المنشورات

‌‌الغلو

الغلو في أصل الوضع اللغوي مجاوزة الحد والقدر في كل شيء والإفراط فيه. وهو مشتق من المغالاة، ومن غلوة السهم بفتح الغين وسكون اللام، وهي مدى رميته، يقال: غاليت فلانا مغالاة وغلاء بكسر الغين، إذا اختبرتما أيكما أبعد غلوة سهم.
وقد عرفنا مما سبق أن المبالغة بمعنى التبليغ هي إمكان الوصف المدعى عقلا وعادة، وأن الإغراق هو إمكان الوصف المدعى عقلا لا عادة.
أما الغلو في اصطلاح البديعيين فهو: امتناع الوصف المدعى عقلا وعادة. وعلى هذا فإذا كان الإغراق فوق المبالغة بمعنى التبليغ في تجاوز الحد والإفراط في الصفة المدعاة، فإن الغلو فوق المبالغة والإغراق من هذه الناحية.
ولعل ابن رشيق القيرواني (1) من أوائل من توسعوا في بحث «الغلو»، فقد تناوله في كتابه العمدة من جوانب متعددة ألّم فيها ببعض آراء سابقيه ومعاصريه وعلق عليها بما عنّ له شخصيا من آراء وأفكار.
فهو أولا يعارض من يرى أن فضيلة الشاعر إنما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلو، ولا يرى ذلك إلا محالا،
لمخالفته الحقيقة وخروجه عن الواجب والمتعارف.
وهو يوافق الحذاق القائلين: «خير الكلام الحقائق، فإن لم تكن فما قاربها وناسبها، وأنشد المبرد قول الأعشى:
فلو أن ما أبقين مني معلقا … بعود ثمام ما تأوّد عودها
فقال: هذا متجاوز، وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذ شبّه، وأحسن منه ما أصاب الحقيقة فيه».
وأصح الكلام عند ابن رشيق ما قام عليه الدليل، وثبت فيه الشاهد من كتاب الله، فقد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق، فقال جلّ من قائل: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ.
كما أتى على تعريف قدامة «للغلو» وهو: تجاوز في نعت ما للشيء أن يكون عليه، وليس خارجا عن طباعه. وعلى هذا تأويل أصحاب التفسير قوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، أي: كادت …
كذلك أورد رأي القاضي الجرجاني (1) في الإفراط، وخلاصته أن الإفراط مذهب عام في المحدثين وموجود كذلك لدى الأوائل، وأن الناس مختلفون فيه: من مستحسن قابل، ومستقبح راد، وأن له رسوما متى وقف الشاعر عندها، ولم يتجاوز بالوصف حدها سلم، ومتى تجاوزها اتسعت له الغاية، وأدته الحال إلى الإحالة، وإنما الإحالة نتيجة الإفراط، وشعبة من الإغراق.
وللحاتمي (1) في الغلو رأي ذكره ابن رشيق وهو: «وجدت العلماء بالشعر يعيبون على الشاعر أبيات الغلو والإغراق، ويختلفون في استحسانها واستهجانها، ويعجب بعض منهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرى أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضيلة له، فيقولون: أحسن الشعر أكذبه، وأن الغلو إنما يراد به المبالغة والإفراط، وقالوا: إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم فإنما يريد به المثل وبلوغ الغاية في النعت، واحتجوا بقول النابغة وقد سئل: من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد كذبه وأضحك رديئه.
وقد طعن قوم على هذا المذهب بمنافاته الحقيقة، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة».
ويعلق ابن رشيق على زعم القائلين بأن أبا تمام هو الذي توسع في باب الغلو وتبعه الناس بعد فيقول: «وأين أبو تمام مما نحن فيه؟ فإذا صرت إلى أبي الطيب- المتنبي- صرت إلى أكثر الناس غلوا، وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلى منه بيتا واحدا، وحتى تبلغ به الحال إلى ما هو عنه غنيّ، وله في غيره مندوحة كقوله:
يترشفن من فمي رشفات … هنّ فيه أحلى من التوحيد
وإن كان له في هذا تأويل ومخرج بجعله التوحيد غاية المثل في الحلاوة بفيه …» (2)

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البديع

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید