المنشورات

أبو حامد الغزالي

المفسر: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي (1) الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام.
ولد: سنة (450 هـ) خمسين وأربعمائة.
من مشايخه: أحمد الراذكاني، وأبو المعالي الجويني وغيرهما كثير.
من تلامذته: أبو بكر بن العربي وغيره.
كلام العلماء فيه:
• تاريخ الإسلام: "كان الإمام أبو المعالي مع علو درجته وفرط ذكائه، لا يطيب له تصديه للتصنيف، وإن كان في الظاهر مبتهجًا به".
وقال: "أخذ في مجاهدة النفس، وتغيير الأخلاق، وتهذيب الباطن، وانقلب شيطان الرعونة، وطلب الرئاسة والتخلق بالأخلاق الذميمة، إلى سكون النفس وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم، ، وتزيا بزي الصالحين".
ثم قال: "قال أبو بكر الطرطوشي: شحن - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلم كتابًا على بسطة الأرض أكثر كذبًا على رسول الله منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا وهم قوم يرون النبوة إكتسابًا. فليس نبيّ في زعمهم أكثر من شخص فاضل، تخلق بمحاسن الأخلاق، وجانب سفاسفها وساس نفسه، حتى ملك قيادها، فلا تغلبه شهواته، ولا يقهره سوء أخلاقه ثم ساس الخلق بتلك الأخلاق. وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق".
وقال: "قلت -أي الذهبي-: للغزالي غلط كثير، وتناقض في تواليفه ودخول في الفلسفة وشكوك، ومن تأمل كتبه العقلية رأى العجائب. وكان مزجي البضاعة من الآثار، على سعة علومه، وجلالة قدره وعظمته" أ. هـ.
•السير: "قلت -أي الذهبي-: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب (التهافت) وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظنًّا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب (رسائل إخوان الصفا) وهو داء عضال، وجرب مُردٍ، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف. فالحذر الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شُبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليدمن الإستغاثة بالله، وليتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين والله الموفق، فبحسن قصد العالم يُغفر له وينجو إن شاء الله.
وقال أبو عمرو بن الصلاح: فصل لبيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد: ففي تواليفه أشياء يرتضيها أهل مذهبه من الشذوذ، منها قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلًا. قال: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسًا" أ. هـ.
• الأعلام: "فيلسوف، متصوف، له نحو مئتي مصنف" أ. هـ.
• موقف ابن تيمية من الأشاعرة -حيث قسم صاحب الكتاب الكلام عن الغزالي إلى أربعة مباحث- فقال: "أولًا: يعتبر الغزالي أحد أعلام الأشاعرة الذين دافعوا عن المذهب الأشعري ضد مناوئيه من مختلف الطوائف، ولذلك سمي أحد أشهر كتبه الأشعرية بالإقتصاد في الإعتقاد ليكون مقتصدًا ووسطًا كما يقول بين الحشوية من جهة والمعتزلة والفلاسفة من جهة أخرى، والغزالي لم يأت بحديد فيما يتعلق بمذهب الأشاعرة، بل جاءت كتبه واستدلالاته ملخصة عمن سبقه من أعلام الأشاعرة مع صياغة جديدة وأسلوب سهل والملاحظ في مذهبه تركيزه على:
1 - قوله بصحة إيمان المقلد -خلافًا للمشهور من مذهب جمهور الأشاعرة-، بل يرى أن فئات من الناس آمنوا بالله وصدقوا برسله واعتقدوا الحق واشتغلوا بالعبادة أو الصناعة "فهؤلاء ينبغي أن يتركوا وما هم عليه، ولا تحرك عقائدهم بالاستحثاث على تعلم هذا العلم [أي علم الكلام بأدلته]، فإن صاحب الشرع صلوات الله عليه لم يطالب العرب في مخاطبته إياهم بأكثر من التصديق، ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهانيا، وفي الأربعين يقول بعد ذكره عشرة أصول على وفق مذهب الأشاعرة: "ووراء هذه العقيدة الظاهرة رتبتان: إحداهما، معرفة أدلة هذه العقيدة الظاهرة من غير خوض على أسرارها، والثانية، معرفة أسرارها، ولباب معانيها، وحقيقة ظواهرها، والرتبتان جميعًا ليستا واجبتين على جميع العوام، أعني أن نجاتهم في الآخرة غير موقوفة عليهما، ولا فوزهم موقوف عليهما"، وكتاب الأربعين من كتب الغزالي المتأخرة التي جمعت بين إيضاح المذهب الأشعري مع آرائه الأخيرة في مسائل التصوف والكشف والذوق.
2 - تأكيده لإنكار السببية، وهي مسألة مشهورة في المذهب الأشعري، وقد قال بها الأشاعرة وأكدوها.
ثم قال:
"3 - مجيئه بقانون التأويل الكلامي حين يتعارض -وبالأصح حين يتوهم التعارض- بين العقل والنقل، والغزالي كان كان مسبوقًا إلى هذا القانون، إلا أنه ألف فيه رسالة مستقلة كانت على إثر أسئلة سألها أحد تلاميذه، وفي هذه الرسالة ذكر فرق النّاس في هذه المسألة، ورجح قول الفرقة الخامسة التي قال عنها "هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول الجاعلة كل واحد منهما أصلًا مهمًا، المنكرة لتعارض العقل والشرع، وكونه حقًّا، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع إذ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق والكاذب، وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل، وهؤلاء هم الفرقة المحقة، وقد نهجوا منهجًا قويمًا .. "، وبعد أن يذكر صعوبة هذا المسلك أوصى بعدة وصايا منها: "الوصية الثانية أن لا يكذب برهان العقل أصلًا، فإن العقل لا يكذب، ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع، فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب، والشرع شاهد بالتفاصيل، والعقل مزكي الشرع"، وقد تأثر بهذا القانون جمهرة الأشاعرة بعد الغزالي، ومن أبرزهم تلميذه، أبو بكر بن العربي، والرازي، وغيرهم، وهذا القانون أصبح فيما بعد أحد ركائز العقيدة الأشعرية وأخطرها وأعظمها أثرًا، ولذلك أفرده شيخ الإسلام ابن تيمية بمؤلفه الكبير "درء تعارض العقل والنقل".
4 - ومن أهم سمات منهج الغزالي أنه حول المعركة -التي كانت تدور فيما سبق بين الأشاعرة والمعتزلة- إلى معركة بين الأشاعرة والفلاسفة، وكتاب تهافت الفلاسفة يعتبره الأشاعرة بدءًا من الغزالي نفسه أحد الكتب المؤيدة لمذهبهم، وقد ألفه الغزالي في المرحلة التي كان فيها أستاذ المدرسة النظامية -الأشعرية- دون منازع.
وفي المبحث الثاني قال: "ثانيًا: هناك مشكلة تتعلق بحقيقة مذهب الغزالي، هل هو المذهب الأشعري الذي تبناه ظاهرًا ودافع عنه كثيرًا، أم له مذهب آخر يذكره لخاصته وأومأ إليه في كثير من كتبه؟ ، يقول الغزالي في كتابه ميزان العمل الذي ألفه بعد معيار العلم، لأن السعادة عنده إنما تكون بالعلم والعمل -وميزان العمل من كتب الغزالي الصوفية- يقول في آخره: "لعلك تقول: كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية، وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد، فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقًّا فكيف يتصور هذا؟ كان كان بعضه حقًّا فما ذلك الحق؟ فيقال لك: إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط، إذ الناس فيه فريقان:
فريق يقول: المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب:
إحداها: ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات.
والأخرى: ما يسار به في التعليمات والإرشادات.
والثالثة: ما يعتقده الإنسان في نفسه مما انكشف له من النظريات".
ثم شرح هذه المراتب بقوله: "ولكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الإعتبار: فأما المذهب بالإعتبار الأول: هو نمط الآباء والأجداد، ومذهب المعلم، ومذهب البلد الذي فيه النشوء، وذلك يختلف بالبلاد والأقطار، ويختلف بالمعلمين، فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الخنفية، انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له، والذب دونه، والذم لما سواه ... المذهب الثاني: ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من جاء مستفيدًا مسترشدًا، وهذا لا يتعين على وجه واحد بل يختلف مجسب المسترشد، فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه ... المذهب الثالث: ما يعتقد الرجل سرًّا بينه وبين الله عزَّ وجلَّ لا يطلع عليه غير الله تعالى ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الإطلاع على ما اطلع، أو بلغ رتبة يقبل الإطلاع عليه ويفهمه"، ثم ذكر قول الفريق الثاني الذين يقولون المذهب واحد، ثم ذكر أن الأولين يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب لم يجز أن يذكروا إلا مذهبًا واحدًا.
إن هذا الكلام يمد في معرفة وتحليل ذلك التناقض العجيب في كتبه.
وفي المبحث الثالث قال: "ثالثًا: الشك عند الغزالي:
وقد احتلت هذه المسألة مكانًا بارزًا بالنسبة لدارسي الغزالي، بل وكثرت المقارنات بينه وبين ديكارت، صاحب الفلسفة المعروفة التي قال فيها: "أنا أفكر، إذن فأنا موجود"، بل أثبت أحد الباحثين أن ديكارت قد اطلع على كتاب الغزالي "المنقذ من الضلال" وأنه اقتبس منه فكرة الشك، والكلام حول شك الغزالي وكنهه وإلى أي مدى كان يطول، ولكن الثابت أن منهج الشك عند الغزالي تمثل في أمرين:
أحدهما: عملي، وهو ما عايشه وسطره بوضوح في كتابه المنقذ من الضلال، ويلاحظ هنا أن الغزالي يشرح ما جرى له، ولذلك سماه داء ومرضًا.
والثاني: شك منهجي، وهو الذي أشار إليه في بعض كتبه، ومن ذلك قوله: "ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعًا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمي والضلال، نعوذ بالله من ذلك"، وهذا الشك هو الذي يذكر في أول واجب على المكلف، هل هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك، وإذا كان الأول والثاني قد أخذ به بعض الأشاعرة فإن الثالث -وهو الشك- إنما يؤثر القول به عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي".
وفي المبحث الرابع قال: "رابعًا: تصوف الغزالي وفلسفته: بقدر اشتهار الغزالي بأشعريته، اشتهر بتصوفه، ولذلك فهو يمثل مرحلة خطيرة من مراحل امتزاج التصوف بالمذهب الأشعري حتى كاد أن يكون جزءًا منه، ولكن ما نوعية التصوف الذي اعتنقه الغزالي بقوة حتى قال فيه في المنقذ -بعد شرح مطول لمحنته ورحلته وعزلته-: "ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به: أني علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطريق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئًا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلًا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مكشاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به" ثم يشرح ويوضح فيقول: "وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة.
طهارتها -وهي أول شروطها- تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟ هذا آخرها، بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الإختيار والكسب من أوائلها، وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك إلا كالدهليز للسالك إليه" -ثم يوضح أكثر فيقول: "ومن أول الطريقة تبتدي المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتًا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الإحتراز منه ... ؟ ، ما نوع تصوف الغزالي الذي يقول فيه هذا الكلام -خاصة المقطع الأخير منه-؟ .
لقد كان التصوف قبله متمثلًا بتصوف المحاسبي، ثم القشيري، وقد سبق حقيقة تصوفهما، وما يحمله من بدع مخالفة للسنة، فهل كان تصوف الغزالي من هذا النوع، أم كان تصوفًا من نوع آخر.
إن هناك من يدافع عن الغزالي، ويرى أن تصوفه سني، وأنه هاجم الفلاسفة والمتكلمين لنصرة طريق الصوفية، ولكن المطلع على كتبه -وما ألفه منها للخاصة- كمشكاة الأنوار، والمعارف العقلية، وميزان العمل، ومعارج القدس، وروضة الطالبين، والمقصد الأسنى، وجواهر القرآن، والمضنون به على غير أهله، يرى شيئًا آخر غير التصوف المعروف.
إن مفتاح صرفة شخصية الغزالي أمران:
أولهما: ما سبق نقله عنه من أن لكل رجل كامل ثلاث عقائد، إحداها ما يتظاهر به أمام العوام ويتعصب، والثانية: ما يسار به في التعليم والإرشاد -وهو يحتلف بحسب حال المسترشد الطالب-، والثالثة: ما يعتقده الإنسان في نفسه ولا يطلع عليه إلا من هو شريكه في المعرفة، إذن الغزالي -حتما- يخفي جوانب خاصة وسرية من عقيدته.
والثاني: جمع أقواله ولمحاته -التي يشير دائمًا إلى سريتها والضن بها- ثم مقارنتها بأقوال من سبقه من الفلاسفة -المائلين إلى الاشراق والتصوف- كابن سينا وغيره، وقد تنبه إلي هذا المنهج بعض الباحثين، ونحن هنا نذكر نماذج فقط من أقواله التي تدل على أن تصوفه كان تصوفًا فلسفيًا إشراقيًا، وإن هجومه على الفلاسفة في التهافت لم يكن إلا بمنهج النوع الأول من العقيدة -لكل إنسان- وهي العقيدة التي يتعصب لها ويذب عنها:
1 - يقول الغزالي في كتابه: إحياء علوم الدين عن علم المكاشفة: "هو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها، فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذاك، حتى تحصل المعرفة الحقيقة بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي، ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض .. الخ"، ثم يقول عن هذه الكشوفات التي تحصل: "وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب، ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه، على سبيل المذاكرة، وبطريق الإسرار وهذا هو العلم الخفي .. "، إن هذا الكلام الخطير يقوله الغزالي في أهم وأشهر كتاب من كتبه، وقد ألفه في أواخر عمره بعد عزلته ورجوعه إلى بغداد، ومما يلاحظ أن لفتات كثيرة تشبه هذا الكلام جاءت متفرقة في هذا الكتاب الكبير".
ثم يقول: "ومن الأمور الخطيرة في مذهب الغزالي ميله إلى تأويل عذاب القبر، وعذاب النار ونعيم الجنة، بتأويلات قرمطية باطنية، حتى ذكر في المضنون به على غير أهله: أن نصوص النعيم "ما خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة"، ويقول: "والرحمة الإلهية ألقت بواسطة النبوة إلى كافة الخلق القدر الذي احتملته أفهامهم"، ولا يقول قائل: إن هذا كتاب المضنون -وهو مشكوك في صحة نسبته إلى الغزالي- لأن الغزالي صرح بشيء من ذلك في كتابه الأربعين -الذي لا يشك أحد في نسبته إليه- فقال: "أما قولك: إن المشهور من عذاب القبر التألم بالنيران والعقارب والحيات، فهذا صحيح، وهو كذلك، ولكني أراك عاجزًا عن فهمه ودرك سره وحقيقته، إلا أني أنبهك على أنموذج منه تشويقًا لك إلى معرفة الحقائق، والتشمر للإستعداد لأمر الآخرة، فإنه نبأ عظيم أنتم عنه معرضون"، ثم يضرب مثالا، ويؤوله ثم يقول: "لعلك تقول: قد أبدعت قولا مخالفًا للمشهور، منكرًا عند الجمهور، إن زعمت أن أنواع عذاب الآخرة يدرك بنور البصيرة والمشاهدة إدراكًا مجاوزًا حد تقليد الشرائع، فهل يمكنك -إن كان كذلك- حصر أصناف العذاب وتفاصيله؟ فاعلم أن مخالفتي للجمهور لا أنكره، وكيف تنكر مخالفة المسافر للجمهور، فإن الجمهور يستقرون في البلد الذي هو مسقط رؤوسهم، ومحل ولادتهم، وهو المنزل الأول من منازل وجودهم وإنما يسافر منهم الأحاد"، ثم يذكر كيف يترقى الإنسان حتى "يفتح له باب الملكوت فيشاهد الأرواح المجردة عن كسوة التلبيس، وغشاوة الأشكال، وهذا العالم لا نهاية له"، ولا شك أن مذهب الغزالي الفلسفي الصوفي قاده إلى مثل هذه التأويلات الخطيرة -نعوذ بالله من الخذلان-.
ثم يختم كلامه عن الغزالي بتلخيص تأثيره فيمن بعده فيقول: "هذا هو أبو حامد الغزالي -من خلال لمحات سريعة عن منهجه وعقيدته الذي تأثر به من جاء بعده، ويمكن تلخيص هذا التأثر بما يلي:
1 - التاكيد على إنكار السببية، فقد تأثر به من جاء بعده، دون الإنتباه إلى تحفظاته التي أوردها.

2 - تكريس قانون التأويل الكلامي في المذهب الأشعري، وقد جاءت صياغة هذا القانون بشكل مركز على يد الرازي.
3 - تحويل المعركة من معركة مع المعتزلة -والفلاسفة من باب أولى- إلى معركة مع الفلاسفة، وهذا ما نشاهده لدى كثير من الأشاعرة لكنه هجوم من منطلق صوفي.
4 - إنه لا مانع أن يحمل الإنسان أكثر من عقيدة -حسب الأحوال- وهذا ما نشاهد نموذجًا له عند الرازي، الذي ظهر في بعض كتبه فيلسوفًا وبعضها أشعريًّا.
5 - نقله التصوف من التصوف المعروف قبله -على ما فيه من بدع تصغر أو تكبر- إلى تصوف فلسفي إشراقي، وإذا كان هذا المذهب جاء عند الغزالي على شكل عقيدة مخفية لا يصرح بها للعوام، فإن الأشاعرة من بعده صرحوا بتبنيهم للفلسفة -أحيانًا- أو لبعض آراء الفلاسفة.
6 - كما أن المنطق الأرسطي -بقي بعد الغزالي- على ما صرح به الغزالي من أنه آلة، وأنه لا علاقة له بالعقيدة.
7 - وأخيرًا بقي الغزالي -في كتابه الإحياء خاصة- مرجعًا يرجع إليه فئات كثيرة من الناس على مختلف مشاربهم وعقائدهم، لأن كلا منهم يجد في هذا الكتاب ما يوافق هواه" أ. هـ.
وفاته: سنة (505 هـ) خمس وخمسائة.
من مصنفاته: "إحياء علوم الدين"، و"تهافت الفلاسفة"، و"الوقف والإبتد" في التفسير، و"جواهر القرآن".




مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید