المنشورات

ابن عاشور

المفسر محمّد الطاهر بن محمّد بن محمّد الطاهر بن محمّد الشاذلي، ويعرف بابن عاشور.
ولدة سنة (1296 هـ) ست وتسين ومائتين وألف.

من مشايخه: الأستاذ الشيخ محمّد صالح الرضوي، والشيخ محمّد النجار، والشيخ محمّد العزيز بن محمّد الحبيب بن محمّد الطيب جده لأمه وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
• معجم المؤلفين: "رئيس المفتين المالكين بتونس، وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس" أ. هـ.
• قلت: قال المغراوي في كتابه "المفسرون بين التأويل والإثبات" عن صاحب الترجمة:
"من أكابر علماء تونس وله ابن كان على منواله، توفي رحمه الله قبل عشر سنوات، أما الأب فكان آنذاك ما يزال على قيد الحياة فلا أدري الآن هل هو على قيد الحياة أم توفي؟ فإن كان الأخير، فغفر الله له ولجميع المسلمين.
فصاحب التفسير على طريقة أهل بلده تقليد المذهب المالكي، والتبحر في فروعه دون معرفة الدليل من الكتاب والسُّنة حتى يميز الحق من الباطل فالكلُّ عند المقلِّدة حق، خطأه، وصوابه، لا هم بالأئمة اقتدوا ولا للدليل اتبعوا ولهذا يقول الإمام ابن عبد البر كما في الجامع:
لا فرق بين مقلد وبهيمة ... تنقاد بين جنادل ودعاتر (115/ 2).
وقد حاول الشيخ أن يكثر في تفسيره من التحليلات اللغرية والبلاغية بأسلوب واسع.
وأما عقيدة الأسماء والصفات: فهو أشعري متطرف وقد صرح بذلك في بعض الصفات، يكثر من التحليلات والتعليلات ويظهر بعض الإعتراضات التي لا تزيد المذهب الأشعري إلا تقعرًا، ينظر إلى طاغوت التأويل الذي اتخذه الأشاعرة عمدة في صفات الله بأنه سيف مسلول على الملاحدة مع أن الذي يعرف حقيقته لا يزمع عنده جناح بعوضة، وإذا ذكر عقيدة السلف يذكرها بخلط وضعف وإنها عقيدة المساكين السذج والمطبوع ناقص ولكن فيه كفاية لمعرفة عقيدة الرجل.
صفه الرحمة:
قال عند قوله تعالى من سورة الفاتحة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} واسم الرحمة موضوع في اللغة العربية لرقة الخاطر وانعطافه نحو حي بحيث تحمل من اتصف بها على الرِّفق بالمرحوم والإحسان إليه ودفع الضر عنه وإعانته على المشاق فهي من الكيفيات النفسانية لأنها انفعال ولتلك الكيفية اندفاع يحمل صاحبها على أفعال وجودية بقدر استطاعته وعلى قدر قوة انفعاله فأصل الرحمة من مقولة الانفعال وآثارها من مقولة الفعل فإذا وصف موصوف بالرحمة كان معناه حصول الانفعال المذكور في نفسه وإذا أخبر عنه بأنه رحم غيره فهذه على معنى صدر عنه أثر من آثار الرحمة إذ لا تكون تعدية فعل رحم إلى المرحوم إلا على هذا المعنى فليس لماهية الرحمة جزئيات وجودية ولكنها جزئيات من أثرها فوصف الله تعالى بصفات الرحمة في اللغات ناشئ على مقدار عقائد أهلها فيما يجوز عليه ويستحيل، وكان أكثر الأمر مجسمة ثم يجيء في لسان الشرائع تعبيرًا عن المعاني العالية بأقصى ما تسمح به اللغات مع اعتقاد تنزيه الله عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي "الرحمن الرحيم" لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض بل أنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الأسمى من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم، ألا ترى أن المرء قد يرحم أحدًا، ولا يملك له نفعًا لعجز أو نحوه. وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في المقصد الأسنى بقوله: "الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها، فإن كان قادرًا على قضائها لم يسم رحيمًا إذ لو تمت الإرادة لوفى بها وإن كان عاجزًا فقد يسمى رحيمًا باعتبار ما اعتوره من الرحمة والرقة ولكنه ناقص وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه لكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون ونطلق القدرة مع اليقين بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة. فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ} فهي منقولة من لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالب الأسماء الحسنى من هذا القبيل. وأما المتشابه فهو ما كانت دلالته على المعنى المنزه عنه أقوى وأشد وسيأتي في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} والذي ذهب إليه صاحب الكشاف وكثير من المحققين أن الرحمن صفة مشبهة كغضبان وبذلك مثله في الكشاف. (1)
صفه الغضب:
قال عند قوله تعالى من سورة الفاتحة: {غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} والغضب المتعلِق بالمغضوب عليهم هو غضب الله وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام فالكيفية لطلب الانتقام. وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عنه المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان، وبالأذى وقد يفضي ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار  أسبابه. فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنوا على القوانين العربية وإذا كانت حقيقة الغضب يستحيل إتصاف الله تعالى بها وإسنادها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية فقد وجب على المؤمن صرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي وطريقة أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة هي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.
وكان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق لم يجد أهل العلم بدا من توسيع أساليب الصحيح لإفهام وتمييز المسلم وكبت الملحد فقام الدين بصنيعهم على قواعده المخلص له عن ماكره وجاحده وكل فيما صنعوا على هدى وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمالي أبدا وما تأولوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.
فغضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية، فقد ورد في الحديث: "ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال" (1).
ويقابلها الرضى والحبة وكل ذلك غير المشيئة والإرادة بمعنى التقدير والتكوين {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام (2).
صفة الاستهزاء:
قال عند قوله تعالى من سورة البقرة: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وفعل يستهزئ المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل به في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ولم يقع إستهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة إستهزائهم بالمؤمنين بما يشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على إستهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم. والمضارع في قوله: {يَسْتَهْزِئُ} لزمن الحال. ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الناس معنى الاستهزاء في الدنيا ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة. ويجوز أن يكون يستهزئ بهم حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في يستهزئ للإستقبال وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية ويجوز أن يكون مرادًا به جزاء استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير، والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازًا ومشاكلة أو مرادًا به مآل الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم. وهذا كله وإن جاز فقد عيّنه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضًا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى عنه كما في الكشاف وهو مبني على التعارف بين الناس. (1)
صفة الحياء:
قال عند قوله تعالى من سورة البقرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}.
والاستحياء والحياء واحد فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يفعل.
والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفًا لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله والتعلل لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعلل غير مسلم (2).
صفة الوجه:
وقال عند قوله تعالى من سورة البقرة: {فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (وجه الله) بمعنى الذات وهو حقيقة لغوية تقول لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقابل بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك وهو أيضًا كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فقوله واسع تذييل لمدلول (ولله المشرق والمغرب) والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله وأنه لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضي الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه لقصد مرضاته وقد فسّرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة (3).
صفة الإتيان:
وقال عند قوله تعالى من سورة البقرة {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى من هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره إتصاف الله تعالى به ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالًا في مكان بعد أن لم يكن فيه حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم الجسم والله منزه عنه تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي فإن كان الكلام خبرًا أو تهكمًا فلا حاجة للتأويل لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلّة وإن كان الكلام وعيدًا من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول والى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون.
الوجه الأول: ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث. فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوه منها:
الوجه الثاني: أقول ما يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعًا لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز عن تعلق القدرة التنجيزية بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعًا للفريقين أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي قلت: وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصله فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال الله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.
وقال: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} وليس قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} بمناف لهذا المعنى لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلّق قدرته يكون محفوفًا بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان في (ظلل من الغمام) قريبًا.
الوجه الثالث: إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي: وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه في (ظلل من الغمام) زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين.
الوجه الرابع: يأتيهم كلام الله الدال على الأمر وكون ذلك لكلام مسموعًا من قبل ظلل من الغمام تحفه الملائكة.
الوجه الخامس: أن هناك مضافًا مقدّرًا أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الحق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره من القرآن أو يأتي أمر ربك وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازًا في ظهور الأمر.
الوجه السادس: حذف مضاف تقديره آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رسله ويبعده قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} إلّا أن يرجع إلى الوجه الخامس أو الوجه الثالث.
الوجه السابع: أن هناك مفعولًا محذوف دلَّ عليه قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه.
والأحسن: تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعدًا ووعيدًا.
وقد ذكرت في تفسير قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} في سورة آل عمران ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسُّنة أربعة أقسام:
قسم اتَّصفَ الله به على الحقيقة كالوجود، والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا.
قسم اتصف الله بلازم مدلوله، وشاع ذلك حتى صار المتبادر من المعنى المناسب دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والهبة.
وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر.
وقسم متشابه شديد التشابه. (1)
تفسير الكرسي:
قال عند قوله تعالى من سورة البقرة: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ} الآية والكرسي شيء يجلس عليه متركب في أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصًا واحدًا في جلوسه فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعًا فهو العرش. وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيز فتعين أن يكون مرادا به غير حقيقته.
والجمهور قالوا: إن الكرسي مخلوق عظيم ويضاف إلى الله تعالى لعظمته فقيل: هو العرش وهو قول الحسن. وهذا هو الظاهر لأن الكرسي لم يذكر في القرآن إلا في هذه الآية وتكرر ذكر العرش ولم يرد ذكرهما مقترنين فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وقيل: الكرسي غير العرش فقال ابن زيد هو دون العرش، وروي في ذلك عن أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما الكرسيُّ في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من أرض) وهو حديث لم يصح.
وقال أبو موسى الأشعري، والسدي والضحاك الكرسي موضع القدمين من العرش أي لأن الجالس على عرش يكون مرتفعًا عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربع. روي هذا عن ابن عباس وقيل: الكرسي مثل لعلم الله روي عن ابن عباس كأن العالم يجلس على كرسي ليعلم الناس، وقيل: مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق، وقيل غير ذلك. (2)
صفة المحبة:
قال عند قوله تعالى من سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والمحبة انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء من صفة ذاتية أو إحسان، أو اعتقاد أنه يحب المستحسن يجر إليه الخير، فإذا حصل ذلك الانفعال عقبه ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه فيكون المنفعل محبًا ويكون المشعور بمحاسنه محبوبًا وتعد الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالًا عند المحب فإذا قوي هذا الانفعال صار تهيجًا نفسانيًا فسمي عشقًا للذات وافتتانًا بغيرها.
وقد اختلف المتقدمون في أن المحبة والجمال هل يقصران على المحسوسات فالذين قصروها على المحسوسات لم يثبتوا غير المحبة المادية (وقال بهذا القول سقراط والطبائعيون).
والذين لم يقصروهما عليها أثبتوا المحبة الرمزية أعني المتعلقة بالأكوان غير المحسوسة كمحبة العبد لله تعالى هذا هو الحق، وقال به من المتقدمين أفلاطون، ومن المسلمين الغزالي وفخر الدين.
وأما إطلاق المحبة في قوله: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فهو مجاز لا محالة أريد به لازم الهبة وهو الرضا وسوق المنفعة، نحو ذلك من تجليات لله تعالى يعلمها سبحانه، وهما المعبر عنها بقوله: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فإن ذلك دليل الحبة وفي القرآن: {وَقَالتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} (1) " أ. هـ.
وفاته: سنة (1393 هـ) ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف.
من مصنفاته: "التحرير والتنوير" في تفسير القرآن، و"مقاصد الشريعة الإسلامية"، وغيرها.








مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید