المنشورات

(العثمانيّون الجدد)

" إنهم يقولون عنّا إننا العثمانيون الجدد، نعم. . . . . نحن العثمانيون الجدد! "
(وزير الخارجية التركي: أحمد داود أوغلو)
واللَّه إن قصة الإسلام لهي أعجب من العجب، ولولا أننا نرى فصولها تتكرر أمام أعيننا، لقلنا أنها حكاية من نسج الخيال! فمن الذي ربّى موسى سوى فرعون نفسه؟ ومن الذي جعل الأوس والخزرج يسلمون سوى يهود يثرب؟ ومن الذي سمّى قطز غير التتار؟ ومن الذي صنع ديدات غير المنصِّرين أنفسهم؟
إن اللَّه سبحانه وتعالى لهو قادر على أن ينتصر لأوليائه بدون استخدام أعدائه وأعدائهم، ولكن اللَّه أراد زيادة إذلال أولئك الطغاة، فجعل دمارهم على أيديهم، ليكونوا عبرة لكل من يخطر على باله محاربة اللَّه والمسلمين، وقصة العثمانيين تعتبر اكبر مثالٍ على هذا النوع الرباني من التأديب والعقاب، فالذي لا يعرفه أغلبنا أن الأتراك لم يكونوا سوى قبائل متفرقة في شعاب آسيا الوسطى، وبالرغم من كونها قبائلًا مسلمة (أسلمت على يد الخليفة يزيد بن معاوية جزاه اللَّه كل خير)، إلا أنها لم تكن تمثل أي مظهر من مظاهر القوة، المضحك في الأمر أن التتار هم الذين صنعوا العثمانيين أيضًا! ولعمري كم خدم المغول الإسلام من دون يشعروا! {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} [النمل: 50]. فقد هاجرت قبيلة تركية من بطش متوحشي الجيش التتري، فشدّوا الرحال من "التركستان الغربية" في وسط آسيا، إلى "آسيا الصغرى" وهي بلاد تركيا الحالية، هناك قام زعيم هذه القبيلة التركية واسمه (عثمان أرطغرل) بمساعدة أحد ملوك السلاجقة بدافعٍ من النخوة والشهامة (السلاجقة الأبطال كانوا أيضًا أتراكًا)، فكافأه الملك بان أقطعه إحدى المقاطعات الصغيرة، فظل عثمان الكبير يحارب الروم ويتوسع حتى اتسعت مقاطعته لتصبح شبه دولة، قبل أن يأتي السلطان (يزيد الصاعقة) ليضم أراضٍ واسعة للعثمانيين، إلى أن جاء (الفاتح) و (القانوني)، وبقية القصة تعرفونها من خلال تطرقنا لها في هذا الكتاب تباعًا.
وقد ذكرنا كيف عمل "يهود الدونمة" بقيادة اليهودي (كمال أتاتورك) على تدمير دولة الخلافة العثمانية، ففي 27 - رجب - 1342 هـ الموافق 3 - 3 - 1923 م قام أتاتورك بإنهاء دولة الخلافة الإسلامية، هذا التاريخ الأسود هو أول يوم في تاريخ الأرض ينقطع فيه خلفاء محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد كان آخر الخلفاء العثمانيين (عبد المجيد الثاني بن عبد العزيز) رحمه اللَّه آخر خلفاء الإسلام وهو الخليفة الثاني بعد المائة للمسلمين منذ الخليفة الأول (أبي بكر الصديق) رضي اللَّه عنه وأرضاه. وهنا بدأ المجرم أتاتورك بإنهاء كل ما هو إسلامي في تركيا، ففصل تركيا فصلًا كاملًا عن كل بلاد العالم الإسلامي، ثم قام بوضع دستور الدولة التركية، وفيه أكّد بوضوح وصراحة على أن دولة تركيا علمانية لا دين لها، وألقى الشريعة الإسلامية، وصاغ القانون من القانون السويسري والإيطالي، وأتبع ذلك بعدة قوانين منعت كل مظهر إسلامي في البلد، كإلغاء الحروف العربية من اللغة التركية واستخدام اللاتينية بدلًا منها، بعد أن منع الأذان للصلاة باللغة العربية (لاحظ أن كل من يحقد على الإسلام يبدأ بالعربية ويحقد بالضرورة على العرب!)، وقام أيضًا بإلغاء منصب شيخ الإسلام، ومنع الحجاب من المؤسسات الحكومية والجامعات والمدارس، وإغلاق عدد كبير من المساجد، وقتل أكثر من 150 عالمًا من علماء الإسلام، وغير ذلك من القوانين والمواقف التي رسّخت العلمانية في تركيا. وبحكم أن مصطفى كمال أتاتورك كان قائدًا من قوّاد الجيش، فإنه أعطى للجيش التركي صلاحيات هائلة، ووضع في بنود الدستور ما يكفل للجيش التدخُّل السافر لحماية علمانية الدولة! وأصبحت العلمانية والبُعد عن الإسلام هدفًا في حد ذاته، بل إن أغلب أعضاء حزب "الاتحاد والترقي" -الذين صاروا قادة الجيش التركي- لهم جذور يهودية معروفة (يهود الدونمة) أو انتماءات ماسونية يعرفها الجميع. فسيطر أتاتورك وآلته العسكرية الجبارة على الإعلام والتعليم، ومن خلالهما غيّروا أفكار الشعب التركي تمامًا (أو هكذا اعتقدوا!) وحوّلوه إلى العلمانية المطلقة، ولعدة عشرات من السنين. وبعد قيام "إسرائيل" في 1948 م، اعترفت تركيا العلمانية مباشرة بها، فكانت هي الدولة الإسلامية الأولى التي تصدر هذا الاعتراف، قبل أن تلحق بها دولة الفرس المجوسية إيران (كالعادة!) بالاعتراف بإسرائيل، فأعلن بن جوريون قيام "حلف الدائرة"، وهو الحلف المحيط بالدول العربية، وكان هذا الحلف مكوَّنًا من تركيا العلمانية في الشمال، وأثيوبيا الصليبية في الجنوب، وإيران المجوسية في الشرق (ملاحظة: كانت العلاقات بين إيران وإسرائيل في عهد الشاه بشكل علني، قبل أن يختار الخميني تحويلها إلى علاقات خفية لكي يتسنى له المتجارة بالقضية الفلسطينية لنشر دين الروافض بين أوساط الشباب المتحمسين، فقد أسقطت القوات العراقية أيام حكم الشهيد صدام حسين رحمه اللَّه طائرة إيرانية في شمال العراق، ليكتشف العراقيون أنها محملة بأطنان من الأسلحة الإسرائيلية، مهداة من حكام تل أبيب إلى الخميني، زاد من صدقية هذا الخبر ما فضحه الإعلام الأمريكي من فضيحة "إيران كونترا" والتي عرفت بـ "  Iran gate" .  المهم أن أتاتورك مات عام 1939 م، بعد أن حذف اسم مصطفى من اسمه الكامل، وأوصى أن لا يُصلّى عليه، وأن لا يدفن على الطريقة الإسلامي! فخلف أتاتورك أتباعًا مخلصين قاموا على نهجه، حتى حدث شيءٌ عجيب غير المعادلة الأتاتوركية رأسًا على عقب!
فكما ذكرنا في البداية أن اللَّه يمعن في إذلال أعدائه، فقد جعل اللَّه قيام الإسلام في تركيا على يد رجلٍ من رفاق أتاتورك نفسه! الغريب أن هذا الرجل ليس له علاقة من قريبٍ أو بعيدٍ بالإسلاميين! ففي سنة 1950 م قام رجلٌ من رفاق أتاتورك اسمه (عدنان مندريس) بتأسيس حزبٍ سياسي، أراد به أن يصل إلى الحكم بأي وسيلة ممكنة، فأراد أن يمكر بالمسلمين في القرى التركية النائية باعطائهم بعض الحقوق الدينية مقابل أن يعطوه صوته، الجميل في ذلك أن أول مطلب كان للأتراك المسلمين هو تحويل الأذان من اللغة التركية إلى اللغة العربية! وفعلًا فاز مندريس بالانتخابات التركية العامة، فعمل على إعطاء أهل القرى (وهم أغلبية الشعب) مزيدًا من الحقوق الدينية ليضمن فوزه المتكرر لا غير، فكان له ذلك، فقد استمر في الحكم طيلة 10 سنوات متصلة، وكان بإمكانه أن يستمر 10 سنوات أخرى، لولا أن الجيش التركي أدرك خطورة هذه اللعبة، فقاموا بالانقلاب عليه وإعدامه سنة 1962 م، ومنذ ذلك الحين أسس الجيش (وأغلب قادته من يهود الدونمة) مجلسًا عسكريًا أسموه "مجلس الأمن القومي"، هذا المجلس هو الجهة السياسية الأقوى في تركيا إلى وقت كتابة هذه الحروف، ليقوم هذا المجلس السياسي العسكري بحل أي حكومة لا تتناسب مع التوجهات العلمانية للدولة التركية.
ولكن كما قال (ضبة بن أدٍ المضري): "سبق السيف العذل! "، فقد تذوق الشعب التركي المسلم طعم الإسلام بعد سنواتٍ من اضطهاد أتاتورك وملئِه، فأي قوة في الأرض يمكنها أن تعيدهم مرة أخرى إلى العلمانية؟ فقد خرج من رحم الشعب التركي المسلم شخصية إسلامية كان لها شرف السبق في إشعال مشكاة الإسلام من جديد في ظلام تركيا العلمانية، هذه الشخصية هي شخصية العالم المخترع (نجم الدين أربكان) جزاه اللَّه كل خير، فمن حكم ترؤسه لقسم الاختراعات في إحدى شركات صناعة الدبابات الألمانية في مدينة "كولون" الألمانية، كان أربكان متمرسًا على مواجهة الدبابات وحل المعضلات الحسابية المعقدة! فأخذ يلاعب العلمانيين بنفس لعبتهم بعد أن فهم قواعد اللعبة السياسية، فأنشأ حزبًا سياسيًا دخل من خلاله الانتخابات ليفوز من أول ظهور له بمقاعد عديدة في البرلمان التركي، قبل أن يقرر الجيش التركي حل الحزب بتهمة -ستكرر كثيرًا بعد ذلك- "عدم موافقة الحزب للمبادئ الأتاتوركية" واتجاهات أربكان "الرجعية"! ولكن هذا البطل الإسلامي العظيم -كديدن عظماء أمة الإسلام- لم يستسلم البتة، فقام بإنشاء حزبٍ ثانٍ، وثالث، وهكذا دواليك حتى استطاع أن يفوز بالبرلمان التركي سنة 1995 م، ليكون أول حكومة "إسلامية" في تركيا منذ انهيار دولة الخلافة الراشدة، ولكن الجيش ممثلًا بـ "مجلس الأمن القومي" قام بإسقاط حكومته سريعًا بعد أن رفض البطل أربكان تنفيذ 18 مطلبًا أهمها إغلاق المدارس الدينية وتدعيم التعليم العلماني. فأغلق الجيش حزب "الرفاه الإسلامي" الذي كان يرأسه، ولكن هذا الصقر التركي وعلى الرغم من كبر سنه، فإنه لم يستسلم، فقد أسس حزبًا آخر لا أعرف بالضبط ترتيبه بين أحزاب أربكان، هذا الحزب هو حزب "الفضيلة"، فانتصر أربكان مرة أخرى في انتخابات 1999 م، ولكن الجيش ضاق ذرعًا بهذا الكهل الذي لا يمل ولا يتعب، فأودعوه في غياهب سجون الأناضول! ولكن في نفس الوقت كانت هناك مجموعة شابة من أفراد الحزب تضيق ذرعًا ليس بالجيش فحسب، بل في النظام السياسي ككل، فخرج من عباءة أربكان ثلاثة شباب سيغيرون مجرى التاريخ بعد ذلك وهم: رئيس بلدية إسطانبول (رجب طيب أردوغان)، وأستاذ علم الاقتصاد في جامعة "سكاريا" على البحر الأسود الأستاذ الدكتور الأرمني الأصل (عبد اللَّه غول)، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة "مرمرة" التركية البروفيسور (أحمد داود أوغلو)، فقام هؤلاء بتأسيس حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، غير أن هؤلاء الشباب طوّروا من أساليب أستاذهم أربكان، فأخذوا يسايرون الجيش وجنرالات الجيش التركي (المحكوم بيهود الدونمة والعلمانيين!)، ليأخذوا حقوقهم المشروعة شيئًا فشيئًا، وليسحبوا البساط بشكل تدريجي من تحت أقدام المؤسسة العسكرية، وخلال كتابة هذا الكتاب استطاع الرئيس التركي عبد اللَّه غول من أن ينتزع قانونًا يمنع تدخل الجيش في أي انقلاب عسكري، وخلال كتابة هذا العمل أيضًا قامت إسرائيل بأغبى عمل يمكن لدولة أن ترتكبه، فقد قامت بالاعتداء على سفينة تركية مدنية متوجهة إلى مدينة "غزة" الفلسطينية، ليسقط عددٌ كبير من شباب الأتراك الأبطال شهداءً في سبيل اللَّه كما نحسبهم، فكان هذا العمل الجبان مقدمة لبزوغ نجم "العثمانيين الجدد" في الساحة، بعد موقف رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان البطولي تجاه قضية فلسطين، وما إن بزغ نجم العثمانيين الجدد وارتفعت شعبيتهم في أرجاء العالم العربي والإسلامي، حتى تحركت أقلام المنافقين العرب من العلمانيين وأتباع الفرس الصفويين (الذين محق آل عثمان دولتهم) لكي يهاجموا هؤلاء الأبطال ويعيدوا استخدام الكذبة القديمة "الاحتلال التركي! "، ولكن كما قلنا من قبل: سبق السيف العذل! فتركيا صاعدة سياسيًا بفضل نظرية أوغلو في "تصفير الصراعات" وصاعدة إقتصاديًا بسبب سياسة عبد اللَّه غول في خلق أكبر مصانع في الشرق الأوسط المتمثلة في "نمور الأناضول"، وصاعدة شعبيًا بسبب بطولة أردوغان، ولا أخفيكم سرًا، فمن حكم قراءتي لصفحات التاريخ المطوية، إني لأرى نصر الأمة باديًا أمامي على أيدي أولئك الأبطال!
وبما أن "الحديث ذو شجون" (كما قالها أيضًا ضبة بن أدٍ المضري) فإن الصحوة التركية لم تكن وليدة الصدفة، فهذه الصحوة ما هي إلا جزءٌ لا يتجزأ من صحوة إسلامية شاملة قادها مجموعة من شباب أمة الإسلام ليكوِّنوا جيلًا كاملًا من العظماء، هذا الجيل صار يعُرَف في التاريخ بـ. . . . . .
يتبع. . . . .




مصادر و المراجع :

١- مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

المؤلف: جهاد التُرباني

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید