المنشورات

مدمِّر الإمبراطورية الفارسية (سعد بن أبي وقاص)

" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"
"من سعد بن أبي وقاص، إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. . . . وبعد،
فإن اللَّه نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يَرَ الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم اللَّه بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين. وقد اتبعهم المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج"
كان ذلك الشيخ العربي الفقير يخرج كل صباح بعد صلاة الفجر إلى الصحراء القاحلة على حدود المدينة ليبقى هناك حتى انتصاف النهار وهو يحدّق قبالة المشرق، حتى جاء ذلك اليوم الذي شاهد فيه من بعيد فارسًا عربيًا على ظهر ناقة عربية أصيلة تسرع الخطى نحو المدينة، فركض نحوه ذلك الشيخ الفقير يسلم عليه ويسأله من أين أتى، ليجيبه ذلك الفارس العربي أنه قد أتى من القادسية في أرض العراق رسولًا من القائد الأعلى للقوات الإِسلامية المجاهدة هناك، فتغير وجه ذلك الشيخ قبل أن يسأل الفارس العربي بلهفة قائلًا: يا عبد اللَّه حدثني ماذا فعل المسلمون؟ فنظر إليه ذلك الفارس العربي بعينيه السوداوين ونظرة ثاقبة وقال له: أيها الشيخ الطيب. . . لقد هزم اللَّه العدو! أما الآن فدعك عني، فإني على عجلة من أمري أريد إيصال كتاب النصر من سعد بن أبي وقاص إلى خليفة المسلمين. وما أن فرغ ذلك الفارس من قولته تلك حتى انطلق على ظهر ناقته مسرعًا نحو المدينة، وذلك الشيخ الفقير يجري وراءه كالطفل الصغير بثيابه الممزقة يستوضح منه خبر النصر، حتى وصل الفارس العربي إلى المدينة، ووصل بعده بلحظات ذلك الشيخ الفقير وأنفاسه كادت تنقطع بعد أن تلطخت ثيابه البالية بالتراب الذي أحدثه غبار الناقة، فنظر المسلمون الملتفون حول الفارس العربي إلى ذلك الشيخ وقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فصُعق الفارس من شدة الصدمة، وتمنى أن لو ابتلعته الأرض في قفارها، فلقد كان ذلك الشيخ ذو الثياب الممزقة والذي تركه يجري وراءه في صحراء العرب المحرقة كالطفل الذي يجري وراء أمه هو نفسه خليفة رسول اللَّه وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي مزقت جيوشه للتو جيوش أعظم إمبراطورية عرفتها القارة الآسيوية! فحاول أن يعتذر إليه وعمر يأخذ أنفاسه بعد تلك الجولة الماراثونية في الركض قبل أن يبتسم في وجه ذلك البشير ويقول له: لا عليك يا أخي!
اللَّه! اللَّه! ما أعظم الإِسلام!
فواللَّه لقد قرأت تاريخ الإغريق القدماء، وتاريخ الفراعنة، وتاريخ الرومان بشقيه الشرقي والغربي، وتاريخ فارس، والهند، والجزر اليابانية، والصين، وأوروبا، وأمريكا، فما وجدت تاريخًا قط بعشر معشار عظمة التاريخ الإِسلامي المجيد، فأين فرعون مصر "خوفو بن سنفرو" الذي استعبد شعبه لمدة 10 سنوات من أجل أن يبنوا له قبرًا من عمر بن الخطاب ذي الثياب الممزقة؟ وأين "كسرى أنوشروان" إمبراطور الفرس الذين كان يفرض على الوزراء من حوله لبس الكممات كي لا يلوثوا الهواء من حوله من عمر بن الخطاب الذي ملأ الغبار أنفه وهو يجري وراء ناقة بشير القادسية؟! وأين إمبراطور الرومان "فِسبازيانوس" الذي بني أكبر مسرح في الأرض لكي يشاهد الأسود وهي تمزق العبيد بأنيابها من عمر بن الخطاب الذي كان يذهب فجر كل يوم لعجوزٍ عمياء ليكنس لها بيتها ويطبخ لها طبيخها؟!! فواللَّه إن تاريخ الإِسلام لعظيم، وإن تاريخهم لقذر، وإننا أولى الناس برفع رؤوسنا عاليًا به!
وقبل أن نتكلم عن "القادسية" والتي تُعتبر مع شقيقتها التوأم "اليرموك" وأختهما الكبرى "اليمامة" أعظم معارك أمة محمد بعد انقطاع الوحي، ينبغي علينا أن نتكلم عن البطل الذي حقق اللَّه على يديه ذلك النصر العظيم، فلِتصمت الحناجر، ولتخشع القلوب، ولتشخص الأبصار، فنحن في صدد الحديث عن خالِ رسول اللَّه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين للإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب قبل موته، وأول من رمى سهمًا في تاريخ الإِسلام، وأحد البدريين، وأحد الـ 1400 صحابي من أصحاب بيعة الرضوان، وصاحب الدعوة المستجابة، والذي فداه النبي بأبيه وأمه، إنه القائد الذي حطم أسطورة فارس بكتائب الخلاص، إنه رمز البطولة والإخلاص، إنه البطل سعد بن أبي وقاص!
والحقيقية أنني لم أحتر في إيجاد مقدمة أدخل بها لقصة بطلٍ من أبطال الكتاب المائة بمثل ما احترت في إيجاد مقدمة أقدِّم بها هذا الصحابي العظيم، فقصص بطولاته ليست فقط كثيرة، بل هي بالإضافة إلى ذلك بالغة العظمة، فصار من الصعب بل من المستحيل الاختيار ما بينها، فضلًا من أن أستطيع إن أحصرها! إلا أنني أرى في القصة التالية أمرًا يمكنه أن يفسر لنا كيفية تكون شخصية هذا العملاق الإِسلامي العظيم، فهذه القصة حدثت معه في أخطر سنٍ يمر به الإنسان، وهي المرحلة التي يبين فيها علماء النفس المعاصرون أنها السنن التي يبني فيها الإنسان شخصيته التي سترافقه طيلة حياته، هذه السنن سماها العلماء النفس بـ "سن المراهقة" وهي الفترة العمرية من سن 11 سنة إلى سن 21 سنة، وسُميت بذلك لقربها من مرحلة النضوج الفكري، ففعل "راهق" بالعربية يعني اقترب من الشيء.
فعندما كان سعد بن أبي وقّاص مراهقًا في السابعة عشرة من عمره، أسلم هو وأربعة من المبشرين بالجنة على يد أبي بكر جزاه اللَّه كل خير، عند ذلك علمت أمه بإسلامه، وقد كان يحبها أكثر من نفسه، فحاولت رده إلى دين الأجداد دون جدوى، فلمَّا أخفقت جميع محاولات رده وصده عن الإِسلام، لجأت أمه إلى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه إلى وثنية أهله وذويه. فلقد أعلنت إمه إضرابها الكلي عن الطعام والشراب حتى يعود سعد إلى وثنيته، أو تموت هي فيعايره العرب بأنه سبب موت أمه! ومضت هذه الأم في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والشراب حتى وصلت على الهلاك. وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أهله إلى أمه ليلقي عليه انظرة الوداع الأخيرة، مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت، فذهب سعد ورأى مشهد أمه وهي تموت ببطء، وانتظر الناس أن يستجيب لأمرها لعلمهم بحبه العظيم لأمه، فنظر سعدٌ إليها وهي تأن وقال لها:
"واللَّه يا أمّه. . . . لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي ان شئت أو لا تأكلي! "
فلمَّا رأت أمه هذا الإيمان العميق من ولدها عدلت عن صومها، فنزل الملك جبريل بوحي من السماء إلى الأرض بكلماتٍ قالها الرب الذي خلق الكون يخلّد لسعدٍ هذه القصة في قرآن ستتلى آياته إلى يوم القيامة:
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15].
ومن مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب، ففي ليلة من الليالي، أرِق رسول اللَّه ولم يستطع النوم، خوفًا من غدر المشركين به وهو نائم، فيضيع بذلك الإسلام قبل أن يوصل رسالته للبشر، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة: "لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُني اللَّيْلَةَ" فما إن فرغ رسول اللَّه من قولته تلك حتى سمع الرسول وزوجه الطاهرة صوت خطوات تقترب من البيت في الخارج ويقترب معها صوت السلاح، فنادى رسول اللَّه قائلًا: "مَنْ هَذَا؟ ". فجاء الصوت من الخارج: "أنا يَا رَسُوْلَ اللَّهِ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَاصٍ" فقال له الرسول: "ما الذي جاء بك؟ " فقال سعد: "وقع في نفسي خوفٌ على رسول اللَّه فجِئْتُ احْرُسُه الليلة! " ففرح رسول اللَّه بهذا الصاحب الوفي، فَنَامَ بأبي هو وأمي مطمئنًا حتى سَمِعْت عائشة غَطِيْطَهُ!
والآن وبعد أن رأينا كيفية تكون شخصية هذا القائد الإسلامي العظيم، جاء الوقت لنستعرض معًا بعضًا من بطولاته الأسطورية الحية. . . . .
ففي بدرٍ: كان سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهمٍ في سبيل اللَّه في تاريح أمة محمد، وقد كان رسول اللَّه يقول لسعد: "اللهم أجب دعوته وسدد رميته" فكان إذا دعا أتت الإجابة من السماء كفلق الصبح، وكان إذا رمى لا تخطئ رميته البتة، حتى قال أحدهم: "إني لأظن سعدًا لو رمى في المشرق يريد المغرب لأوقعها اللَّه في المغرب! " وقد ذكر (الإمام الذهبي) في "سير أعلام النبلاء" قصة عجيبة بقوله: "فمن العجائب أن سعدًا رمى بسهم ثلاث مرات يقتل بكل سهم ويعود السهم إليه ويرمي به، أي أنه كان يأخذ سهمًا فيرمي به في المشركين فيقتل رجلًا، فيأخذ المشركون السهم فيعيدونه لسعد فيرمي به فيقتل به مرة ثانية، فيعيدون له السهم فيقتل ثالثة! " وقد افتخر سعد بهذه الموهبة بقوله:
ألا هل قد أتى رسول اللَّه أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رامٍ من معدٍ ... برميٍ يا رسول اللَّه قبلي
وفي أحد: كنا قد ذكرنا في معرض حديثنا عن (طلحة بن عبيد اللَّه) أنه كان أحد بطلين ثبتا بجانب رسول اللَّه عندما حاصره المشركون، وكنت قد تركت اسم البطل الثاني معلقًا محاولة مني لتشويق القارئ الكريم كي لا يضيق ذرعًا بهذا الكتاب الطويل، واعدًا إياه بذكر اسم ذلك البطل في نهاية هذا الكتاب، وبما أن هذا الكتاب قد شارف على النهاية بالفعل، فإن الوقت قد جاء للوفاء بالوعد، فلقد كان ذلك البطل يُدعى بـ (سعد بن مالك بن أهيب) والذي عُرف بالتاريخ باسم (سعد بن أبي وقاص)! ففي الوقت الذي كان فيه طلحة يبارز بسيفه كالأسد الثائر فرسان المشركين من أحد الجوانب، تناول سعد قوسه في الجانب الآخر ليصوب ناظريه على الجنود المتقدمين وكأنه الصقر الجارح، فأخذ يرمي بسهامه كل من سولت له نفسه الاقتراب من حبيبه ورسوله، ورسول اللَّه يناوله السهام بيديه الطاهرتين وينظر إلى ضرباته ويضحك من دقة إصاباتها ويقول له: "ارمِ سعد، فداك أبي وأمي"!
وفي سنة 15 هـ الموافق 635 م، وصلت أخبار إلى المدينة أن كسرى يحضر بنفسه جيشًا عرمرمًا لكي يرسله إلى مدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فينهي بذلك الإسلام من الوجود، فعقد الخليفة عمر ابن الخطاب اجتماعًا طارئًا للقيادة العليا في الدولة الإسلامية يضم بين أفراده رجالًا عمالقة مثل عثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب، فقرر القائد البطل عمر بن الخطاب أن يتقدم بجيوش المسلمين بنفسه إلى أرض فارس قبل أن يأتي الفرس إلى مدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا أن علي بن أبي طالب خاف على صديقه عمر من غدر الفرس المجوس، فأشار عليه أن يولي رجلًا من المسلمين على قيادة الجيش، وبعد شدٍ وجذبٍ بين الفاروق وأصحابه جاءت القرارات العمرية الثلاث: (أولًا) إعلان حالة الطوارئ القصوى والنفير العام في أرجاء الدولة الإسلامية. (ثانيًا) تعيين سعد بن أبي وقاص قائدًا عامًا للجيوش المجاهدة المتجهة إلى فارس (ثالثًا) إعلان الحرب الشاملة على الفرس المجوس!
فماذا حصل بعد ذلك؟ وما هي قصة "معركة القادسية العظمى"؟ ومن هم أبطالها العظماء؟ وما هو ذلك الوصف العجيب الذي وصفهم به القائد الإسلامي العظيم سعد بن أبي وقّاص؟
يتبع. . . . . "ابتعثنا اللَّهُ لنخرح العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"





مصادر و المراجع :

١- مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

المؤلف: جهاد التُرباني

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید