المنشورات

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ) : الْأَصْلُ فِيهِ «أَيْ» الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَصَارَ فِي مَعْنَى كَمِ الَّتِي لِلتَّكْثِيرِ ; كَمَا جُعِلَتِ الْكَافُ مَعَ ذَا فِي قَوْلِهِمْ «كَذَا» لِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى لَوْلَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَبْلَهُ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ كُلُّهَا قَدْ قُرِئَ بِهِ: فَالْمَشْهُورُ «كَأَيِّنْ» بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ.
وَالثَّانِي: «كَائِنٌ» بِأَلِفٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا هُوَ فَاعِلٌ مِنْ كَانَ يَكُونُ، حُكِيَ عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَهُوَ بَعِيدُ الصِّحَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ مُعْرَبًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى التَّكْثِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلَهُ كَأَيِّنْ، قُدِّمَتِ الْيَاءُ الْمُشَدَّدَةُ عَلَى الْهَمْزَةِ، فَصَارَ كَيِّئٍ، فَوَزْنُهُ الْآنَ كَعْلِفٍ ; لِأَنَّكَ قَدَّمْتَ الْعَيْنَ وَاللَّامَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ الثَّانِيَةُ، لِثِقَلِهَا بِالْحَرَكَةِ وَالتَّضْعِيفِ، كَمَا قَالُوا فِي أَيِّهِمَا أَيْهُمَا، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ أَلِفًا كَمَا أَبْدِلَتْ فِي آيَةٍ وَطَائِيٍّ وَقِيلَ: حُذِفَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ وَقُدِّمَتِ الْمُتَحَرِّكَةُ فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا. وَقِيلَ: لَمْ يُحْذَفْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنْ قُدِّمَتِ الْمُتَحَرِّكَةُ وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى سَاكِنَةً وَحُذِفَتْ بِالتَّنْوِينِ مِثْلَ قَاضٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: كَإٍ عَلَى وَزْنِ كَعٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حُذِفَ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْأُخْرَى لِأَجْلِ التَّنْوِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُذِفَ الْيَاءَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ لَمَّا امْتَزَجَ الْحَرْفَانِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: «كَأْيٌ» بِيَاءٍ خَفِيفَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَذَفَ الْيَاءَ الثَّانِيَةَ، وَسَكَّنَ الْهَمْزَةَ لِاخْتِلَاطِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَجَعَلَهُمَا كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا سَكَّنُوا الْهَاءَ فِي لَهُوَ وَفَهُوَ، وَحَرَّكَ الْيَاءَ لِسُكُونِ مَا قَبْلَهَا. وَالْخَامِسُ: «كَيْئٌ» بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي كَائِنٍ، وَقَدْ ذُكِرَ.
فَأَمَّا التَّنْوِينُ فَأَبْقَى فِي الْكَلِمَةِ عَلَى مَا يَجِبُ لَهَا فِي الْأَصْلِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُهُ فِي الْوَقْفِ ; لِأَنَّهُ تَنْوِينٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ فِيهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ تَغَيَّرَ بِامْتِزَاجِ الْكَلِمَتَيْنِ.
فَأَمَّا «أَيْ» فَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هِيَ مَصْدَرُ أَوَى يَأْوِي إِذَا انْضَمَّ وَاجْتَمَعَ، وَأَصْلُهُ أَوَى، فَاجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ، وَسَبَقَتِ الْأُولَى بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتْ وَأُدْغِمَتْ مِثْلُ طَيٍّ وَشَيٍّ.
وَأَمَّا مَوْضِعُ كَأَيِّنْ فَرَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا تَكَادُ تُسْتَعْمَلُ إِلَّا وَبَعْدَهَا مِنْ، وَفِي الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا «قُتِلَ» وَفِي قُتِلَ الضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى كَأَيِّنْ ; لِأَنَّ كَأَيِّنْ فِي مَعْنَى نَبِيٍّ ; وَالْجَيِّدُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى لَفْظِ كَأَيِّنْ، كَمَا تَقُولُ مِائَةُ نَبِيٍّ قُتِلَ، وَالضَّمِيرُ لِلْمِائَةِ إِذْ هِيَ الْمُبْتَدَأُ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَنَّثْتَ فَقُلْتَ: قُتِلَتْ. قِيلَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ قُتِلَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قُتِلَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قُتِلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةً لِنَبِيٍّ، وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ الْخَبَرُ، كَقَوْلِكَ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ مَعَهُ مَالٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا ; أَيْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ صَائِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُتِلَ صِفَةً لِنَبِيٍّ، وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ حَالٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُتِلَ لِرِبِّيِينَ، فَلَا ضَمِيرَ فِيهِ عَلَى هَذَا، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ نَبِيٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، فَيَصِيرُ فِي الْخَبَرِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِنَبِيٍّ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَيُقْرَأُ «قَاتَلَ» ; فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا، وَمَا بَعْدَهُ حَالٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ رِبِّيُّونَ.
وَيُقْرَأُ: (قَتَّلَ) بِالتَّشْدِيدِ، فَعَلَى هَذَا لَا ضَمِيرَ فِي الْفِعْلِ لِأَجْلِ التَّكْثِيرِ، وَالْوَاحِدُ لَا تَكْثِيرَ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَ ابْنُ جِنِّيٍّ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ،
وَرِبِّيُّونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَيَجُوزُ ضَمُّ الرَّاءِ فِي الرَّبَّةِ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ قُرِئَ رُبِّيُّونَ بِالضَّمِّ، وَقِيلَ: مَنْ كَسَرَ أَتْبَعَ، وَالْفَتْحُ هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ. (فَمَا وَهَنُوا) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْهَاءِ، وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ. وَقُرِئَ بِإِسْكَانِهَا عَلَى تَخْفِيفِ الْمَكْسُورِ.
وَ (اسْتَكَانُوا) : اسْتَفْعَلُوا مِنَ الْكَوْنِ، وَهُوَ الذُّلُّ، وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ أَصْلَهَا اسْتَكَنُوا، أُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ، فَنَشَأَتِ الْأَلِفُ وَهَذَا خَطَأٌ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ فِي جَمِيعِ تَصَارِيفِهَا ثَبَتَتْ عَيْنُهَا ; تَقُولُ اسْتَكَانَ يَسْتَكِينُ اسْتِكَانَةً، فَهُوَ مُسْتَكِينٌ وَمُسْتَكَانٌ لَهُ وَالْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ.






مصادر و المراجع :

١-التبيان في إعراب القرآن

المؤلف : أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (المتوفى : 616هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید