المنشورات

" قاهر التتار" (سيف الدين قطز)

" واإسلاماه. . . واإسلاماه. . . واإسلاماه"
(قطز)
هناك من المصريين من لا يفتخر بكونه مسلمًا بقدر ما يفتخر بكونه من الفراعنة الذين كان منهم فرعون المجرم الذي رأينا بعض أشكال إجرامه مع زوجته وماشطة ابنته، ونسي هؤلاء الذين يفتخرون بالأهرامات بأن تلك الأهرامات لم تكن سوى قبور الفراعنة التي سخروا من أجلها شعبهم بأسره لعشرات السنين لينعم الفرعون بقبرٍ يليق به! وصدق اللَّه عز وجل حين وصف قوم فرعون فأحسن وصفهم بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)}، وأما القسم الآخر من مسلمي مصر فيعتقد أن سرَّ عظمة المصريين يكمن في أرض مصر نفسها وليس في الإسلام الذي جعل منهم أناسًا عظماءً، فذكروا أن سر عظمة المصريين ينبع من كون أن كلمة "مصر" وردت في القرآن خمس مرّات! ولم يعلم هؤلاء أن أن اللَّه ذكر ثمود وعاد ومدين أكثر من ذكر مصر، وأن ذكر أرض مصر جاء في القرآن على سبيل القصص في معرض قصتي نبيي اللَّه موسى ويوسف عليهما السلام، وأن من بين تلك المرات الخمس قول موسى لبني إسرائيل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}. وعزى قسمٌ ثالث من المصريين سرّ عظمتهم إلى "ماء النيل"، وأعجبتهم كثيرًا مقولة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) الذي زعم أن مصر هبة النيل. ولكن الشيء المهم الذي نسيه كل هؤلاء هو الإنسان المصري المسلم نفسه!
فالإنسان المصري المسلم لم ينقذ الإسلام فحسب من خطر التتار، بل أنقذ البشرية بأسرها من شرهم! فالجيش المصري البطل هو صانع انتصار معركة "عين جالوت المجيدة"، والتي قضت على أسطورة الجيش المغولي الذي لا يُقهر، هذه المعركة الخالدة خاضها أبناء الكنانة تحت قيادة عظيم إسلامي سطر اسمه في سجل الخلود الإسلامي بكل جدارة واستحقاق، إننا تنكلم عن الملك المظفر سيف الدين قطز.
وقبل الحديث عن هذا البطل العظيم ما قدمه للإسلام، ينبغي علينا أولًا أن نتكلم قليلًا عن قصة التتار، وذلك لما في هذه القصة من تشابه عجيب بين أحداثها وبين الأحداث التي نعيشها الآن، فحال المسلمين وقت التتار يشبه إلى حدٍ بعيد حال المسلمين الآن، والخونة الذين فتحوا أبواب بغداد للتتار سنة 1258 م هم نفسهم الخونة الشيعة الذين فتحوا أبواب بغداد للغزاة سنة 2003 م، والتحالف الدولي على المسلمين من التتار والصليبيين يشبه ما نراه الآن على الساحة الدولية، كما أن معرفة مقدار القوة التي وصل إليها التتار قبل عين جالوت يوضح لنا مدى عظمة هذا القائد الرباني العظيم الذي أنقذ هو وجنوده العنصر البشري بشكلٍ عام من وحشية التتار.
وقصة التتار تبدأ سنة 603 هـ من على قمم "جبال خنتي" في أرض "منغوليا" الواقعة شرق آسيا، هناك ظهر رجلٌ مغولي اسمه (تيموجين)، وهو نفس الرجل الذي أطلق التتار عليه فيما بعد اسم (جنكيزخان) وهي كلمة تعني: (قاهر العالم) باللغة المنغولية. وكان هذا الرجل سفاحًا مجرمًا، لا هم له في الحياة إلا القتل والتخريب، فالعجيب في قصة التتار أن الجيش التتري لم يكن يأخذ الغنائم أبدًا، بل كان هدف التتار من حروبهم تلك هو القتل لمجرد القتل! فكان التتار يقتلون كل كائنٍ حيٍ يجدونه أمامهم، لا يفرقون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، مدني أو محارب، وكأنهم حيوانات متوحشة تعشق رائحة الدماء وحسب! ولقد وصفهم المؤرخ الإسلامي (الموفق عبد اللطيف) في "خبر التتار" بقوله: "وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال! ". والمضحك في الأمر أن (مايكل هارت) صاحب كتاب "العظماء المائة" صنف المجرم (جنكيز خان) ضمن عظمائه المائة!
وما هي إلا سنيّات قليلة حتى استطاع التتار بوحشيتهم أن يبنوا إمبراطورية كبيرة ممتدة من "كوريا" شرقًا إلى "بولندا" غربًا ومن "سيبيريا" شمالًا إلى "كمبوديا" جنوبًا، قبل أن تتحرك غريزة الخيانة المغروسة في كيان الشيعة لكي يراسلوا (هولاكو خان) قائد المغول والمعروف اختصارًا (هولاكو) ليطلبوا منه القدوم "لتحريرهم من نير الديكتاتورية الإسلامية! "، فما إن تشيع الخليفة العباسي (الناصر لدين اللَّه)، حتى كان أول شيء صنعه هو اتباع الخاصية اللأولى للشيعة: الخيانة!! فلقد ذكر المؤرخ العظيم (الحافظ ابن كثير) في كتابه الرائع "البداية والنهاية" أن هذا الملك المتشيع قام بمراسلة التتار لكي يطمعهم ببلاد المسلمين، إلا أن هولاكو لم رفض العرض الشيعي بدخول عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد خوفًا من أن تحل عليه لعنة من السماء (كما نصحه بذلك حكماء المغول)، فما كان من شيخ الطائفة الشيعة الأكبر عبر التاريخ (نصير الدين الطوسي) إلا أن تطوع لطمأنة هولاكو بدخول بغداد، وإخباره بأن شيئًا من الأذى لن يصيبه إذا ما قتل الخليفة العباسي، وفي نفس الوقت قام الخائن الأعظم في تاريخ الشيعة الاثني عشرية الوزير الشيعي (مؤيد الدين بن العلقمي) بفتح أبواب بغداد للمغول مقابل عرضٍ يجعله فيه هولاكو واليه في المدينة المنورة لكي ينبش قبر أم المؤمنين عائشة وقبر أبي بكر وعمر (وربما قبر رسول اللَّه أيضًا!)، وطلب الخائن ابن العلقمي من خونة الشيعة في العراق رفع رايات مميزة فوق بيوتهم عند ساعة الصفر لكي يقتل التتار المسلمين السنة فقط، وفي يوم 4 صفر من سنة 656 هـ الموافق لـ 20 فبراير من سنة 1258 م دخل التتار بغداد أكبر مدينة في العالم آنذاك، فقتل التتار 1000000 مسلم خلال أربعين فقط بفضل خيانة الشيعة، وكأن التاريخ يعيد نفسه! بل وكأن الأرقام تعيد نفسها! وتعفنت الجثث في شوارع بغداد، وحرق التتار الهمجيون "مكتبة بغداد" أكبر مكتبة في العالم، وأصبح الطريق مفتوحًا أمام المغول لتدمير "الكعبة" بعد أن احتلوا الشام، وصار مصير الإسلام -وليس المسلمين فقط- لأول مرة في التاريخ مهددًا بالفناء، قبل أن يحدث شيءٌ عجيب!
فلقد بعث اللَّه للأمة رجلًا اسمه (محمود بن ممدود الخوارزمي)، هذا الرجل عُرف في التاريخ باسم آخر هو: (سيف الدين قطز)! وقصة قطز تمثل ترجمة فعلية لقول رب العالمين: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}، فكما أن فرعون هو الذي ربى موسى في بيته لكي يدمره بعد ذلك، فإن التتار هم الذين صنعوا قطز، بل هم الذين أطلقوا عليه اسم (قطز) ويعني "الحيوان المتوحش"، وذلك بعد أن لاحظوا أنه طفل متمرد، وقطز هو ابن أخت (جلال الدين بن خوارزم شاه) ملك "المملكة الخوارزمية الإسلامية" في آسيا الوسطى، والتي كانت أول ضحايا التتار، فقد قام التتار بقتل جميع أهل قطز وإبقائه حيًا لكي يبيعوه بعد ذلك في سوق النخاسة، والمضحك في القصة أن التتار أنفسهم هم الذين نقلوه من مجاهل آسيا الوسطى إلى أرض الشام بالتحديد والتي سوف ستشهد تدمير إمبراطوريتهم على يدي نفس ذلك الطفل الذي نقلوه هم بأيديهم إلى هذه الأرض!!! فقد قام الملك الأيوبي المجاهد (نجم الدين أيوب) رحمه اللَّه بشراء قطز وغيره من العبيد ليربيهم تربية دينية وعسكرية صارمة، ليكون كتيبة ربانية مجاهدة من أعظم الكتائب التي عرفتها أمة محمد، هذه الكتيبة الخاصة عُرفت فيما بعد باسم "المماليك".
والحقيقة أن سر اختياري لقطز ليكون ضمن قائمة المائة لا ينبع لمجرد انتصاره في معركة "عين جالوت" الخالدة التي أنهت الزحف المغولي إلى الأبد، بل إن السر الحقيقي لعظمة هذا العملاق الإسلامي يتمثل في إمكانية هذا الرجل بمفرده من تغيير حال أمة بأسرها من قمة الهزيمة إلى قمة النصر، كل هذا في أحد عشر شهرًا وثلاثة عشر يومًا هي كل مدة حكم سيف الدين قطز! وهذا الذي نحاول دراسته في هذا الكتاب "كيفية بناء الأمة بعد انكسارها"، فقطز كان رجلًا واحدًا، ولكنه كان رجلًا بأمة، وعين جالوت ما هي إلا نتيجة، ولكن الأهم منها هو العمل الذي أدى لعين جالوت! ولنستمع الآن إلى رسالة الإنذار التي بعثها هولاكو لقطز قبل عين جالوت والتي حملها له أربعون سَفيرًا من وحوش التتار:
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائد الأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحن جند اللَّه في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى.
وما إن قرأ قطز رسالة التهديد التترية حتى قتل جميع السفراء المغول ثم علق رؤوسهم في شوارع القاهرة لكي يرفع الروح المعنوية في أوساط الشعب المصري الذي كانت تأتيه أخبار التتار المخيفة، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 658 هـ، وبشروق الشمس، أضاءت الدنيا على فجر جديد انبثق من سهل عين جالوت، فالتقى المسلمون والتتار هناك، ليقاتل قطز بنفسه بين صفوف الشعب، ليتفاجأ المسلمون بأعداد الجيش التتري الهائلة والمخيفة، وفعلًا كاد التتار أن ينتصروا بالفعل، عندها أدرك الفارس الإسلامي البطل قطز أن الإسلام هذه المرة مهددٌ كدين على وجه الأرض، فإذا سقطت مصر، سقطت آخر قلاع المسلمين في الكرة الأرضية، لتصبح بعدها مكة والمدينة تحت رحمة المغول وعملائهم من الشيعة، عند هذه اللحظة. . . توقفت ساعة الزمن عن الدوران في وجدان وكيان هذا المجاهد الإسلامي، فنزل سيف الدين قطز من على ظهر فرسه وأخذ يصيح في السماء بصوتٍ زلزل الأرض:
واإسلاماه. . . . واإسلاماه
واإسلاماه
ثم خلع الملك المظفر قطز خوذته ومرَّغ رأسه على التراب وهو يتضرع للَّه قائلًا: "يا اللَّه. . . انصر عبدك قطز على التتار! فما إن انتهى قطز من دعائه، حتى دارت رحى الحرب في صالح المسلمين، فانتصر الجيش المصري، تحت قيادة القائد التركي، على أرض فلسطين المباركة، لتعلو بذلك راية الإسلام العالمي إلى الأبد!
ولكن. . . . ما هي الخطوات المنهجية التي قام بها قطز رحمه اللَّه ليحول حال الأمة من حالة الهزيمة إلى حالة النصر؟ ومن هو ذلك الشيخ المغربي الذي كان هو الصانع الحقيقي لهذا النصر؟ وكيف كان قطز لا يتخذ أيَّ قرارٍ بدون الرجوع إليه؟ ولماذا أطلق عليه المؤرخون لقب "سلطان العلماء"؟
يتبع. . . . .




مصادر و المراجع :

١- مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

المؤلف: جهاد التُرباني

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید