المنشورات

‌‌لزوم ما لا يلزم

هذا النوع من البديع اللفظي سماه قوم «الالتزام» و «لزوم ما لا يلزم»، وقد عده ابن المعتز من محاسن الكلام ومثل له، وعرفه بأنه «إعنات الشاعر في القوافي وتكلفه من ذلك ما
ليس له».
ومن أمثلته عنده قول الشاعر:
يقولون في البستان للعين لذة … وفي الخمر والماء الذي غير آسن
فإن شئت أن تلقى المحاسن كلها … ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
وقد عرف القزويني لزوم ما لا يلزم بقوله: «هو أن يجيء قبل حرف الروي أو ما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في السجع». ومعنى هذا أن يلتزم الناثر في نثره أو الناظم في نظمه بحرف قبل حرف الروي أو بأكثر من حرف بالنسبة إلى قدرته مع عدم التكلف.
ولزوم ما لا يلزم من فنون البديع اللفظي الذي يرد في النثر والنظم على السواء، وقد ورد في القرآن الكريم شيء منه إلا أنه يسير جدا.
فمن ذلك قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وقوله تعالى: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ وقوله تعالى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ وكالفاصلتين الأخيرتين من قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. وعلى هذا النحو قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ.
ومن أمثلته نثرا قول ابن الأثير في مستهل كتاب إلى بعض الإخوان:
«الخادم يهدي من دعائه وثنائه ما يسلك أحدهما سماء والآخر أرضا، ويصون أحدهما نفسا والآخر عرضا» فاللزوم هنا في الراء والضاد ومنه قول الحريري في المقامة الوبرية: «حكى الحارث بن همام، قال: ملت في ريّق زماني الذي غبر، إلى مجاورة أهل الوبر، لآخذ أخذ نفوسهم الأبية، وألسنتهم العربية، فأوطنوني أمنع جناب، وفلّوا عني حد كل ناب …» (1).
ومنه قول بديع الزمان الهمذاني في مقامته الجاحظية التي ينقد فيها كلام الجاحظ على لسان عيسى بن هشام: «فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتهم له لفظة مصنوعة أو كلمة مسموعة؟» (2). فمن كلام الحريري وبديع الزمان ما التزم فيه بحرف أو أكثر قبل حرف الروي.
ومن أمثلة لزوم ما لا يلزم في الشعر قول شاعر جاهلي:
عصاني قومي والرشاد الذي به … أمرت ومن يعص المجرب يندم
فصبرا بني بكر على الموت إنني … أرى عارضا ينهل بالموت والدم
فاللزوم هنا في الميم والدال.
ومنه قول أبي تمام:
خدم العلا فخدمته وهي التي … لا تخدم إلا قوام ما لم تخدم
فإذا ارتقى في قلة من سودد … قالت له الأخرى: بلغت تقدم وقوله أيضا:
ولو جربتني لوجدت خرقا … يصافي الأكرمين ولا يصادي (1)
جديرا أن يكر الطرف شزرا … إلى بعض الموارد وهو صادي
فاللزوم في المثال الأول لأبي تمام في الميم والدال، وفي المثال الثاني في الدال والألف والصاد.
ومن الشعر العذب الذي لا كلفة عليه في باب اللزوم قول الحماسي:
إن التي زعمت فؤادك ملها … خلقت هواك كما خلقت هوى لها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها … بلباقة فأدقها … وأجلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي … ما كان أكثرها لنا وأقلها!
وإذا وجدت لها وساوس سلوة … شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
فاللزوم في الهاء واللام.
ومن الشعراء المتقدمين الذين مالوا إلى اللزوم في شعرهم كثير عزة، ومن شعره الذي التزم فيه ما لا يلزم قصيدة تربو على عشرين بيتا منها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا … قلوصيكما ثم احللا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما الهوى … ولا موجعات الحزن حتى تولت
هنيئا مريئا غير داء مخامر … لعزة من أعراضنا ما استحلت
فما أنا بالداعي لعزة بالجوى … ولا شامت إن نعل عزة زلت
وإني وتهيامي بعزة بعد ما … تخليت مما بيننا … وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما … تبوأ منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابة ممحل … رجاها فلما جاوزته استهلت
فإن سأل الواشون: فيم هجرتها؟ … فقل: نفس حر سلّيت فتسلت (1)
وممن مالوا إلى اللزوم من المتقدمين أيضا عبد الله بن الزبير الأسدي، وذلك كقوله من قصيدة في مدح عمرو بن عثمان بن عفان:
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي … أيادي لم تمنن وإن هي جلت (2)
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه … ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت (3)
رأى خلّتي من حيث يخفي مكانها … فكانت قذى عينيه حتى تجلت (4)
فاللزوم في شعر كثير عزة وابن الزبير الأسدي هو في التاء واللام المشددة.


والتزام ما لا يلزم لدى المتقدمين كما يبدو من شعرهم يأتي عفو الخاطر غير مقصود ولا متعمد، ولذلك لا يرى عليه من أثر الكلفة أو الصنعة شيء.
أما المتأخرون فتوسعوا فيه وأكثروا منه، ومنهم من تعمده وقصد إليه قصدا، كأنما يريد أن يدل بذلك على مقدرته في النظم وسعة إحاطته باللغة ومفرداتها.
ومن أولئك الشعراء أبو العلاء المعري فله في هذا النوع من الشعر  ديوان كامل سماه «اللزوميات» أتى فيه بالجيد الذي يحمد، والرديء الذي يذم.
ومن شعره الذي التزم في قافيته ما لا يلتزم قوله:
أرى الدنيا وما وصفت ببر … إذا أغنت فقيرا أرهقته
إذا خشيت لشر عجلته … وإن رجيت لخير عوقته
حياة كالحبالة ذات مكر … ونفس المرء صيدا أعلقته
فلا يخدع بحيلتها أريب … وإن هي سورته ونطقته
أذاقته شهيا من جناها … وصدت فاه عما ذوقته
فاللزوم هنا في الهاء والتاء والقاف

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البديع

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید