المنشورات

(الإمام الشوكاني)

" يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خيار من في الأرض"
(رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)
ما اختص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل أرضٍ بالمديح والثناء، بمثل ما اختص به أهل الشام وأهل اليمن، فلقد أكثر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدعاء لأهل تلك البلاد بالذات، فكان يكثر بالدعاء لهم بالبركة عن باقي شعوب الأرض، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- أنه قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا" إلى آخر الحديث. وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يماني، والحكمة يمانية". والحقيقة أنني استشعرت شخصيًا معنى هذا الحديث الشريف من خلال معاشرتي للشباب اليمانيين في أوروبا، فالشباب اليماني له ميزة خاصة في الأدب ودماثة الأخلاق قلّما تجدها في غيرهم، ولا ريب من ذلك بعد أن شهد لهم أصدق رجل في تاريخ البشرية بامتلاكهم لهذه الأخلاق الحميدة، فهذه الأرض هي التي أنبتت للمسلمين رجالًا مثل الطفيل بن عمرو الدوسي وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأويس القرني وغيرهم من صحابة اليمن رضوان اللَّه عليهم أجمعين، وهذه الأرض هي التي خرج منها المجاهدون الذين فتحوا الشام ومصر والعراق، وهذه الأرض هي التي خرج منها التجار الحضارمة الذين نشروا الإِسلام في أفريقيا الشرقية وأندونيسيا وماليزيا وجنوب شرق آسيا كله، وهذه الأرض هي نفسها التي أنبتت للإسلام بطل قصتنا الحالي!
ففي سنة 1173 هـ الموافق 1759 م، وُلد في بلدة "هجرة شوكان" من بلاد "خولان" باليمن طفل لعائلة زيدية كبيرة أسماه أبوه محمدًا، هذا الطفل سينسب بعد ذلك إلى بلدته تلك، ليعرف في التاريخ باسم "الإِمام الشوكاني"، فيكون بذلك من أهم علماء الإِسلام على الإطلاق، بعد أن ترك كتابًا للإنسانية، صُنّف كواحدٍ من أروع كتب العقيدة الإِسلامية، إننا نتحدث عن الإِمام المجتهد المفسر الفقيه (محمد بن علي ابن محمد الشوكاني الصنعاني اليماني) صاحب الكتاب الأعجوبة "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار".
واستسمحكم مرة أخرى. . . . . لنقف قليلًا قبل الخوض في بحار سيرة الشوكاني، ولكن هذه المرة لكي نأخذ خلفية بسيطة عن إخواننا من المذهب الزيدي الذي ينتمي إليه الإِمام الشوكاني، أو بالأصح المذهب الذي كان ينتمي إليه الشوكاني قبل أن يرجع لأصول هذه الأمة التي لا تعرف المذاهب، وأحدد أكثر، المذهب الذي وُلد عليه الشوكاني قبل أن يتركه ويترك كل المذاهب ليعود إلى الدين الإِسلامي الذي كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين قبل إنشاء الفرق والمذاهب!
فالزيدية مذهب من مذاهب الشيعة، إلا أنهم لا يتركون بناتهم للمتعة، ولا يسبُّون أبا بكر وعمر، ولا يتهمون زوجات الرسول بالزنى، والأهم من ذلك. . . . لا يخونون! أي أنهم أقرب للسنة منهم للشيعة، إلا أنهم يرون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر! وهذا شيء لا يخرجهم أبدًا من دائرة الإِسلام، ولا يخرجهم من كونهم إخوة لنا (وهذا لا يعني أنهم على حق باعتقادهم بأفضلية علي!). أما لماذا سمّوا بالزيدية، فلإنهم ينتسبون إلى الإِمام (زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، وقد كان إمام كل الشيعة في زمانه، ولكن طائفة من أتباعه سألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فترحَّم عليهما، فأبوا عليه ذلك وطلبوا منه أن يلعنهما، فرفض حفيد رسول اللَّه أن يلعن أصحاب جده، فرفضوه، وانشقُّوا عن فرقته، وتلك الفرقة اللعّانة هي التي سمِّيت في التاريخ باسم الرافضة، ذلك لأنهم رفضوا رأي زيد بن علي، وهؤلاء سيكون منهم من يؤسّس بعد ذلك مذهب "الاثني عشرية"، وهم أغلبية الشيعة في هذا الزمان وهو مذهب شيعة فارس وأتباعها والذي قتلناه بحثًا في هذا الكتاب، أم الشيعة الذين لم يخونوا إمامهم زيد بن علي رحمه اللَّه، فهم إخوتنا الزيدية الذين يتمركزون باليمن. ولكن قبل أن نترك موضوع الزيدية بقي أن أنبه على نقطة خطيرة، ففي السنوات الأخيرة اتجه (الخميني) وأتباعه لإحياء مسجد إمبراطوريتهم الفارسية المجوسية (التي كانت اليمن جزء منها في عهد الساسانيين!)، فقامت إيران برشوة أحد زعماء الزيدية ويدعى بـ (حسين بدر الدين الحوثي)، فأخذوه إلى وكر الإرهاب في "قم" ليعلموه هناك لعن الصحابة الكرام واتهام أم المؤمنين عائشة بالزنى، وفعلًا عاد هذا الرجل إلى اليمن بأموالٍ فارسية لينشأ ميلشيات مسلحة في مدينة "صعدة"، فيشعل نار الفتنة بأسلحته الإيرانية، وأشرطته الصوتية التي ينشر فيها ثقافة اللعن التي تعلمها في فارس، وليمهد بذلك لعودة الفرس من جديد لليمن العربي، لتشتعل نار الفتنة بسببه، وليكون أغلب ضحاياها من إخواننا الزيديين، الذين لا يعلمون شيئًا عن خطر المخطط الفارسي في المنطقة، والذي يسعى لإعادة استعباد العرب. أما الإِمام الشوكاني الذي كان سيدًا من سادات الزيدية فقد كان على العكس من الحوثي، فلم يستجب لنداءات الفرس الراغبة في استعادة اليمن العربي إلى سيطرتها، بل استجاب لنداء العقل, فتحرَّر من قيد التقليد، وحارب البدع التي انتشرت عن قبور الصالحين، وقاوم كل من يحاول سب أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسأل نفسه أسئلة منطقية كانت سببًا في خلوده في صفحات الزمان، فقد سأل الشوكاني نفسه: أي المذاهب كان رسول اللَّه يتبع؟ هل كان شيعيًا؟ زيديًا أم اثني عشريًا؟ هل كان عمر مالكيًا؟ أم هل كان بلال حنفيًا؟ هل كان الأنصار شافعيين؟ أم تراهم كانوا على مذهب أبي حنيفة النعمان؟!! ومن خلال هذه الأسئلة المنطقية أدرك الشوكاني أن الأجدر به أن يعود للمصادر الأصلية للإسلام التي كانت قبل ظهور الفرق والمذاهب، وفعلًا كتب كتاب "نيل الأوطار" الذي يوضح فيه للمسلمين أساس العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة الكرام، ليكتب اللَّه لهذا الكتاب القبول الأرض، ولتطير أخباره في الهند والمغرب ومصر والشام، ليخلد التاريخُ الإمامَ الشوكاني بحروفٍ من ذهب، بعد أن حرر نفسه من عبودية التقليد الأعمى.
ومن اليمن نفسها. . . . نركب فرسًا عربيةً أصيلة لنرافق قبيلة "الأزد" اليمانية وهي تهاجر إلى الشمال بعد انهيار "سد مأرب" الشهير، ليستوطن بعض رجال هذه القبيلة القحطانية مدينة في شمال الحجاز يقال لها "يثرب"، ليغير أولئك العرب الأقحاح بعد ذلك بسنوات تاريخ البشرية إلى الأبد!
يتبع. . . . . "لا يحبهم إلّا مؤمن، ولا يبغضهم إلّا منافق"






مصادر و المراجع :

١- مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

المؤلف: جهاد التُرباني

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید