المنشورات

محمّد رشيد رضا

المفسر: محمّد رشيد بن علي رضا بن محمّد شمس الدين بن محمّد، بهاء الدين بن ملّا علي خليفة القلموشي البغدادي الأصل، الحسيني النسب.
ولد: سنة (1282 هـ) إثنتين وثمانين ومائتين وألف.
من مشايخه: محمّد عبده، وحسين الجسر الأزهري، ومحمود نشابة وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
* الأعلام: "صاحب مجلة (المنار) وأحد رجال الإصلاح الإسلامي من الكتاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير" أ. هـ.
* معجم المؤلفين: "صحب عبد الغني الرافعي، فاستفاد منه في الأدب والتصوف ودخل الطريقة النقشبندية، وحبب إليه التصوف لإكثاره من مطالعة إحياء علوم الدين للغزالي، وغدا يجاهد نفسه على طريقة الصوفية بترك أطيب الطعام والتزام التقشف، ودخل فيما دخل فيه الصوفية فمارس رؤية الأرواح وإستحضارها والمكاشفات والمنامات والكرامات، ولما ارتوى من كل ذلك في بلده رأى أنه مستعد للاستزادة من العلم والإختيار مما لا يجدها في وطنه فهاجر إلى مصر سنة (1315 هـ) وفيها لحق بمحمد عبده، وأنشأ مجلة المنار، جعل موضوعها الأول الإصلاح الإسلامي ونزع إلى مذهب السلف، وفي هذا الدور كان استفاد من كتبهم ونقل عنهم واهتدى بآرائهم كابن تيمية وتلميذه ابن القيم .. وكان له أنصار وخصوم، وأكبر خصومه مشايخ الأزهر" أ. هـ.
* قلت: يعتبر محمد رشيد رضا من أعلام المدرسة الإصلاحية، وقد كان لهذه المدرسة منهج خاص في التفسير تكلم عنه صاحب كتاب "العصرانيون" فقال:
"يحدد رجال المدرسة أن المطلوب من التفسير هو: "فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا، وحياتهم الآخرة .. وما وراء ذلك من المباحث تابع له أو وسيلة لتحصيله".
ثم يقول: "والحقيقة إن هؤلاء قد يتفقون مع منهج السلف في بعض أسس منهجهم، وقد يخالفونه، كما أنهم قد يتفقون معهم في بعضها، من ناحية تقرير الأساس والتسليم به، لكنهم يتطرفون في تطبيقه، ويتجاوزون حدود السلف فيه مما جعلهم يخلطون الصحيح بالسقيم".
ثم يشرع في بيان أبرز أصولهم في التفسير وهي:
1 - القرآن هو المصدر الأول للتشريع:
ماذا يعني ذلك في مفهومهم؟
هذا الأصل حق إلا أنهم يقصدون من ذلك نبذ السنّة ومن ثَم فصلها عن الشريعة، وقد تسرب هذا إليهم من بعض الفرق كالشيعة والمعتزلة والخوارج.
واستغل المبشرون والمستشرقون هذا الأمر أبشع إستغلال، وربوا عليه تلاميذهم ...
إن الإصلاحيين يأخذون بالقرآن، أما إذا تعارض مع الحديث حسب معطيات عقولهم فإنه يرد، ويرد عمومًا إذا تعارض مع عقولهم، من ذلك حديث سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يد يهودي، ولو كان الحديث في صحيح البخاري.
2 - المنهج العقلي في التفسير:
يضخم الإصلاحيون دور العقل شأن المعتزلة، ويتخذونه حكمًا ودليلًا في أمور الدين كلها، ومنها علم التفسير، وقد وجدوا بعض التفاسير السابقة مليئًا بما يناقضه العقل من الأقوال فنقدوه وأبطلوه، ووجدوا في معظمها إيمانًا وتسليمًا بما لا يدركه العقل فأوّلوه وحرّفوه، وكان لهم صولات وجولات، كان الصواب حليفهم حينًا، وكان التحريف سبيلهم أحيانًا كثيرة.
ومن نماذج تفسيرهم وتأويلهم: أن الشيخ محمّد رشيد رضا يفسر (الإمداد) في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] بقوله: "إن هذا الإمداد أمر روحاني، يؤثر في القلوب فيزيد في قوتها المعنوية .. " وقال: "وظاهر نص القرآن أنه إنزال الملائكة، وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية، وأنهم لم يكونوا محاربين" وقال: "وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر، وببعض الروايات الغريبة التي يردها العقل، ولا يثبتها ما له قيمة من النقل". (1)
3 - التقليل من شأن التفسير بالمأثور:
ويشمل هذا النوع من التفسير: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسنة النبوية، وبأقوال الصحابة والتابعين.
وقد أشاد السلف بهذا النوع من التفسير، فأفرد المحدّثون منهم، كالبخاري ومسلم وغيرهما أبوابًا للتفسير، جمعوا فيها ما صحّ عندهم من التفسير المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما المدرسة الإصلاحية، فهم يقبلون المنهج السابق، ولكن بغير الحماس الذي يظهرونه لقبول المنهج العقلي.
لهذا فهم حين يشكل عليهم حديث، لا يترددون في تأويله، فإن قبل التأويل، وإلا أبطلوه وكذبوه وطعنوا في رواته، ولو كان في الصحيحين.
ويوضح هذا المنهج الشيخ محمّد رشيد رضا بقوله: "وأما الروايات المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعلماء التابعين في التفسير، فمنها ما هو ضروري أيضًا، لأن ما صحّ من المرفوع لا يقدم عليه شيء، ويليه ما صح من علماء الصحابة، مما يتعلق بالمعاني اللغوية، أو عمل عصرهم، والصحيح من هذا وذاك قيل، وأكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس، ومسلمة أهل الكتاب". (2)
والحق أن السيد محمّد رشيد رضا، لم يستمر في سلوكه هذا المنهج، فقد خالفه بعد موت أستاذه إذ يقول: "هذا وإني لما استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه رحمه الله تعالى؛ بالتوسع فيما يتعلق بالآية، من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيرًا لها أو في حكمها" (3).
4 - التحذير من التفسير بالإسرائيليات:
المقصود بالإسرائيليات: الروايات المنسوبة إلى بني إسرائيل ومنها أيضًا ما نسب إلى النصارى وأهل الكتاب عامة، وللسلف منها موقف يتلخص في:
أ - أن ما وافق شريعتنا تجوز روايته للاستشهاد، لا للاعتقاد.
ب - أن ما خالف شريعتنا لا تصح روايته.
جـ - أن ما ليس في شريعتنا من الأمور التي لا توافقها ولا تخالفها، فلا بأس من حكايتها من غير تصديق ولا تكذيب.
إلا أن أصحاب المدرسة العقلية، شنوا حملة شعواء على الإسرائيليات وحذروا من الخوض فيها، وذموا على المفسرين السابقين تناولهم لها.
وكعادتهم في مجاوزة حد الاعتدال المحمود إلى التطرف والإسراف، فإنهم تطرفوا في التحذير من هذه الإسرائيليات، وأدى بهم هذا التطرف إلى تكذيب بعضها، مع موافقتها لما صح من شريعتنا، بل ردوا بعض الأحاديث التي توافقها، وإن صحت، حتى ولو رواها البخاري ومسلم.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل تناولوا بعض الصحابة بالتجريح، وشككوا في إيمان بعض التابعين الذين شهد لهم السلف الصالح بالعدالة، وروى لهم البخاري ومسلم، ونسبوا مَنْ وثقهم من علماء الحديث إلى الغفلة. (1)
ومن أشد رجال المدرسة العقلية حربًا للإسرائيليات ورفضًا لها، هو الأستاذ محمّد رشيد رضا، حيث يقول:
"وأكثر التفسير المأثور، قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب". (2)
وقد نسب أباطيل الروايات الإسرائيلية إلى "مقاصد كعب الأحبار وأمثاله"، وقال عن كعب أخيرًا: "كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه، بل لا أثق بإيمانه" (3).
وقال عن كعب ووهب بن منبه: "إن بطلي الإسرائيليات وينبوعي الخرافات، كعب الأحبار، ووهب بن منبه". (4)
والحقيقة أن هذا تطاول، لا يعتمد إلا على الهوى، والبعد عن التقيد بالسنة، وآراء الصحابة ومن تبعهم بإحسان .. "يقول رشيد رضا ما سبق بيانه، رغم أن أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما من الصحابة، قد رووا عن كعب، فهل يرى هؤلاء أن الصحابة رضي الله عنهم، يروون عن كذاب وضّاع؟ ألا نقبل نقد هذا بتزكية صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم؟
5 - إنكار التقليد والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد:
من خلال ما تقدم تبيّن لنا أن الشيخ محمّد عبده وصحبه، كانوا يعرضون عن الأدلة والروايات الصحيحة، ويتمسكون بالروايات الضعيفة، أو الموضوعة إذا وافقت هواهم، وهذا هو أسلوب المستشرقين.
ثم تراهم بعد ذلك ينكرون التقليد في مجالات الفقه - خاصة - ويزعمون لأنفسهم حقًّا في الاجتهاد، ويخالفون فيه النصوص القطعية الشرعية -كما سنرى - محاولة فصل الدين عن الحياة. ولا خلاف بين العلماء يذكر، في النهي عن التقليد في جانب العقائد وبيقى أمر التقليد في الأحكام الشرعية الفقهية.
وقد أباحوا الربا: ففي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].
"قال السيد رشيد رضا: إن المحرم هو ما كان أضعافًا مضاعفة، وأن المراد بالربا فيها، ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزولها، لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة ربا" (5).
وهذا استجابة منه لدعوة أستاذه الذي دعا إلى إباحة الربا حفاظًا على اقتصاد البلاد حيث يقول: "إن أهل بخارى جوزوا الربا لضرورة الوقت عندهم، والمصريون قد ابتلوا بهذا فشدد الفقهاء على أغنياء البلاد، فصاروا يرون أن الدين ناقص، فاضطر الناس إلى الاستدانة من الأجانب بأرباح فاحشة استنزفت ثروة البلاد.
6 - موقفهم من المعجزات وأخبار الغيب:
وقف الإصلاحيون من أخبار الغيب موقفًا متناقضًا غريبًا، إذ سلطوا على آيات القرآن وأخبار السنة الصحيحة التأويل أو الإنكار، إرضاءً لترهات عقولهم، ودعاوى الإفرنج وآراء المستشرقين.
أما المعجزات: فهم لا ينكرون وقوعها، وإنما ينكرون حجيتها ودلالتها على الرسالة .. لأنها لا تصلح لذلك - برأيهم - ويرى السيد رشيد رضا: أنه لولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام، لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر واهتداؤهم به أسرع وأعم، لأن أساسه قد بني على العقل والعلم وموافقة الفطرة البشرية" (1).
أحرار الإفرنج الذين بني دينهم المحرف على التثليث وخرافات لا يرضى بها أطفال المسلمين، يخشى السيد رضا من عدم اقتناعهم بالإسلام لمجرد نقل القرآن لبعض معجزات موسى وعيسى عليهما السلام .. إنه لأمر عجاب!
أما معجزات محمّد - صلى الله عليه وسلم -: فلهم فيها رأي آخر أشد خطرًا مما سبق إذ أنكروا معجزاته كلها، سوى القرآن الكريم، وجردوا نبوته من أي معجزة أخرى، وسلكوا في ذلك سبلًا، إما بإنكار صحتها، وإما بتفسيرها بأمر لا تكون به معجزة.
وقد أرجع الدكتور رمزي نعناعة هذا السلوك من السيد رشيد رضا ورجال المدرسة العقلية إلى المبالغة في تحكيم العقل. يقول:
"ولا أدري كيف خفي عليه -وهو المدافع عن الإسلام- أنه يوجد في هذا الزمان نوع من الإلحاد الخفي المآل، وهو تأويل كل آية أو حديث صحيح يدل على معجزة رسول من الرسل، حتى يكون مفادها أمرًا غير خارق للعادة، وهذا النوع أخطر أنواع الإلحاد لأنه سبيل إلى إنكار الأديان السماوية، وإلى هدمها من أساس، لأن أساس إثباتها المعجزات التي أجراها الله على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام".
لقد ردوا كثيرًا من الأحاديث الصحيحة، لتساير أهواءهم ونظرياتهم من ذلك: حادثة انشقاق القمر رغم ورودها في البخاري ومسلم.
"عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إشهدوا، وفي رواية: "بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فلقة وراء الجبل وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إشهدوا".
فقد شكك السيد رشيد رضا في تواتر الحديث ثم أورد الشبهات العقلية والعلمية على تلك المعجزة، وقد أوّل الآية الكريمة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي طلع وانتشر نوره ..
أما الجن: فيرون أنه قد يكون نوعًا من الميكروبات الخفية. يقول رشيد رضا: "وقد قلنا في المنار غير مرة إنه يصح أن يقال إن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر. بواسطة النظارات المكبرة، وتسمى "الميكروبات"، يصح أن تكون نوعًا من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن" (1). يشير إلى حديث أبي موسى: "الطاعون وخز أعدائكم من الجنّ، وهو لكم شهادة" (2).
ومن ذلك تأويله للحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. وجاء فيه: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" يقول فيه ولا شك أن الجراثيم تلك تجري في خلايا جسم الإنسان وفي دمه، حيث تنقل الأمراض، وحيث تسري في البدن، مع أن المراد به في الحديث وسوسة الشيطان في صدر بني آدم ولكن لفظه عام.
ومن تأويلاتهم المرفوضة في أمر الجن ما زعموه في أمر رؤيتهم وحملهم، أنها من قبل التخييل والوهم، وأولوا من أجلها الأحاديث الصحيحة" (3).
قلت: تم الكلام عن منهج المدرسة الإصلاحية في التفسير، نقلناه عن كتاب "العصرانيون" بتصرف.
أما عن موقف هذه المدرسة من السنة النبوية فننقل هنا ما يتعلق بالشيخ محمّد رشيد رضا فقد قال -أي صاحب الكتاب- في أحاديث الآحاد التي ردّها الإصلاحيون، لأنها تفيد ظنًّا، ولا مجال للظن في أمور العقائد:
"وأكد هذا المنهج السيد محمّد رشيد رضا بقوله: "أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها المرء مؤمنًا .. لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد .. ".
أما عن تأثر الإصلاحيين بالمستشرقين في إثارة الشبه حول السنة، فقد قال صاحب كتاب "العصرانيون":
"وقد تأثر الإصلاحيون بشبه المستشرقين، وآراء المعتزلة، وكانوا جسرًا يسير فوقه العصرانيون في إثارة الشبه نفسها حول السنة النبوية".
ثم قال: "وقد شككوا في بعض ما في الصحيحين:
قال الشيخ محمّد رشيد رضا: "ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى، لا يسهل على أحد إثباتها، ولكنه لا يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر، قد يصدق عليه بعض ما عدوه من علامات الوضع، وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز ليست من أصول الدين ولا فروعه .. فإذا تأملتم هذا وذاك، علمتم أنه ليست من أصول الإيمان، ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه .. فالعلماء الذين أنكروا صحة بعض نلك الأحاديث، لم ينكروها إلا بأدلة قامت عندهم، قد يكون بعضها صوابًا، وبعضها خطأ، ولا يعد أحدهم طاعنًا في دين الإسلام".
وإذا كانت دعوة السيد رشيد رضا مغلفة، فقد جاء من أنكر كثيرًا مما في الصحيحين من أتباع هذه المدرسة، كأحمد أمين، ومحمود أبي رية.
ولرد هذه الضلالة ننقل بعض أقوال العلماء .. قال الإمام النووي رحمه الله: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة".
وقال ابن تيمية رحمه الله: "فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن".
وقال الدهلوي رحمه الله: "أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون من أمرهما فهو مبتدع غير سبيل المؤمنين".
أما عن التشكيك في تدوين الحديث النبوي، فقد قال:
"زعم هؤلاء جريًا وراء ترهات المستشرقين أن الحديث لم يكتب في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يدعو إلى التلاعب والفساد، ما قد حصل. ولذا طرأ على السنة من التبديل والزيادة، كما طرأ على أهل الكتاب لعدم كتابتها في عهده، وعدم حصر الصحابة لها في كتاب معين، وعدم تبليغها للناس بالتواتر، وعدم حفظها لهم جيدًا في صدورهم.
قال الشيخ محمّد أبو زهو: "فهذه الدعوى من الشيخ - يقصد محمّد رشيد رضا - عفا الله عنه، لا أساس لها، بل تخالف نصوص القرآن الكريم وتتعارض مع ما تواتر من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمين، ولا تتفق وما أجمع عليه المسلمون في كافة الأزمان من عهد النبي إلى اليوم".
وعن تقسيمهم السنة إلى عملية وغير عملية فيقول:
"لا يلتزم الإصلاحيون إلا بالسنّة العملية دون القولية.
قال الشيخ محمّد رشيد رضا: "إن سنته التي يجب أن تكون أصل القدوة هي ما كان عليه هو وخاصة أصحابه عملًا وسيرة، فلا تتوقف على الأحاديث القولية" وقال: "فالعمدة في الدين هو القرآن، وسنة الرسول المتواترة، وهي السنة العملية كصفة الصلاة، والمناسك مثلًا، وبعض الأحاديث القولية التي أخذ بها جمهور السلف، وما عدا هذا من أحاديث الآحاد التي هي غير قطعية الرواية، أو غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد".
ثم يرد على قول محمّد رشيد رضا فيقول: "هذا وإن السنة تشمل أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته.
"وهذا الذي عليه أهل العلم قديمًا وحديثًا، كما تطلق على الأحاديث المتواترة والآحاد، والقول بأن السنة هي السنة العملية المتواترة فقط، قول لا صحة له، بل هو اصطلاح حادث لا يخفى بطلانه" أ. هـ.
• المفسرون بين التأويل والإثبات:
"الشيخ محمّد رشيد رضا من المدرسة التي تزعمت الإصلاح وهو أحد رجالاتها الذين كان لهم الباع الطويل في خدمة منهجها، وقد ذكره أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح.
وإن كان بعض الناس يرى أن أصحاب هذه المدرسة كان لهم اتصال بالتنظيم الماسوني، فالله أعلم. هل هي دعاية من المغرضين ومن الحاقدين أو هي شيء اقتضته الضرورة أو هي شيء سابق لم يستطع التخلص منه، كل هذه الأسئلة ترد، والله أعلم بالجواب إن كانت الدعوى صحيحة.
والذي يهمنا من شخصية الشيخ محمّد رشيد رضا هو ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، أما ما وقع فيه من انحرافات في العقيدة عمومًا تبعًا لشيخه في ذلك، كإنكار نزول المسيح، وخروج الدجال، ومعجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن والجن، وقتال الملائكة يوم بدر فهذا شيء مسجل في كتاب "المنار".
فالشيخ رشيد رضا اتصل بمحمد عبده، واقتنع بشخصيته ودعوته وجعله مثالًا يقتدى به وجعل فكره منبعًا لثقافته، لكنه استطاع التخلص مما كان عليه شيخه من العقيدة الأشعرية، فنراه كثيرًا ما يرد عليه، وللشيخ محمّد عبده رسالة سماها بالتوحيد من قرأها عرف عقيدته وتأثره بالعقيدة الأشعرية واقتناعه بها، وأظهر ذلك في تفسير آيات الصفات كما يرى ذلك فيما أثبتناه في هذا البحث المبارك.
أما الشيخ رشيد رضا فقد أظهر مذهبًا سلفيًّا جيدًا فيما جمعه في تفسير المنار وقد أثبت في معظم الصفات مذهب السلف الصالح ودافع عنه وإن كان يقع في التأويل في بعض الصفات كتأويل صفة الإتيان والمجيء وكما وقع له الخلط في صفة اليد، فهو يعتبر من الذين غلبت عليهم الصبغة السلفية، ومدحه للإمام القاسمي: يدل على إعجابه بالمذهب السلفي الذي نصره الإمام القاسمي.
صفة الرحمة:
قال في تفسير البسملة:
ما نقلناه عن شيخنا في معنى الرحمة (وهذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معًا بالمطابقة، وعلى الذات وحدها أو الصفة بالتضمن، ولكل منها لوازم تدل عليها بالالتزام كدلالة الرحمن على الإحسان والإنعام ودلالة الحكيم على الإتقان والنظام، ودلالة الرب على البعث والجزاء لأن الرب الكامل لا يترك مربوبيه سدى. ومن عرف الأسماء الحسنى والصفات العليا عرف أن اسم الجلالة الأعظم (الله) يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية فدلّ هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال وتنزهه عن جميع النقائص وسبحان الله والحمد لله والله أكبر). (1)
تبع فيه متكلمي الأشاعرة والمعتزلة ومفسريهم كالزمخشري والبيضاوي ذهولًا ومحصلة أن الرحمة ليست من صفات الذات أو صفات المعاني القائمة بذاته تعالى لاستحالة معناها عليه فيجب تأويلها بلازمها وهو الإحسان فتكون من صفات الأفعال كالخالق والرازق، وقال بعضهم: يمكن تأويلها بإرادة الإحسان فترجع إلى صفة الإرادة فتكون صفة مستقلة، وهذا القول من فلسفة المتكلمين الباطلة المخالفة لهدي السلف الصالح.
والتحقيق أن صفة الرحمة كصفة العلم والإرادة والقدرة وسائر ما يسميه الأشاعرة صفات المعاني ويقولون إنها صفات قائمة بذاته تعالى خلافًا للمعتزلة فإن معاني هذه الصفات كلها عسب مدلولها اللغوي واستعمالها في البشر محال على الله تعالى: إذ العلم بحسب مدلوله اللغوي، هو سورة المعلومات في الذهن التي استفادها من إدراك الحواس أو من الفكر وهي بهذا المعنى محال على الله تعالى فإن علمه تعالى قديم يقدمه غير عرض منتزع من صور المعلومات وكذلك يقال في سمعه تعالى وبصره، وقد عدّوهما من صفات المعاني القائمة بنفسه والرحمة مثلها في هذا.
فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات خلقه الثابتة عقلًا ونقلًا بقوله عزَّ وجلَّ: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}.
فنقول: إن لله علمًا حقيقيًّا هو وصف له ولكنه لا يشبه علمنا وإن له سمعًا حقيقيًّا هو وصف له لا يشبه سمعنا وإن له رحمة هي صفة لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال النفس وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى، فنجمع بذلك بين النقل والعقل، وأما التحكم بتأويل بعض الصفات وجعل إطلاقها من مجاز المرسل أو الاستعارة التمثيلية، كما قالوا في الرحمة والغضب وأمثالها دون العلم والسمع والبصر وأمثالها فهو تحكم في صفات الله وإلحاد فيها فإما أن تجعل كلها من باب الحقيقة مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه هذه الحقيقة والاكتفاء بالإيمان بمعنى الصفة العام مع التنزيه عن التشبيه وإما أن تجعل كلها من باب المجاز اللغوي باعتار أن واضع اللغة وضع هذه الألفاظ لصفات المخلوقين فاستعملها الشرع في الصفات الإلهية المناسبة لها مع العلم بعدم شبهها بها من باب التجوز. (1)
صفة الاستهزاء:
قال عند قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
أصل الاستهزاء الإستخفاف وعدم العناية بالشيء في النفس وإن أظهر المستخف الاستحسان والرضا تهكمًا، وهذا المعنى محال على الله تعالى والمحال بذاته يصح إطلاق لازمه، والمستهزئ بإنسان في نحو مدح لعلمه واستحسان لعلمه مع اعتقاد قبحه غير مبال به ولا معتنى بعلمه ولا بعمله حيث لم يرجعه عنه ولم يكرهه عليه ويلزمه استرسال المستهزئ في عمله القبيح.
فمعنى {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أنه يمهلهم فتطول عليهم نعمته وتبطأ عنهم نقمته ثم سقطوا من أقدارهم ويستدرجهم بما كانوا يعملون. إلى أن قال: وأشهر الأقوال أن معناه يجازيهم بالعقاب على استهزائهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} إلى قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}.
وقيل: إن استهزاءه تعالى بهم إجراؤه أحكام المسلمين عليهم في الدنيا كما مرّ في خداعه لهم (2).
التعليق:
والصواب إثبات صفة المكر والاستهزاء والخداع لله تعالى على ما يليق به على جهة العدل، فهو تعالى أفعاله كلها عدل ولا يشتق له من هذه الصفات إسم فلا يقال: مستهزئ وماكر، ومخادع، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
صفه الاستواء:
ذهب الشيخ رشيد رضا في تفسيره عند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} مذهب السلف الصالح في صفة الاستواء فقال ما لفظه:
لم يشتبه أحد من الصحابة في معنى استواء الرب تعالى على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق إذ كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له، وانفراده هو بتدبيره وأن الإيمان بذلك لا يتوقف على معرفة كنه ذلك التدبير وصفته، وكيف يكون بل لا يتوقف على وجود عرش، ولكن ورد في الكتاب والسنة أن لله عرشًا خلقه قبل خلق السماوات والأرض وأن له حملة من الملائكة فهو كما تدل اللغة مركز تدبير العالم كله، قال تعالى في سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ولكن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل كانت مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشيه الخالق بالمخلوق كيف وأن بعض القرائن الضعيفة لفظية أو معنوية تمنع في لغتهم حمل اللفظ على معناه البشري فكيف إذا كان لا يعقل. فكيف والاستواء على الشيء مستعمل في البشر استعمالًا مجازيًا وكنائيًا كما تقدم والقاعدة التي كانوا عليها في كل ما أسنده الرب تعالى إلى نفسه من الصفات والأفعال التي وردت اللغة في استعمالها في الخلق أن يؤمنوا بما تدل عليه من معنى الكمال والتصوف مع التنزيه عن تشبيه الرب بخلقه فيقولون أنه اتصف بالرحمة والمحبة واستوى على عرشه بالمعنى الذي يليق به لا بمعنى الانفعال الحادث الذي نجده للحب والرحمة في أنفسنا ولا ما نعهده من الاستواء والتدبير هي ملوكنا وحسبنا أن نستفيد من وصفه بهاتين الصفتين أثرهما في خلقه وأن نطلب رحمته ونعمل ما يكسبنا محبته وما يترتب عليهما من مثوبته وإحسانه ونستفيد من الاستواء على عرشه كون الملك والتدبير له وحده فلا نعبد غيره ولذلك قرنه في آخر آية يونس بقوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وفي سورة ألم السجدة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}، وهذا يؤيد ما صدرنا به تفسير الآية من أنها كأمثالها تقرر وحدانية الربوبية على أنها حجة لوحدانية الألوهية وإبطال عبادة غيره تعالى معه بمعنى ما كانوا يدعون من الشفاعة.
صفة الكلام:
وقد اختار الشيخ رضا مذهب السلف الصالح في إثبات الكلام لله تعالى وألقى اللوم على الذين اشتغلوا بالكلام وتركوا النصوص الصريحة وذكر بعض أساطين النظار الذين تراجعوا عن الاشتغال بالكلام مثل: الإمام أبي محمّد عبد الله الجوني والد إمام الحرمين. فقد نقل في بحثه في الكلام رسالة هذا الرجل العظيم الذي اعترف بما كان عليه سابقًا من حيرة وتساؤلات نفسية كانت تطرحها الفطرة عليه ولا يجد لها جوابًا لأن المشايخ الذين كان يثق بعلمهم ويعظمهم في نفسه كانوا على مذهب أهل الكلام والمذهب الأشعري الذي هو فرع منه ولكن الله هداه وفتح قلبه على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية، ولم يكتف الاقتناع بنفسه بل ألف في ذلك رسالة سماها: نصيحة المسلمين قرر فيها مذهب السلف في مسائل الصفات ومنها الكلام بحرف وصوت وأحرج الأشاعرة في إثباتهم لبعض الصفات وتركهم للبعض، فقد ذكر الشيخ رشيد رضا بحثًا طويلًا في تفسيره عند قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} فذكر بعض المخترعات العلمية التي يتحير الإنسان في وجودها، وأثبت بها أن الله تبارك وتعالى أقوى وأتدر من أن يتكلم كيف يشاء ومتى شاء زيادة على النصوص المعتمدة في الباب".
ثم قال في صفه المجيء والإتيان:
"قال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}.
الاستفهام في الآية بمعنى النفي وينظرون بمعنى ينتظرون وهي كثيرة الاستعمال بهذا المعنى في الكتاب العزيز ولا سيما في أمور الآخرة كقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} {مَا يَنْظُرُونَ إلا صَيحَةً وَاحِدَةً}.
وإتيان الله تعالى فسره الجلال وآخرون بإتيان أمره أي عذابه كقوله في آية أخرى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
أي فهو بمعنى ما جاء من التخويف بعذاب الآخرة في الآيات الكثيرة الموافقة لهذه الآيات في أسلوبها، وأقر الأستاذ الإمام الجلال على ذلك وبين في الدرس أن هذا الاستعمال من أساليب العرب المعروفة من حذف المضاف وإسناد الفعل إلى المضاف إليه مجازًا وأوضحه أتم الإيضاح فهو على حد {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ومن المفسرين من قال أن الإسناد حقيقي وإنما حذف المفعول للعلم به من الوعيد السابق، أي هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب وعده آخرون من المتشابهات فقالوا: إن الله تعالى يأتي بذاته ولكن لا كإتيان البشر، بل إتيانه من صفاته التي لا نبحث عن كيفيتها اتباعًا للسلف وأما تأويل الإتيان بما نقله البيهقي عن الأشعري فلا نذكره لأنه مما يزيد المعنى بعدًا عن الفهم وقد يقال أنه ليس من مقتضى مذهب السلف أن يجعل كلما يسند إلى الله تعالى في المتشابهات التي لا تفهم بحال ولا تفسر ولو بإجمال فحسبنا أن نقول على رأي من فسر إتيان الله ها هنا بإتيان أمره وما وعد به من العذاب أو إتيانه بما وعد به.
إننا نفوض إليه تعالى كيفية ذلك وبذلك نكون على طريقة السلف في التفويض مع العلم بأن الله تعالى ينذر الذين زلوا عن صراطه وفرقوا دينه بأمر معروف في الجملة لا بشيء مجهول مطلق، ومما يدلنا على أن المراد بالآية ما ذكرنا قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}. مع الآيات الكثيرة الناطقة إلى أن قال: وذكر الأستاذ الإمام في تفسير الآية وجه آخر يعد بيانًا للقول بأن الإتيان مسند إلى الله تعالى على أنه هو الذي يأتي على ظاهر مذهب السلف لا عذابه ولا يومه الموعود وهو من الآيات الكبرى وأسرار المعارف العليا. إلى أن قال: وإما أن يكون هذا الإتيان في ظلل من الغمام فهو من الأمور الأخروية الغيبية التي قلنا مرارًا أننا لا نبحث عن حقيقتها، فكون معرفة الله تعالى واليقين به مما يحصل للجاهلين والغافلين بحصول ظلل من الغمام نفوض سره إلى الله وما يدرينا أن في ذلك الغمام آيات بينات وحججًا باهرات، وإتيان الملائكة على هذا التأويل أظهر منه في التأويل لأن المقام مقام تمثيل ظهور سلطان الله تعالى وعظمته واستغراق القلوب في الخضوع لجلاله عندما يغشاها نور المعرفة ولا ريب أن حضور الملك في جنده الأكبر هو أبين لكمال العظمة وأظهر ولذلك قال في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وفي سورة النبأ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَال صَوَابًا}.
والمراد بهذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام تقريب هذا المذهب من الأفهام ولا يعني أن هذا بيان لكيفية الإتيان في الغمام، ثم ختم البحث بقوله: هذا وأنت ترى أن الوجه الأول في تفسير الآية، هو المتبادر والمنطق على الآيات الأخرى في نذر القيامة وفي كل منهما عبرة وهداية للمؤمنين، وأما المرتابون الممارون فلا يزيدهم الكلام على الآخرة إلا ظلمًا ورجسًا إلى رجسهم لأنهم محجوبون في حسهم حتى عن أنفسمهم {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيهِمْ فَرِحُونَ} (1).
التعليق:
الشيخ الإمام محمّد عبده في صفة الإتيان والمجيء الذي يظهر أن الإثبات عنده والتأويل مستويا الطرفين، وإن كنت أرى أن التأويل عنده أرجح لأنه حكى مذهب المتأولة وقرره وحكى مذهب السلف ووجهه على قليل من التخليط بين مذهب السلف ومذهب المفوضة وأما تلميذه الشيخ محمّد رشيد رضا فقد مال في هذه الصفة إلى مذهب أهل التأويل والله المستعان".
ثم قال في صفة اليد:
"أما صاحب المنار فقد ذهب في صفة اليد في آية المائدة: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، مذهب المؤولة وألقى اللوم على ابن جرير الطبري الذي أثبت صفة اليد لله تعالى واتهمه بالتعصب واتهم غيره من أنصار مذهب السلف، وظهر بأنه لا يفرق بين مذهب السلف ومذهب المفوضة واختلط عليه الأمر كما اختلط على غيره في تشبيه مذهب المفوضة بمذهب السلف، والفرق بينهما كالفرق بين الثرى والثريا. فالسلف يثبتون وينزهون والمفوضة يقرأون ويجهلون وهذه بعض عبارته في كتابه، قال:
"ثم ردّ عليهم تعالى في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ} أي بل صاحب الجود الكامل والعطاء الشامل عبر عن ذلك ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه وصفوه بغاية البخل والإمساك فأبطل قولهم وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء ولا غرو فكل ما يتقلب فيه العالم كله من الخير والنعيم هو سجل من ذلك الجود والكرم والنكتة في قوله: {كَيفَ يَشَاءُ} بيان أن تقتير الرزق على بعض العباد الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الإجتماع لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق.
والعجب من الإمام الجليل أبي جعفر بن جرير الطبري كف صور استعمال نفظ اليد هنا أحسن تصوير ثم خفيت عنه نكتة تثنيته فجعلها حجة المفوضة على أهل التأويل ونحن معه في إثبات الصفات ننعي على المؤولين النفاة ولا يمنعنا ذلك أن نفهم نكتة تثنية اليد من استعمال لفظها المفرد، قال ابن جرير بعد تفسير غل اليد بالإمساك: وحسب العطاء عن الاتساع ما نصه ثم نقل كلام ابن جرير الذي نقلناه عنه في صفة اليد ثم قال: نعم إن التثنية ليست بمعنى الجمع واليد واليدين لم يقصد بلفظهما النعمة ولا القوة ولا الملك وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم وليس في هذا القول المروي عن ابن عباس تأويل ولا نفي لما أثبته الباري لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى، وما سبب ذهول ابن جرير عن نكتة التثنية إلا توجهه إلى الرد على أهل الجدل في المذهب الذي كانوا قد انتحلوه في تأويل الصفات ومتى وجه الإنسان همه إلى شيء يكون له منه حجاب ما عن غيره. وتقرير الحقيقة لذاتها غير الرد على من يعدون من خصومها {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَينِ فِي جَوْفِهِ} ولهذا غلط كثير من أنصار مذهب السلف في مسائل خالفوا فيها المذهب من حيث يريدون تأييده وهذه آفة من آفات عصبية المذاهب لا تنفك عنها. (1)
التعليق:
وهذا الذي ذكره صاحب المنار وألقى فيه اللوم على ابن جرير في انتصاره لمذهب السلف وعبّر عنه بالمفوضة واتهمه بالتعصب هو وغيره قد قرره غير واحد من فحول العلماء وهذا إمام المعقول والمنقول شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر هذا في غير موضع من كتبه ويجعل التثنية في اليد من أعظم الحجج في إثبات صفة اليد لله تعالى، وهذا تلميذه الإمام اللغوي: ابن قيم الجوزية يقرر هذا في كتبه وخصوصًا في كتابه "الصواعق المرسلة" كما نقلناه عنه في مناقشة القرطبي. وغير هؤلاء ممن ألّف في مذهب السلف يذكر هذه الآية مستدلًا بها على إثبات صفة اليد كالإمام ابن خزيمة والإمام البخاري والإمام اللالكائي وغيرهم ممن ذكرنا كثرة.
أما اتهامه لأنصار مذهب السلف بأنهم يتعصبون لهذا المذهب حتى يؤدي بهم إلى نصر ما هو ضد المذهب فهذه دعوى ليس عليها  برهان والمعروف عند أئمة السلف والسلفيين هو الاستدلال بالنصوص والوقوف عندها وفقهم الله وأكثر من سوادهم وردّ كيد من يريدهم بسوء في نحره".
ثم قال في إثبات الرؤية:
"قال عند قوله تعالى من سورة الأعراف: {قَال لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}.
لقد ذكر الشيخ ها هنا رحمة الله عليه مباحث متعددة في صفة الرؤية ثم قال: الكلمة الجامعة الخاتمة في مسألة الرؤية:
خلاصة الخلاصة أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل النعيم الروحاني الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة والرضوان وأنها أحق ما يصدق عليه قوله تعالى في كتابه الجيد: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. وقوله في الحديث القدسي الذي رواه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وأن هذا وذاك مما يدل على مذهب السلف الذي عبر عنه بعضهم بأوجز عبارة اتفق عليها جميعهم وهي أنها رؤية بلا كيف ويؤيد ذلك اضطراب جميع أصناف العلماء في النصوص الواردة في نفيها وإثباتها سواء منهم أهل اللغة وأساطين البيان ونظار الفلسفة وعلم الكلام ورواة الأحاديث والآثار ومرتادو الصوفية وأولو الكشف والإلهام فلم تتفق طائفة من هؤلاء على قول فصل قطعي تضع به بقية الطوائف بدليلها اللغوي أو الأصولي أو العقلي أو فهم النص النقلي أو تسليم إلهامها الكشفي ولكن من نظر في جميع ما قالوا نظرة استقلال وإنصاف يجزم بأن ما كان عليه عامة السلف من إثبات كل ما صح به النقل والتفويض تأويله الذي يكون عليه في الآخرة إلى الله عزَّ وجلَّ هو الحق الذي يطمئن به القلب ويؤيده العلم والعقل وهو الأسلم والأحكم والأعلم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (1).
• التفسير والمفسرون -وقد تكلم عن منهجه في التفسير-: "وأما منهجه فيه فهو عين ما نهجه الأستاذ الإمام، فلا تقيد بأقوال المفسرين، ولا تحكم للعقيدة في نص القرآن، ولا خوض في إسرائيليات، ولا تعيين لمبهمات، ولا تعلق بأحاديث موضوعة، ولا حشد لمباحث الفنون، ولا رجوع بالنص إلى اصطلاحات العلوم، بل شرح للآيات باسلوب رائع، وكشف عن المعاني بعبارة سهلة مقبولة، وتوضيح لمشكلات القرآن، ودفاع عنه يرد ما أثير حوله من شبهات، وبيان لهدايته، ودلالة إلى عظيم إرشاده، وتوقيف على حكم تشريعه، ومعالجة لأمراض المجتمع بناجع دوائه، وبيان لسنن الله في خليقته.
ولكنا نجد الشيخ رشيد -رحمه الله- يحيد عن هذا المنهج بعض الشيء وذلك بعد وفاة شيخه، واستقلاله بالعمل، ويحدثنا هو بذلك فيقول:
(وإنني لما استقللت بالعلم بعد وفاته، خالفت منهجه -رحمه الله تعالى- بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيرًا لها، أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات، أو الجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة، وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحل بعض المشكلات التي أعيا حلها، بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس (1) " أ. هـ.
ثم قال عن تذرعه بالمجاز والتشبيه: "كذلك نجد صاحب المنار يصرف بعض ألفاظ القرآن عن ظواهرها ويعدل بها إلى ناحية المجاز أو التشبيه، وذلك فيما يبدو مستبعدًا ومستغربًا لو أجرى على حقيقته، وهذا المسلك الذي جرى عليه الشيخ رشيد هو مسلك شيخه، ومسلك الزمخشري وغيره من المعتزلة، الذين اتخذوا التشبيه والتمثيل سبيلًا للفرار من الحقائق التي يصرح بها القرآن، ولا تعجز عنها قدرة الله، وإن بعدت عن منال البشر.
فمثلًا نجد صاحب المنار عندما نعرض لقوله تعالى في الآية (47) من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ... الآية}، نراه يستظهر أن المعنى المراد هنا هو (آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء، بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والمعرفة والقوة، فهذا ما نفسرها به، على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين .. ثم سرد بعض أقوال المفسرين في هذه الآية، ثم بيّن أن ما اختاره هو رأي شيخه الذي مال إليه في دروسه (2) ".
ثم تكلم عن رأيه في السحر فقال: "ثم إن صاحب المنار لا يرى السحر إلا ضربًا من التمويه والخداع، وليس له حقيقة كما يقول أهل السنة، وهو يوافق بهذا القول شيخه وقول المعتزلة من قبله: ولهذا نراه عندما فسّر قوله تعالى في الآية (7) من سورة الأنعام: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيدِيهِمْ لَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ} نجده يقول: (والآية تدل على أن السحر خداع باطل، وتخييل يرى ما لا حقيقة له في صورة الحقائق .. ) (3).
وهذا ولم يستطع الشيخ رشيد أن يرد حديث البخاري في سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل شيخه، ولكنه تأول الحديث على أنه كان من قبيل العقد عن النساء، وبين أن عذر من طعن في الحديث هو أن هشامًا راوي الحديث عن أبيه عن عائشة مطعون فيه من كثير من أئمة الجرح والتعديل" أ. هـ.
قلت: وأخيرًا فلا يفوتنا أن الرجل قد دافع عن الإسلام والقرآن، وكشف عما أحاط بهما من شكوك ومشاكل، وقد استعمل في ذلك لسانه وقلمه، وضمنه مجلته وتفسيره، وتلك مزية للرجل يحمد عليها، ولا ننسى ماله من أفكار جريئة ومتطرفة.
وفاته: سنة (1354 هـ) أربع وخمسين وثلاثمائة وألف.
من مصنفاته: مجلة "المنار"، و"تفسير القرآن الكريم" لم يكمله، و"ذكرى المولد النبوي" وغيرها.











مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید