قول الأشعري -بناء على ما في كتاب الغزالي- إلا أنه أعقبه بذكر مذهب الماتريدي، انظر كأمثلة على ذلك مسألة سماع موسى لكلام الله وهل سمع الكلام النفسي أم يستحيل أن يسمع ما ليس بصوت، وفي مسألة صفات الأفعال لله، وصفة التكوين، والعجيب في هذه المسألة أن ابن الهمام ذكر قولي الماتريدية والأشعرية، ثم رجح قول الأشعرية معتمدًا على أن مذهب أبي حنفية وأصحابه الذين ذكر عقيدتهم الطحاوي يخالف ما ذهب إليه الماتريدي ومن جاء بعده، وقد تعقب ابن الهمام شارحو كتابه وضعفوا ما رجحه، ومن المسائل التي ذكر الخلاف فيها مسألة التحسين والتقبيح، وتكليف ما لا يطاق وغيرها.
ب- لما ألف النسفي -عمر بن محمد- متن العقيدة الذي سمي بالنسفية اعتنى بشرحها -من منطلق المذهب الأشعري- بعض الحنفية، ومنهم سعد الدين التفتازاني، في شرحه المشهور الذي اشتهر ووضعت له حواش عديدة، انظر كمثال على منهجه كلامه حول صفة التكوين.
جـ- ألف البرذوي كتابًا في أصول الدين، حاول فيه أن يجمع بين طريقتي الأشعرية والماتريدية.
د- ومن الأمثلة على تداخل المذهبين أن نور الدين الصابوني الماتريدي رجح -خلافًا لشيخ الماتريدية- أن دليل الرؤية الوجود، ومن المعلوم أن الماتريدي يحتج للرؤية بالسمع فقط، أما معاصره فخر الدين الرازي -الأشعري- فقد أورد عدة اعتراضات على دليل الأشاعرة في إثبات الرؤية -وهو دليل الوجود-، ثم في الأخير رجح مذهب الماتريدي ونص على ذلك، ذاكرًا اسم الماتريدي.
هذه لمحات في مذهب الماتريدي والماتريدية، وبها يتبين كيف دخل في مذهب الأشاعرة وامتزج به، وهذا ما يفسر إغفال كثير من العلماء -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية- في كتبهم وردودهم لذكرهم إلا في مسائل معينة اشتهروا بالخلاف فيها" أ. هـ.
• فائدة: قال صاحب كتاب (الماتريدية دراسة وتقويمًا) حول إغفال كتب الرجال والتراجم والطبقات لترجمة أبي منصور الماتريدي حيث قال (83): "ولعل هذا الإغفال أو الإهمال للماتريدي من قبل الماتريدية وغيرهم، يرجع في تصوري -والله أعلم بالصواب- للأسباب التالية:
1 - بعد الماتريدي عن مركز الخلافة، حيث يتوافد إليها أكثر العلماء من مختلف البقاع الإسلامية.
2 - عدم دعم الماتريدية في عصورها الأولى بقوة سياسية كما دعمت المعتزلة والأشعرية.
3 - عدم ارتحال الماتريدي إلى المراكز العلمية في العالم الإسلامي، كمكة والمدينة وبغداد ودمشق ... وغيرها، إذ أنه لو زار تلك البلاد والتقى بعلمائها وناظر فيها، لاشتهر وعرف وذكر في تواريخ تلك المدن.
4 - تأخر عهد تأليف الحنفية في طبقات علماء مذهبهم، إذ أن أول مؤلف ألف في طبقات الحنفية، هو (الجواهر المضية) لعبد القادر القرشي المتوفى عام 775 هـ.
وفاته: سنة (333 هـ) ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
من مصنفاته: "شرح الفقه الأكبر" المنسوب لأبي حنيفة، و"تأويلات أهل السنة". و"بيان وهم المعتزلة" وغير ذلك.





مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید