المنشورات

‌‌الالتفات

لعل الأصمعي «214 هـ» أول من ذكر «الالتفات»، فقد حكى عن إسحاق الموصلي أنه قال: قال لي الأصمعي: أتعرف التفات جرير؟ قلت:
وما هو؟ فأنشدني قوله:
أتنسى إذ تود عنا سليمى … بعود بشامة؟ سقي الغمام
أما تراه مقبلا على شعره، إذ التفت إلى البشام فذكره فدعا له (1).


وقد عدّ ابن المعتز «الالتفات» من محاسن الكلام وبديعه، فعرفه ومثل له بعدة أمثلة من القرآن الكريم والشعر. ففي تعريفه له يقول:
«الالتفات هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر» (2).
ثم مثل لانصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، أو بعبارة أخرى لانصرافه عن الخطاب إلى الغيبة بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
فالالتفات في الآية الكريمة هو في قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وعن هذا الالتفات يقول ابن الأثير:
«فإنه إنما صرف الكلام ههنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم ولو أنه قال حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية، لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة» (1).
ومثل ابن المعتز كذلك لانصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، أو بعبارة أخرى لانصرافه عن الغيبة إلى الخطاب بقول جرير:
طرب الحمام بذي الأراك فشاقني … لا زلت في علل وأيك ناضر (2)
فجرير قد أخبر عن الغائب في الشطر الأول وهو «الحمام»، ولكنه في الشطر الثاني انصرف عن الاستمرار في خطاب هذا الغائب والتفت إلى مخاطبته بقوله «لا زلت في علل وأيك ناضر» لزيادة فائدة في المعنى هي الدعاء للحمام.
أما النوع الثالث من الالتفات عند ابن المعتز وهو انصراف المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر فقد مثل له بقول أبي تمام:
وأنجدتمو من بعد اتهام داركم … فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
فالشاعر، وهو المتكلم هنا، يخبر من يخاطبهم بأنه يعلم أنهم قد اتخذوا دارهم في نجد بعد أن كانت في تهامة، ثم ينصرف أو يلتفت بعد ذلك إلى معنى آخر يتمثل في دعاء الدمع ومطالبته بأن يسعفه على ساكني نجد.


وجاء قدامة بن جعفر بعد ابن المعتز فعد «الالتفات» من نعوت المعاني وعرّفه بقوله: «الالتفات أن يكون الشاعر آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه أو ظن بأن رادا يرد عليه قوله، أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا إلى ما قدمه، بمعنى يلتفت إليه بعد فراغه، فإما أن يذكر سببه أو يجلي الشك فيه» (1).
ومن أمثلة ذلك عنده قول المعطل الهذلي:
تبين صلاة الحرب منا ومنهمو … إذا ما التقينا والمسالم بادن (2)
فقوله: «والمسالم بادن» رجوع عن المعنى الذي قدمه حين بيّن أن علامة «صلاة الحرب» من غيرهم أن المسالم يكون بادنا والمحارب ضامرا.
ومن أمثلته أيضا قول الرماح بن ميادة:
فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة … ولا وصله يبدو لنا فنكارمه (3)
فكأنه يقول: «وفي اليأس راحة» والتفت إلى المعنى لتقدير أن معارضا يقول له: وما تصنع بصرمه أي هجره؟ فيقول مبينا علة ما يرجوه من انكشاف صرمه وهجره: لأنه يؤدي إلى اليأس، وفي اليأس راحة

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البديع

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید