المنشورات

الآلوسِي الكبِير

النّحوي، اللغوي، المفسر: محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، أبو الثّناء، شهاب الدين.
ولد: سنة (1217 هـ) سبع عشرة ومائتين وألف.
من مشايخه: والده، والشَّيخ علي السويدي، والشَّيخ خالد النقشبندي وغيرهم.
من تلامذته: الملا عبد الفتاح أفندي المعروف بشواف زادة وغيره.
كلام العلماء فيه:
* حلية البشر: "كان خاتمة المفسرين ونخبة المحدثين أخذ العلم عن فحول العلماء .. كان متمسكًا بالسنن متجنبًا عن الفتن، حتَّى جاء مجددًا وللدين الحنيف مسددًا .. كان عالمًا باختلاف المذاهب، مطلعًا على الملل والنحل والغرائب، سلفي الاعتقاد شافعي المذهب .. " أ. هـ.
* قلت: "وهو حنفي المذهب: وليس بالشافعي والله أعلم.
* الأعلام: "مفسر محدث، أديب من المجددين من أهل بغداد. كان سلفي الإعتقاد مجتهدًا تقلد الإفتاء ببلده سنة (1248) وعزل فانقطع للعلم" أ. هـ.
* قال المغراوي: "هو أبو الثناء شهاب الدين السيد محمَّد أفندي المشهور بالألوسي البغدادي، هو من أسرة اشتهر أهلها بالعلم غير أنهم افترقت مشاربهم وأهدافهم.
فصاحب الترجمة، كان اتجاهه اتجاهًا صوفيًا، أبدى ذلك في تفسيره قل ما تفوته مناسبة إلَّا وينبه على ما في الآية من التفسير الإشاري، وقد عدّه كثير ممن صنف كتب التفسير من التفاسير الصوفية، وهو كذلك، ومن طالع تفسيره يجده يسدل على الصوفية من الألقاب الفخمة، مثل قدس الله سرهم، مثل سادتنا الصوفية، أهل التحقيق والحقيقة، إلى غير ذلك مما هو مبثوث في طي الكتاب.
أما سليل أسرته السيد النُّعمان خير الدين فهو صاحب عقيدة سلفية له كتاب ذو فوائد جمة يسمى "بجلاء العينين في محاكمة الأحمدين".
أما عقيدته في الأسماء والصفات في تفسيره: فقد ضم في تفسيره معظم بحوث الرَّازي: حتَّى أنَّه ينقلها بالحرف، وبالوجوه التي يعددها الرَّازي في الشبه الأشعرية، وينقل ما يذكره الزمخشري، كان كان مخالفًا للعقيدة الأشعرية نابذة وانتصر للعقيدة الأشعرية.
أما الألوسي، فأحيانًا يميل إلى مذهب السلف ويقرره وينسب نفسه إليه، كما فعل في صفة الحياء. وأحيانًا يذكر المذهب الأشعري وينتصر إليه انتصارًا، وربما يؤدي بها ذلك إلى لمز أئمة السلفية، كما فعل في صفة الكلام وأحيانًا يظهر عليه نوع من التحفظ وعدم الصراحة الكاملة، كما فعل في صفة الفوقية، وأحيانًا يقرر مذهب السلف والخلف، ويرجح مذهب الخلف كما فعل في صفة الاستواء، وهكلذا تجده مترددًا بين مذهب السلف والخلف، ولهذا ترجح لنا أن نذكره في مفسري الخلف.
وعلى كل حال، فكتاب الألوسي يعتبر موسوعة كبيرة في كثير من أنواع العلوم، وعنده صبر على تطويل البحوث، وإن كان أكثرها متوفرة المصادر، فالله يرحمه ويتولانا نحن بلطفه وعفوه.
1 - صفة الغضب والرحمة: قال عند قوله تعالى: {غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} والغضب أصله الشدة، ومنه الغضبة، الصخرة الشديدة المركبة في الجبل، والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة محركة للنفس، مبدؤها إرادة الانتقام كما في شرح المفتاح للسعد، وتارة بإرادة الانتقام كما في شرح  ما قيل: تغير يحدث عند غليان دم القلب، وفي الحديث: (اتقوا الغضب فإنَّه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه) (1).
وفي الكشاف معنى غضب الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يديه. وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته، لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي، والعجز عن درك الإدراك إدراك، والكلام فيه كالكلام في الرحمة، حذو القذة بالقذة، فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى، وحديث: "سبقت رحمتي غضبي" (2) محمول على الزيادة في الأثر أو تقدم ظهورها (3).
وقال في معرض البحث في (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وأمَّا ثالثًا فلأن كون الرحمة في اللُّغة رقة القلب إنَّما هو فينا، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى، لأنَّها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته، ومعاذ الله أن تقاس بصفات المخلوقين، وأين التراب من رب الأرباب؟ ولو أوجب له كون الرحمة فينا رقة القلب، ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى، لاستحالة اتصافه بما تتصف به، فليوجب كون الحياة والعلم، والإرادة، والقدرة، والكلام والسمع، والبصر ما نعلمه منها فينا ارتكاب المجاز أيضًا فيها إذا أثبت الله تعالى، وما سمعنا أحدًا قال بذلك، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك؟ وكلها بمعانيها القائمة فينا: يستحيل وصف الله تعالى بها، فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه عز شأنه، أو بتركه كذلك وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة، كالجهل بحقيقة ذاته مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه، بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته، والعجز عن درك الإدراك إدراكه، فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر، لا أراه في الحقيقة إلَّا تحكمًا بحتًا، بل نطق الإمام السكوتي في كتابه التَّمييز، لما للزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب الله العزيز، بأن جعل الرحمة مجازًا نزعة اعتزالية، قد حفظ الله تعالى منها سلف المسلمين وأئمة الدين، فإنهم أقروا ما ورد على ما ورد، وأثبتوا لله تعالى ما أثبته له نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير تصرف فيه بكناية أو مجاز، وقالوا: لسنا أغير على الله من رسوله، لكنهم نزهوا مولاهم عن مشابهة المحدثات، ثم فوضوا إليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات، والأشعري أمام أهل السنة ذهب في النهاية إلى ماذهبوا إليه، وعول في الإبانة على ما عولوا عليه، فقد قال في أول كتاب الإبانة الذي هو آخر مصنفاته: أما بعد، فإن كثير، من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر، سألت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلًا لم ينزل الله به سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا، ولا نقول عن رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم - ولا عن سلف المتقدمين. وساق الكلام إلى أن قال: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتكم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصّحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنَّه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير معظم مفخم، وعلى جميع أئمة المسلمين، ثم سرد الكلام في بيان عقيدته، مصرحًا بإجراء ما ورد من الصفات على حالها بلا كيف، غير متعرض لتأويل، ولا ملتفت إلى قال وقيل، فما نقل عنه من تأويل صفة الرحمة، أما غير ثابت أو مرجوع عنه، والأعمال بالخواتم، وكذا يقال في حق غيره من القائلين به من أهل السنة، على أنَّه إذا سلم الرأس كفى، ومن ادعى ورود ذلك عن سلف المسلمين، فليأت ببرهان مبين، فما كل من قال يسمع ولا كل من ترأس يتبع.
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائهم
والعجب من علماء أعلام، ومحققين فخام، كيف غفلوا عما قلناه، وناموا عما حققناه ولا أظنك في مرية منه وإن قل ناقلوه، وكثر منكروه {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وأمَّا رابعًا، فلأن إجراء الاستعارة التمثيلية هنا مع أنَّه تكلف على مذهب السيد السند قدس سره فيه ظاهرًا نوع من سوء الأدب، إذ لا يقال إن لله تعالى هيئة شبيهة بهيئة الملك، ولم يرد إطلاق الحال عليه سبحانه وتعالى، فهل هذا إلَّا تصرف في حق الله تعالى بما لم يأذن به الله، ومثل هذا أيضًا مكنى في المكنيات، وبلاغة القرآن غنية عن تكلف مثل ذلك، وأمَّا خامسًا، فلأن وجه تشبيه الإحسان في احتمال الاستعارة المصرحة بالرحمة التي هي رقة القلب غير صريح، لأنَّه لا ينتفع بها نفسها، وإنما الانتفاع بآثارها، وكم من رقة قلبه على شخص حتَّى أراق له لم ينفعه بشيء ولا أعانه بحي ولا لي.
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه ... وقد حِيل بين العير والنزوان
ولا كذلك الانتفاع بالإحسان، وأمَّا الإرادة فهي وإن قلنا بصحة إرادتها هنا: لا تصح في وجه المجاز المرسل بالنظر إليه تعالى، بل أنك إذا تأملت وأنصفت وجدت الرحمة إن تسببت الإحسان أو أرادته فإنما تسببه إذا كانت هي وهو صفتين لنا، ومجرد السببية والمسببية في هذه الحالة لا يوجب كون الرحمة المنسوبة إليه عز شأنه مجازًا مرسلًا عن أحد الأمرين، وبفرض وجود الرحمة بذلك المعنى فيه تعالى، كيفما كان الغرض لا نجزم بالسببية والمسببية أيضًا، وقياس الغائب على الشاهد مما لا ينبغي، والفرق مثل الصبح ظاهر، والذهن مقيد عن دعوى الإطلاق لما لا يخفى عليك، فتأمل في هذا المقام فقد غفل عنه أقوام  بعد أقوام (1).
2 - صفة الاستهزاء: قال عند قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته، وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنَّه التحقير على وجه، من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك، ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه، ومنعه من قياس الغائب على الشاهد وذهب أكثر النَّاس إلى أنَّه لا يوصف به -جل وعلا- حقيقة، لما فيه من تقرير المستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب، فإن كان عنده أنَّه ليس متصفًا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة، إمَّا أن يراد بالاستهزاء أجزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في العذر، وملابسة قوية، ونوع سببية، مع وجود المشاكلة المحسنة ها هنا، ففي الكلام استعارة تبعية، أو مجاز مرسل، وإما أن يراد به إنزال الحقارة والهوان، فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له، فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرًا إلى التصور، وبالعكس إلى الوجود.
وأما أن يجعل الله تعالى وتقدس كالمستهزئ بهم على سبيل الاستعارة المكنية، وإثبات الاستهزاء له تخييل، ورب شيء يصح تبعًا ولا يصح قصدًا، وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيمًا للعباد، وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل، والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزئ، أما في الدُّنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وأمَّا في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنَّة، فيقال: هلم- هلم، فيجيئ بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم- هلم، فيجيئ بكربه وغمه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتَّى أن الرجل ليفتح له باب فيقال: هلم، هلم، فما يأتيه، وقد روى ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في المستهزئين بالنَّاس.
وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرًا الجملة يذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم، لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته، وأنَّه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم، وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيمًا لشأنهم لأنهم ما استهزئ بهم إلَّا فيه، ولا أحد أغير من الله سبحانه وترك العطف لأنَّه الأصل، وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هنا القول عليه إلَّا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابًا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} إشعار بأن ما حكى من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم: ويشعر كلام بعض المحققين أنَّه لو ورد هذا  القول: بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام -كلهم مستهزئون- بالمؤمنين، لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم، فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقًا، وأنَّه تولى مجازاتهم مطلقًا، بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضًا، لكون استهزاء الله تعالى بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما -يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيًا أنَّه لو عطف- ولو بحسب التوهم على مقدر بأن يقال: المؤمنون مستهزئون بهم، والله يستهزيء بهم لفاتت الفائدتان، هذا التأويل وعدمه، وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم، وفي بعض ما ينسب إلى الله تعالى مثل قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31]، وقوله عزَّ وجل: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] كما في بعض القرآن وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن قبله أو صافحه، فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه" فأجعل الكلام فيه خارجًا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته تعالى، كما قال السلف في اليمين، وأرى من يقول بالظواهر ونفي اللوازم في الجميع، بينه وبين القول بوحدة الوجود على الوجه الذي قاله محققو الصوفية مثل ما بين سواد العين وبياضها، وأميل إلى القول بتقبيب العرش، لصحة الحديث في ذلك، والأقرب إلى الدليل العقلي القول بكرويته، ومن قال بذلك أجاب عن الأخبار السابقة بما لا يحكى على الفاضل (1). انظر الرد على القرطبي في تأويل هذه الصفة.
3 - صفة الكلام: بحث الألوسي في أول تفسيره مسألة الكلام وأطال النَّفس في ذلك وقرر مذهب الأشاعرة ودافع عنهم بلا مزيد عليه، واستدل للكلام النفسي بأدلة ظنها تثبت مذهبه، ولم يعرج على الأدلة المصرحة بأن الله تعالى يتكلم بصوت وحرف، وختم بحثه بالطعن علي المشايخ السلفيين فقال ما لفظه: جل من أحاط خبرًا بأطراف ما ذكرناه، وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه، اندفع عنه كل اشكال في هذا الباب، ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيِّم، وابن قدامة، وابن قاضي الجبل، والطوفي، وأبي نصر وأمثالهم، صرير باب "أو طنين ذباب" وهم، وإن كانوا فضلاء محققين، وأجلاء مدققين، لكنهم كثيرًا ما انحرفت أفكارهم، اختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة، وأكابر الأئمة، وبالغوا في التعنيف والتشنيع، وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع، ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعًا بصاع. ولتقدمت إليهم بما قدموا باعًا بباع، ولعلمتهم كيف يكون الهجاء، ولعرفتهم إلى ما ينتهي المراء بالأمراء.
فلي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج
على أن العفو أقرب التقوى، والإغضاء مبنى
الفتوة وعليه الفتوى، والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مرورًا كرامًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة والدفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهنة إلخ (1).
هذه عبارة في مقدمة تفسيره، وأنت رأيت ما اتهم به ابن تيمية وابن القيِّم وغيرهم من فضلاء السلفيين من الطعن علي العلماء، وهذه القرية مكررة تتكرر من حين إلى آخر، كل من أراد الظهور بضلالة أنهم هؤلاء الأعلام بما ليس فيهم، فهذه كتبهم وهذه مقالاتهم منتشرة بحمد الله، من طالعها عرف هؤلاء ليس لهم إلَّا إيضاح ما قاله الله وما قاله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما قال السلف الصالح، بأساليب تتصف بالأدب وحسن الخلق، لكن الذي لا يعرف كتبهم أو طالعها، وحجبه الهوى عن فهمها، يظن بهم هذه الظنون السيئة، نسأل الله العافية. وعلى كل حال: فالألوسي يقرر مذهب الأشعري والماتريدي ويدافع عنه، وسأنقل بعض عباراته من البحث الذي أشرت إليه قال: وأمَّا ما شاع عن الأشعري عن القول بسماع الكلام لنفسي القائم بذات الله تعالى، فهو من باب التجويز والإمكان لأنَّ موسى عليه السَّلام سمع ذلك بالفعل، إذ هو خلاف البرهان، ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتَّى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) (2) الحديث.
ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه الثوري المتعلق بالحروف غيبية كانت أو خيالية أو حسية، سمع العبد على الوجه اللائق المجامع {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي، صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت؛ لأنَّه بالله يسمع إذ ذاك، والله سبحانه يسمع السر والنجوى، والإمام الماتريدي أيضًا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة، كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التَّوحيد فما نقله ابن الهمام عنه في القول: بالإستحالة، فمراده الإستحالة العادية، فلا خلاف بين الشيخين عن التحقيق (3) قلت: هكذا يسبح هذا المؤلف في الخيالات والفرضيات التي لا تستند إلى نص من كتاب أو سنة، لأنَّ هذه أمور غيبية ينبغي الاستناد فيها إلى النَّصِّ، وقد وردت والحمد لله في هذا الباب نصوص تغني عن هذه التكلفات وهذه الفرضيات الخيالية، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فالله تبارك وتعالى يتكلم بصوت وحرف بكلام يليق بحلاله كما صحت بذلك الأخبار عن سيد الأخيار - صلى الله عليه وسلم -.
4 - صفة الوجه: قال عند قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي رضاه سبحانه وتعالى، دون الرياء والسمعة، بناء على ما قاله الإمام السهيلي: من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجازًا، لأنَّ من رضي عن شخص يقبل عليه، ومن غضب على شخص يعرض عنه، وقيل: المراد بالوجه الذّات والكلام على حذف مضاف. وقيل: هو بمعنى التوجه، والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه وتعالى، والأول أولى أ. هـ. (1)
وهذا النَّصُّ صريح في التأويل، لكن في تفسيراته للآيات الأخرى ليس مثل ما هنا.
وجاء عند قوله تعالى: {كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ} وقال سفيان الثوري: وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه إليه عزَّ وجل فقيل في توجيه الاستثناء: أن العمل المذكور قد كان في حيز العلم، فلما فعله العبد ممثلًا أمره تعالى، أبقاه جل شأنه له إلى أن يجازيه عليه، أو أنَّه بالقبول صار غير قابل للفناء، لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، وروى عن أبي عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه ارتضى نحو ذلك، وقال: المعنى كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلَّا ما أريد به وجهه تعالى، وزعم الخفاجي أن هذا كلامًا ظاهريًا.
وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه، جاهه تعالى الذي جعله في النَّاس وهو كما ترى لا وجه له، والسلف يقولون: صفة نثبتها لله تعالى، ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها، بعد تنزيهه عز وجل عن الجارحة (2).
وقال عند قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38]، أي ذاته سبحانه، أي يقصدونه عزَّ وجل بمعروفهم خالصًا، أو جهته تعالى، أي يقصدون جهة التقريب إليه سبحانه لا جهة أخرى.
والمعنيان كما في الكشاف متقاربان ولكن الطريقة مختلفة (3).
وقال عند قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} أي ذاته، عزَّ وجل، والمراد هو سبحانه وتعالى، فالإضافة بيانية، وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة، واستعماله في الذّات من باب الكناية، وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف. وقد قررناه لك غير ما مرَّة فتذكره وعض عليه بالنواجذ (4).
5 - صفة المجيئ والإتيان: قال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} بالمعنى اللائق به جل شأنه منزهًا عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات، ثم قال بعد فقرات لا تتعلق بالبحث، ومن النَّاس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفًا، فقال في الآية: الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله وبأسه، أو حقيقي والمفعول محذوف، أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبجانه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فإن العزة والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره، أو الأتون على الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدًا لذكرهم، كما في قوله سبحانه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] على وجه وخص الغمام بمحليه العذاب لأنَّه مظنة الرحمة، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع، لأنَّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب، كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخبر، ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، وأنَّه في حال ظهوره باق على إطلاقه، حتَّى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب من سادتنا الصوفية قدس الله أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات ولم يحم حول هذه التأويلات (1).
وقال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}.
يوم القيامة في ظلل من الغمام حسب ما أخبر وبالمعنى الذي أراد، وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود وقتادة ومقاتل: وقيل إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم، وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب، وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل، وقيل: المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي، لقوله سبحانه: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مصاف ونحوه، بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر، ومنهم من يبقيه على الظاهر، إلَّا أنَّه يدعي أن الإتيان الذي ينصب إليه تعالى ليس بالإتيان الذي يتصف به الحادث، وحاصل ذلك أنَّه يقول بالظواهر وينفي اللوازم، ويدعي أنَّها لوازم في الشاهد، وأين التُّراب من رب الأرباب؟
وجوز بعض المحقّقين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند النَّاس، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم، وعلى ذلك اعتمد الإمام، وهو بعيد أو باطل (2).
وقال عند قوله تعالى {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} قال منذر بن سعيد معناه: ظهر سبحانه للخلق هنالك، وليس ذلك بمجيء نقلة، وكذلك مجيء الطامة والصاخة، وقيل الكلام على حذف المصاف للتهويل؛ أي وجاء أمر ربك وقضاؤه سبحانه واختار حجج أنَّه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى، وتبين آثار قدرته جلا وعلا، وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه في ذلك بحال الملك، إذا حضر بنفسه ظهر لمحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم، وأنت تعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام (3).
التعليق:
أما الألوسي فقد انتصر لمذهب السلف الصالح في صفة الإتيان والمجيء، وبين أن هذا هو المذهب الحق، وغيره كله كلفات وتأويلات لا ينبغي الاشتغال بها وليته حذف من الفقرات سادتنا الصوفية قدس الله أسرارهم، فليس عند المسلمين إلَّا استقامة وانضباط، سماهم الله بالمسلمين والمؤمنين وبالصالحين والطيبين، فالقرآن أغنانا عن مثل هذه الاصطلاحات الدخيلة.
6 - تفسير الكرسي: وقال عند قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.
الكرسي: جسم بين العرش محيط بالسموات السبع، قد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته؛ أي الكرسي إلَّا بمنزلة الحلقة في المفازة، وهو غير العرش كما يدل عليه ما أخرجه ابن جرير وأبو الشَّيخ وابن مردويه عن أبي ذر أنَّه سأل النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عن الكرسي فقال: (يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلَّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة) وفي رواية الدارقطني والخطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} إلخ قال: (كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره، وقيل هو العرش نفسه. ونسب ذلك إلى الحسن وقيل: قدرة الله تعالى، وقيل: تدبيره، وقيل: ملك من ملائكته، وقيل: مجاز عن العلم، من تسمية الشيء بمكانه، لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم، فيكون مكانًا للعلم بتبعيته، لأنَّ العرض يتبع المحل في التحيز، حتَّى ذهبوا إلى أنَّه معنى قيام العرض بالمحل، وحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل عن الملك أخذًا من الكرسي الملك، وقيل: أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه، وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة، ففي الكلام استعارة تمثيلية، وليس ذمة كرسي ولا قاعد ولا قعود، وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف، فرارًا من توهم التجسيم، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك، لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر المقدم كما قدمنا وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل، وفي رواية عن عمر مرفوعًا له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية، فالحق أنَّه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة، وتوهم التجسيم لا يعبأ به، وإلَّا لزم نفى الكثير من الصفات، وهو بمعزل عن إتباع الشارع والتسليم له.
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علمًا، وفوضوا علمه إلى الله

تعالى، مع القول بغاية التنزيه والتقدير له تعالى شأنه (1).
7 - صفة النَّفس: وقال عند قوله تعالى: من سورة آل عمران {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي عقاب نفسه، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وفيه تهديد عظيم، مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح، حيث علق التحذير بنفسه، وإطلاق النَّفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصَّحيح، وقيل: النَّفس بمعنى الذّات، وجوز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز، وأن أُريد به الذّات إلَّا مشاكلة (2).
وقال عند قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السَّلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات، فتطلق على ذات الشيء وحقيقته، وعلى الروح، وعلى القلب، وعلى الدم، وعلى الإرادة، وقيل: وعلى العين التي تصيب، وعلى الغيب، وعلى العقوبة، ويفهم من كلام البعض، أنَّها حقيقة في الإطلاق الأوَّل مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النَّفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي، فكيف بما أعلنه، ولا أعلم معلومك الذي تخفيه، وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله:
قالوا اقترح شيئًا نجدَ لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا
إلَّا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد، وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وحكاه عنه أيضًا في مجمع البيان، وفسرها بعضهم بالذات، وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة، ومن ذلك قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وقوله - صلى الله عليه وسلم - "أقسم ربي على نفسه ألا يشرب عبد خمرًا ولم يتب إلى الله تعالى منه، إلَّا سقاه من طينة الخبال" (3)، وقوله عليه الصَّلاة والسلام: "ليس أحد أحب إليه المدح من الله عزَّ وجل ولأجل ذلك مدح نفسه" (4) وقوله - صلى الله عليه وسلم - "سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه" (5) إلى غير ذلك من الأخبار.
وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره: إن لفظ النَّفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذّات، إلَّا مشاكلة، وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث وادعاء أنَّها فيها مشاكلة تقديريه كما قيل ذلك في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، لا يخفى أنَّه من سقط المتاع، فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذّات على الله تعالى من غير مشاكلة، نعم، قيل أن لفظ النَّفس في هذه الآية -وإن كان بمعنى الذّات لا بد معه من إعتبار المشاكلة لأنَّ لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضى، فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك، فعبر عنه بلا أعلم بما في نفسك، لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي.
وعلى ذلك حمل العلامة الثَّاني كلام صاحب الكشاف، ولا يخفى ما فيه، والتحقيق أن الآية من المشاكلة، إلَّا أنَّها ليست في إطلاق النَّفس، بل في لفظ (في) فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه السَّلام الارتسام والانتقاش، ولا يمكن ذلك نظرًا إلى الله تعالى، وإلى هذا يشير كلام بعض المحقّقين، ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام.
وقال الراغب: يجوز أن يكون القصد إلى نفي النَّفس عنه تعالى فكأنه قال تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فاعلم ما فيها يقول الشَّاعر:
ولا نرى الضب بها ينحجر
وهو على بعده مما لا يحتاج إليه، ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النَّفس الثَّانية: هي نفس عيسى أيضًا. وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها غلوقة له سبحانه، كأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها (1).
8 - صفة المحبة: وقال عند قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
(يحببكم الله) جواب الأمر وهو رأي الخليل، وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي أن تتبعوني يحببكم أي يقربكم رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة، وقيل: يرضى عنكم وعبر عن ذلك بالهبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لايعلم تأويله إلَّا الله (2).
وقال عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يحبهم محبة تليق بشأنه على المعنى الذي أراده (3).
9 - صفة العندية: قال عند قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
(عند) هنا، ليست للقرب المكاني لاستحالته، ولا بمعنى في علمه وحكمه، كما تقول: هذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - كذا، لعدم مناسبته للمقام، بل بمعنى القرب والشرف؛ أي ذووا زلفى ورنبة سامية، وزعم بعضهم: أن معنى في علم الله تعالى  مناسب للمقام لدلالته على التحقيق، أي أن حياتهم متحققة لا شبهة فيها، ولا يخفى أن المقام مقام مدح، فتفسير العندية بالقرب أنسب به (1).
10 - صفة اليد واليمين: قال الألوسي عند قوله تعالى: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عطف على مقدر يقتضيه المقام، أي كلا، ليس الشأن كما زعموا، بل في غاية ما يكون من الجود وإليه -كما قيل- أشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما تنتهي إليه هم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم، وقيل اليد هنا أيضًا بمعنى النعمة، وأريد بالتثنية نعم الدُّنيا ونعم الآخرة، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة، أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام وقبل: وروي عن الحسن أنَّها بمعنى القدرة كاليد الأولى، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب، وقيل: المراد بالتثنية التكثير، كما في قوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ كرتين} والمراد من التكثير مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها. لأنَّها متعددة، ونظير ذلك قول الشَّاعر:
سرت أسرة طرتيه فغورت ... في الخصر منه وأنجدت في نجدة
فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلَّا طرة واحدة، وإنَّما المراد المبالغة.
وقال سلف الأمة رضي الله عنهم أن هذا من المتشابه، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم، وقد صح عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أنَّه أثبت لله عز وجل يدين، وقال: (وكلتا يديه يمين) ولم يرو عن أحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - أن أوّل ذلك بالنعمة أو بالقدرة، بل أبقوها كما وردت وسكتوا، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن (2).
وقال عند قوله تعالى من سورة ص {يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف، تمثيل لكونه عليه السَّلام معتنى بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين، ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم، وكونه جسمًا صغيرًا انطوى فيه العالم الأكبر، وكونه أهلًا لأنَّ يفاض عليه ما لا يفاض عن غيره، إلى غير ذلك من مزايا الآدمية وعند بعض آخر منهم، اليد بمعنى القدرة، والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى، لأنَّها ترد لمجرد التكرير نحو (فأرجع البصر كرتين) فأريد به لازمه وهو التأكيد، وذلك لأنَّ الله تعالى في خلقه أفعالًا مختلفة من جعله طينًا مخمرًا، ثم جسمًا ذا لحم وعظم، ثم نفخ الروح فيه، وإعطائه قوة العلم والعمل، ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر، وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم، فقد يصدر منه أفعال ملكية، كأنها من آثار اليمين، وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال، وكلتا يديه سبحانه يمين، وعند بعض اليد بمعنى النعمة، والتثنية إما لنحو ما مر وإمَّا على إرادة نعمة الدُّنيا ونعمة الآخرة.
والسلف يقولون: اليد مفردة وغير مفردة، ثابتة لله عزَّ وجل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع أنَّها بمعنى القدرة أو النعمة. وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره، فقد ثبت في الصَّحيح أنَّه سبحانه قال: في جواب الملائكة اجعل لهم الدُّنيا ولنا الآخرة. وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خلق الله تعالى أربعًا بيده، العرش، وجنات عدن، والقلم وآدم وقال لكل شيء كن فكان (1) وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده، وفي حديث محاجة آدم، وموسى عليهما السَّلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده كذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له أنت آدم أبو النَّاس خلقك الله تعالى بيده.
ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في ما منعك أن تسجد على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ، كأنه قيل: ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده.
وزعم الزمخشري أن خلقت بيدي من باب رأيته بعيني، فبيدي لتأكيد أنَّه مخلوق لا شك فيه، وحيث أن إبليس ترك السُّجود لآدم عليه السَّلام لشبهة أنَّه سجود لمخلوق، وانضم إلى ذلك أنَّه مخلوق من طين، وأنَّه هو مخلوق من نار، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيمًا لأمر ربهم، وإجلالًا لخطابه، ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب، مع التَّنبيه على مزلة القدم، فكأنه قيل له: ما منعك من السُّجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقًا امتثالًا لأمري وإعظامًا لخطابي كما فعلت الملائكة، ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلَّا تأكيد المخلوقية، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب. مما لا يكاد يقبل، فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه، لا أن يقدم الإنكار أصلًا، ويأتي به كالرمز بل كالألغاز.
وأيضًا الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذلك وصف تعظيم لا كما زعمه، وأيضًا جعل سجود الملائكة لآدم راجعًا إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه السَّلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنَّه سجود تكريم، كيف وهو يقابل {أَتَجْعَلُ فِيهَا} وكذلك تعليمه إياهم، فليلحظ فيه جانب الأمر. تعالى شأنه. وجانب المسجود له عليه الصَّلاة والسلام توفية للحقين، وكأنه قال ما قال، وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس، حذرًا من خرم مذهبه، ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم، ويخصه بوجه، وحينئذ لا تدل على الأفضلية مطلقًا حتَّى يلزم خرم مذهبه، ولعمري أن هذا الرجل عق أباه آدم عليه  السَّلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالًا لما قرره في الآية، جعل فيه سقاط الحشم مثالًا لآدم عليه السَّلام، وبر عدو الله تعالى إبليس، حيث أقام له عذره وصوب اعتقاد أنَّه أفضل من آدم، لكونه من نار وآدم من طين، وإنَّما غلطه من جهة أخرى، وهو أنَّه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنَّه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة، ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لما مع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في هذا المقام، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام (1).
وقال عند قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْويَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.
والكلام عند كثير من الخلق تمثيل لحال عظمته تعالى ونفاذ قدرته عزَّ وجل وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إليها، بحال من يكون له قبضة، فيها الأرض جميعًا، ويمين بها يطوي السموات أو بحال من يكون له قبضة فيها الأرض والسموات، ويمين يطوي بها السماوات من غير ذهاب بالقبضة فيها إلى جهة حقيقة أو مجاز بالنسبة إلى المجرى عليه، وهو الله عز شأنه: وقال بعضهم: المراد التَّنبيه على مريد جلالته عزَّ وجل، وعظمته سبحانه بإفادة أن الأرض جميعًا تحت ملكه تعالى يوم القيامة، فلا يتصرف فيها غيره -تعالى شأنه، بالكلية كما قال سبحانه {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الحج: 56]، والسموات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصاها شيء.
وفيه رمز إلى أن ما يشركونه معه عزَّ وجل أرضيًا كان أم سماويًا، مقهور تحت سلطانه جل شأنه وعز سلطانه، فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف، كما يقال: بلد كذا في قبضة فلان، واليمين مجاز عن القدرة التَّامة، وقيل: القبضة مجاز عما ذكره ونحوه، والمراد باليمين القسم، أي والسموات مغنيات بسبب قسمه تعالى، لأنَّه عز وجل أقسم أن يفنيها وهو مما يهزأ منه لا مما يهتزُّ استحسانًا له.
والسلف يقولون أيضًا: إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته تعالى وعظمته سبحانه: ورمز إلى آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عز وجل، إلَّا أنهم لا يقولون: إن القبضة مجاز عن الملك والتصرف، واليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله عن الأعضاء والجوارح، ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه، وكذا يقولون في الأخبار الواردة في هذا المقام، فقد أخرج البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن ابن مسعود قال: جاء حجر من الأحبار إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنا نجد الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسار الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  حتَّى بدت نواجذه، تصديقًا لقول الحبر (1). ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} والمتأولون يتأولون الأصابع على الاقتدار وعدم الكلفة، كما في قول القائل: اقتل زيدًا بإصبعي، ويعد ذلك ظاهر ما أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، والبيهقيّ، وغيرهم عن ابن عباس قال: مر يهودي على رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو جالس، قال كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع السموات على ذه -وأشار بالسبابة. والأرضين على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، كل ذلك يشير بإصبعه، فأنزل الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وجعل بعض المتأولين الإشارة عائبة على التمثيل والتخييل، وزعم بعضهم أن الآية ردًّا على اليهودي حيث شبه وذهب إلى التجسيم، وإن ضحكه عليه الصَّلاة والسلام المحكى في الخبر السابق كان للرد أيضًا، وأن تصديقًا له في الخبر من كلام الراوي على ما منهم ما لا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر جدار وجعلوا أيضًا من باب الإعانة على التمثيل وتخييل العظمة، فعله عليه الصَّلاة والسلام حين قرأ الآية، فقد أخرج الشيخان، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، وجماعة عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْويَّاتٌ بِيَمِينِهِ}. ورسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: هكذا بيده ويحركها، يقبل بها ويدبر، ويمجد الرب نفسه أنا الجبار، أنا المتكبر، أن الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر حتَّى قلنا ليخرن به (2).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مقسم أنَّه نظر إلى ابن عمر كيف يحكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأخذ الله تعالى سماواته وأرضيه بيديه ويقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك" (3).
وفي شرح الصَّحيح للإمام النووي نقلًا عن المازري أن قبض النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أصابعه وبسطها، تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها، وحكاية للمبسوط المقبوض، وهو السموات والأرضون، لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة للقابض والباسط سبحانه وتعالى، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد، التي ليست بجارحة أ. هـ.
ثم إن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن قبض الأرض بعد طي السموات، وأنَّه بيد أخرى.
أخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يطوي الله تعالى السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمني ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون وأين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أين الجبارون أين المتكبرون" (4).
وفي الشَّرح نقلًا عن المازري أيضًا أن إطلاق اليدين لله تعالى متأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين، لأنَّ أفعالنا تقع باليدين، فخوطبنا بما نفهمه، ليكون أوضح وأوكد في النفوس، وذكر باليمين والشمال حتَّى يتم التأول: لأننا نتناول باليمين ما نكرمه، وبالشمال ما دونه، ولأن اليمين في حقنا تقوى لما لا تقوى له الشمال، ومعلوم أن السموات أعظم من الأرض، فأضافها إلى اليمين، وأضاف الأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة، وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئًا أخف عليه من شيء، ولا أثقل من شيء، والصوفية يقولون: بالتجلي الصوري، مع بقاء الإطلاق والتنزيه المدلول عليه بـ (ليس كمثله شيء). والأمر عليه سهل جدًّا، ثم إن التصرف في الأرض والسموات يكون، والنّاس على الصراط كما جاء في خبر رواه مسلم عن عائشة مرفوعًا (1).
وروى أيضًا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفؤ أحدكم خبزته في السَّفر نزلًا لأهل الجنَّة) (2). والكلام في هذا الخبر كالكلام في نظائره، وإياك من التشبيه والتجسيم، وكذا نسبة ذلك إلى السلف، ولا تك كالمعتزلة في التعامل عليهم والوقيعة فيهم، ويكفي دليلًا على جهل المعتزلة بربهم زعمهم أنَّه عزَّ وجل فوض العباد فهم يفعلون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يفعلون سبحانه وتعالى عما يشركون (3).
11 - صفة الفوقية: قال عند قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} قيل: هو استعارة تمثيلية وتصوير لقهر سبحانه وتعالى، وعلو عز شأنه، بالغلبة والقدرة، وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف، بأن شبه الغلبة بمكان محسوس، وقيل: إنَّه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة، وقيل: إن فوق زائدة، وصحح زيادتها -وإن كانت اسمًا- كونها، بمعنى (على) وهو كما ترى، والداعي إلي التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة، والله تعالى منزه عنها، لأنَّها محدثة بأحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضًا من كونه سبحانه في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى، كما نص عليه الإمام الطحاوي وغيره، واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل.
وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال: عن العباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله" (4).
وروى أبو داود عن جبير بن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي استشفع بالله تعالى عليه؛ ويحك. أتدري ما الله  تعالى؟ إن الله تعالى فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه مثل القبة وإن له أطيط الرحل الجديد بالراكب (1).
وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات (2).
وروى ابن ماجة يرفعه قال: بينا أهل الجنَّة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنَّة سلام عليكم: ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - (3) قوله تعالى {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فينظر إليهم وينظررون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما باتوا ينظرون إليه وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجارية:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النَّار مثوى الكافرين
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمين
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومين
فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال، وضحك منه (4). وكذا أنشد حسَّان بن ثابت - رضي الله عنه - قوله:
شهدت بإذن الله أن محمدًا ... رسول الذي فوق السموات من عل
وأن أبا يحيا ويحيا كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
وأن الذي عاد اليهود ابن مريم ... رسول أتي من عند ذي العرش مرسل
وأن أخا الأحقاف إذا قام فيهم ... يقوم بذات الله فيهم ويعدل
فقال النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: وأنا أشهد (1).
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى حكاية عن إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَينِ أَيدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أنَّه قال: لم يستطع أن يقول: ومن فوقهم لأنَّه قد علم أن الله سبحانه وتعالى من فوقهم) (2) والآيات والأخبار التي فيها تصريح بما يدل على الفوقية لقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، و {إِلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، و {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيهِ} [النساء: 158] و {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ} [المعارج: 4] وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم وأنت ظاهر فليس فوقك شيء- كثيرة جدًّا) (3).
وكذا كلام السلف في ذلك، فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسند إلى أبي مطيع البلخي أنَّه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأنَّ الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سماوات، فقال: قلت: فإن قال: إنَّه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض فقال رضي الله تعالى عنه: هو كافر، لأنَّه أنكر أن يكون في السماء، ومن أنكر أنَّه يكون في السماء فقد كفر وزاد غيره، لأنَّ الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل أ. هـ.
وأيد القول بالفوقية أيضًا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم ومن ذاته المقدسة. تعالى عن ذلك، فإنَّه الأحد، الصَّمد، الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنَّه خلقهم خارجًا عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذّات مع أنَّه قائم نفسه، غير مخالط للعالم، لكان متصفًا بضد ذلك، لأنَّ القابل للشيء، لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفلى، وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأن لا نسلم أنَّه قابل للفوقية، حتَّى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلًا للعلو والفوقية، لم يكن حقيقة قائمة بنفسها، فمتى سلم بأنه جل شأنه، ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعلم وأنَّه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيًا فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعًا، وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك، فهو إمَّا داخل العلم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهات فلا يستدل بدليل على ذلك إلَّا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها، ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، كان نفيها عين الباطل، لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى، وذكر محمَّد بن طاهر المقدسي: أن الشَّيخ أبا جعفر الهمذاني، حضر مجلس إمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله تعالى ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشَّيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنَّه ما قال عارف قط: يا الله، ألا وجد في  قلبه ضرورة بطلب العلو لا يتلفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا، قال: فلطم الإمام رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمذاني، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى الفرق، إنَّما هو لكون السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصَّلاة، ثم هو أيضًا منقوض بوضع الجبهة على الأرض، مع أنَّه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولًا: فلأن السماء قبلة الدعاء لم يقل به أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله تعالى به من سلطان، والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصَّلاة، فقد صرحوا بأن يستحب للداعي أن يستقل القبلة، وقد استقبل النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصَّلاة فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
وأمَّا ثانيًا: فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصَّلاة، وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلًا لا يسمى قبلة، فلو كانت السماء قبلة الدعاء، لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه، فما أفسد من نقض! ! فإن واضع الجبهة إنَّما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل، لا أن يميل إليه إذ هو تحته، بل هذا لا يخطر في قلب ساجد، نعم سمع عن بشر المريسي أنَّه يقول: سبحان رب الأسفل، تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون علوًا كبيرًا، وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى، بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل، كما يقال الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائل ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه، من جنس قوله: الثلج بارد: والنَّار حارة، والشمس أضوأ من السَّرَّاج، والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك.
وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل هو من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه، وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، على أن في ذلك تنقيصًا لله تعالى شأنه، ففي المثل السائر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل أن السيف خير من العصا
نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجًا على مبطل، كما في قول يوسف الصِّديق عليه السَّلام {أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] {اللَّهُ خَيرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]، فهو أمر لا اعتراض عليه، ولا توجه سهام الطعن إليه، والفوقية معنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضًا، وهي متحققة ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة، كما يثبتون فيه الذّات، ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال ذاته سبحانه وتعالى. منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه، ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفيًا ولا إثباتًا، لئلا يثبتوا فاسدًا أو ينفوا معنى صحيحًا، فهم يثبتون الفوقية كما  أثبتها الله تعالى لنفسه، وأمَّا لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أن لا موجود إلَّا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقًا، والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلَّا الله تعالى وحده فإذا قيل: إنَّه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنَّه فوق العالم حيث أنهت المخلوقات، ونفات لفظ الجهة الذي يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنَّه سبحانه كان قبل الجهة وأنَّه من قال: إنَّه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنَّه جل شأنه كان مستغنيًا عن الجهة ثم صار فيها وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنَّه سبحانه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم، وهو كلام حق، ولكن الجهة ليس أمرًا وجوديًا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه، والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده (1).
12 - صفة العين: قال عند قوله تعالى: {وَاصنَعِ {الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} والأعين حقيقة في الجارحة، وهي جارية مجرى التمثيل، كان لله سبحانه أعينًا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة والجمع للمبالغة وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل: معنى القلة وأريد به الكثرة وحينئذ يقوى أمر المبالغة وزعم بعضهم: أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي:
أفات بنو مروان ظلمًا دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
وقد جردوا ها هنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه وقيل: إن ملابسة العين كناية عن الحفظ، وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والمبالغة فيه، ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين فإن الأوَّل كناية عن الجود، والثَّاني عن المبالغة فيه، وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على مواضع حفظك ومعونتك والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه، والكلام فيه شهير، ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال: ما وصف الله تبارك وتعالى نفسه في كتابه فقراءته تفسيره، ليس لأحد  أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية (1).
13 - صفة المعية: قال عند قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تمثيل لإحاطة علم الله بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا، وقيل: المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السياق اللحاق، مع استحالة الحقيقة، وقد أول السلف هذه الآية بذلك.
أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنَّه قال فيهما: (عالم بكم أينما كنتم) وأخرج أيضًا عن سفيان الثوري أنَّه سئل عنها فقال: علمه معكم (2).
وفي البحر أنَّه أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنَّها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر وقد تأول هذه الآية وتأول الحجر الأسود يمين الأرض في الأرض ولو اتسع عقله لتأويل غير ذلك مما هو في معناه.
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنَّه قول على الله تعالى من غير علم ولا نؤول إلَّا ما أوله السلف ونتبهم فيما كانوا عليه، فإن أولوا أولنا، وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلمًا لتأويل غيره.
وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ويسخرون من القرآن الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق (3) " أ. هـ.
* التفسير والمفسرون: "بذل مجهوده حتَّى أخرجه للنَّاس كتابًا جامعًا لأراء السلف رواية ودراية مشتملًا على أقوال الخلف بكلِّ أمانة وعناية فهو جامع لخلاصة ما سبقه من التفاسير فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية وتفسير أبي حيان وتفسير الكشاف وتفسير أبو السعود وتفسير البيضاوي وتفسير الفخر الرَّازي ... والآلوسي سلفي المذهب سني الاعتقاد ولهذا نراه كثيرًا ما يفند آراه المعتزلة والشيعة وغيرهم من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهبه .. ولم يفت الآلوسي أن يتكلم عن التفسير الأشاري بعد أن يفرغ من الكلام على كل ما يتعلق بظاهر الآيات ومن هنا عد بعض العلماء تفسيره هذا في ضمن كتب التفسير الأشاري كما عُدَّ تفسير النيسابوري في ضمنها كذلك ولكني رأيت أن أجعلهما في عداد كتب التفسير بالرأي المحمود نظرًا إلى أنَّه لم يكن مقصودهما الأهم هو التفسير الأشاري بل كان ذلك تابعًا -كما يبدو- لغيره من التفسير الظاهر" أ. هـ.
* الألوسي مفسرًا: "يفسر الآلوسي مجموعة من الآيات تفسيرًا ظاهريًا على المبادئ التي عرضناها ثم يطبقها على ما في الأنفس أو الآفاق أو ما سماه بالتفسير الأشاري وهو عبارة عن فهم أمور معينة هي غير ظاهر الآيات مع الاعتقاد أن  الظاهر هو المقصود الأوَّل وهو في الحقيقة نوع من أنواع التفاسير الباطنية إلَّا أن الباطنيين يقولون إن الظاهر غير مقصود والباطن هو المقصود ... " أ. هـ.
* جهود علماء الحنفية: "من كبار الحنفية من الأسرة الألوسية المعروفة بالعلم والفهم ببغداد: له ولولده ولحفيده جهود عظيمة في قمع القبورية (1)، وحفيده أقوى، ثم ولده، أما هو فمع فضائله شحن تفسيره بإشارات صوفية مع طاقات أخرى غفر الله له ولنا" أ. هـ.
* قلت: وقد ذكر الشَّمس الأفغاني في كتابه "الماتريدية" صاحب الترجمة -الآلوسي المفسر- ضمن أئمة الإسلام الذين صرحوا بإجماع السلف على إثبات الصفات، وتقرير نصوصها بلا تأويل ولا تعطيل ... قال: "العلامة محمود الألوسي المفسر .. مفتي الحنفية ببغداد، ونصوصه قاطعة لأعناق الماتريدية" أ. هـ. يعني في رد تأويلهم للصفات، ثم قال الشَّمس الأفغاني في الهامش من الصفحة نفسها: "فله بحوث قيمة في تحقيق السلفية في الصفات ونقل الإجماع: انظر روح المعاني: (7/ 114) و (8/ 134) و (16/ 154) و (29/ 5) وفي ذلك عبرة للديوبندية والكوثرية" أ. هـ. ولكن الشمس الأفغاني ينقل إلينا في كتابه "الماتريدية" (3/ 80) في مناقشته للماتريدية في صفة "الكلام" ما ذهب إليه الألوسي فقال بعد قول الماتريدية: أن كلام الله تعالى هو الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ... إلى آخر كلامهم.: "وبهذا يتبين فساد زعم العلامة الآلوسي أن الماتريدي يرى أن موسى عليه السَّلام سمع كلام الله بحرف وصوت (2). انتهى لأنَّ الماتريدي والماتريدية لا يجوزون حرفًا، ولا صوتًا في كلام الله ولا سماعه .. " أ. هـ.
وفاته: سنة (1270 هـ) سبعين ومائتين وألف.
من مصنفاته: "روح المعاني" في التفسير تسع مجلدات كبيرة و "دقائق التفسير" و "مقامات" في التصوف والأخلاق، عارض بها مقامات الزمخشري وغيرها.












مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید