المنشورات

(أبو هريرة)

" أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول اللَّه وأحفظنا لحديثه"
(عمر بن الخطاب)
في السنة العاشرة من البعثة النبوية، قدم إلى مكة سيدٌ من أعظم أشراف اليمن وشعرائها يقال له: (الطفيل بن عمرو الدوسي)، فما إن وصل مكة حتى استقبلته قريشٌ استقبالًا يليق بسيدٍ من سادات العرب، وبينما هو بينهم اقتربوا منه ليحذروه من رجلٍ من بني هاشم اسمه محمد بن عبد اللَّه قائلين له: "يا طفيل. . . . إنك قدمت بلادنا، فاحببنا أن نحذرك من رجلٍ ظهر في قومنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئًا! " وظل كفار قريش يحذرون هذا السيد اليماني حتى خاف بالفعل وقرر في نفسه أن لا يسمع من ذلك الرجل ولا يكلمه بأي شيء، ليس ذلك فحسب، بل إن آلة قريش الإعلامية خوفت هذا الرجل الغريب من ذلك (الإرهابي) لدرجةٍ جعلت الطفيل يحشو أذنيه بشيء مثل القطن حتى لا يسمع شيئًا من ذلك الرجل! فانطلق الطفيل إلى الكعبة، فإذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة ويتعبد، فقام الطفيل منه قريبًا، فأبى اللَّه إلا أن يسمعه بعض قوله بالرغم من أن أذنيه محشوتان بالقطن، فسمع الطفيل كلاما حسنًا، فقال في نفسه: "واثكل أمك يا طفيل! واللَّه إنك لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليك الحسن من القبيح، فما يمنعنك أن تسمع من هذا الرجل ما يقوله، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته! " فمكث الطفيل يستمع خفية إلى الرسول حتى انصرف إلى بيته، فتبعه الطفيل سرًا، حتى إذا دخل بيته دخل عليه وقال: "يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا، فواللَّه ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبي اللَّه إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فأعرض علي أمرك" فعرض عليه رسول اللَّه الإِسلام وتلا عليه القرآن، ويقول الطفيل وهو يروي هذه القصة: "فلا واللَّه ما سمعت قولًا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت، وشهدت شهادة الحق". وبعد ذلك رجع الطفيل بن عمرو الدوسي إلى اليمن وأخذ يدعو قومه للإسلام، حتى جاءت السنة السابعة للهجرة، فتفاجأ المسلمون بمجيئ الطفيل بن عمرو الدوسي بسبعين عائلة من أهل اليمن أسلموا كلهم على يديه! كان من بينهم شاب نحيل لم يتجاوز الـ 26 من عمره تبدو عليه ملامح الفقر المتقع والبؤس الشديد اسمه: (عبد الرحمن بن صخر الأزدي)، كانت له هرة صغيرة يحملها على كتفيه يطعمها ويعطف عليها، ستصبح فيما بعد أشهر هرةٍ خلقها اللَّه منذ بداية الخلق، فلقد كنّى الناس هذا المسكين بـ (أبي هريرة)، وهو نفس الاسم الذي سيتردد بعد ذلك في سجل العظماء إلى يوم القيامة. وقبل أن نغوص أكثر في قصة هذا الشاب الرائع، أستسمح القارئ الكريم عذرًا لنقف قليلًا عند قصة إسلام السيد العظيم الطفيل ابن عمرو الدوسي رضي اللَّه عنه وأرضاه، والحق أقول أن هذه القصة لها دلائل عظيمة يصعب حصرها, ولكن الملاحظة المهة هي أن الكفار شوّهوا صورة الإِسلام وصورة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لدرجة دفعت هذا السيد الشاعر أن يحشو أذنيه بالكرفس خوفًا من ذلك الرجل المسلم الذي صورته "وكالات الأنباء القرشية" بـ "الإرهابي الخطير! "، فلم يكتفِ اللَّه سبحانه وتعالى بأن جعله مسلمًا فحسب، بل جعله سببًا لإسلام أبي هريرة، أعظم "وكالة أنباء" إسلامية في التاريخ الإِسلامي بأسره! وكأن هذه القصة تفسر قول اللَّه تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولاحظ هنا أن اللَّه قال "بأفواههم"، والفوه -أي الفم- هو مصدر الكلام والدعايات، فما أشبه اليوم بالأمس! فلا تكاد تجد وسيلة إعلام عالمية حتى تجد أمامك تشويه مخيف لصورة المسلمين، فأبشروا عباد اللَّه بفتحٍ قريب، كالفتح الذي جاء به الطفيل بن عمرو الدوسي جزاه اللَّه خيرًا، والذي ربّما لو لم تذكر له قريش محمدًا، لما استمع إليه أصلًا، ولما جاء بعد ذلك بأبي هريرة أكثر من نقل حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على وجه البرية. وإذا كان المرء قد تعجب من قصة "ذي النور" الطفيل ابن عمرو الدوسي رضي اللَّه عنه وأرضاه، فإن المرء ليتعجب أكثر من قصة أبي هريرة نفسه! فعبد الرحمن الأزدي والذي لا يخلو كتاب يتحدث عن الإِسلام من ذكر كنيته الشهيرة "أبي هريرة"، لم يصحب الرسول لأكثر من 4 سنوات فقط من أصل 23 سنة هي عمر الدعوة المحمدية، وهو مع ذلك أكثر من نقل الحديث من الصحابة!. . . . فكيف نفسر ذلك؟! والحقيقة أن اللَّه تعالى وعلى الرغم من قدرته اللامحدودة يسخر الأسباب لكل شيء، فكما كان عمى البخاري سببًا في قوة ذاكرته، فإنه سبب الأسباب أيضًا لعبده أبي هريرة لكي يحفظ هذا القدر الكبير من الأحاديث في تلك الفترة الوجيزة (حوالي 4026 حديث)، فلقد كان أبو هريرة مسكينًا لا يملك تجارة يعمل بها ولا أرضا يحرثها ولا عائلة يرعاها! أي أن أبا هريرة كان باختصار شابًا معدمًا لا يملك حتى قوت يومه، لذلك استغل كل وقته في صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولِندع طلحة بن عبيد اللَّه يفسر لنا سر كثرة أحاديث أبي هريرة بنفسه: "واللَّه ما نشك أنه قد سمع من رسول اللَّه ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول اللَّه طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول اللَّه وكان يدور معه حيث دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع".
فجزاك اللَّه كل خير يا أبا هريرة لما قدمته للإسلام وللمسلمين، وإن كنت مسكينًا في حياتك، فهنيئًا لك الجنة أيها الشاب اليماني البطل، فأبشروا يا أهل اليمن، فواللَّه لو لم يكن فيكم إلا أبو هريرة لكفاكم شرفًا في التاريخ, ولكنكم أيها اليمانيون أبيتم إلا أن تقدِّموا للأمة أعظم رجالها، وأشجع فرسانها، فبورك فيكم يا أهل اليمن، وبورك في يمنكم التي أخرجت للبشريية بعد ما يزيد عن أحد عشر قرنًا من موت أبي هريرة اليماني عظيمًا يمانيًا آخر من عظماء أمة الإِسلام، خلّد اسمه في سجل المائة بكتاب عظيمٍ يحمل توقيعه، أطلق عليه اسم "نيل الأوطار"، فطار ذكره، وعلا صيته، وأصبح مرجعًا لا يستغني عنه أي طالب العلم!
يتبع. . . . "يا أهل اليمن. . . . اقبلوا البشرى! "





مصادر و المراجع :

١- مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

المؤلف: جهاد التُرباني

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید