المنشورات
فَضْلاً
كقولك: (فلانٌ لا يملكُ درهماً فضلاً عن دينارٍ) : ومعناه: أنّه (229) لا يملك درهماً ولا ديناراً، وأنّ عدمَ ملكِهِ للدينار أولى من عدم ملكه للدرهم، وكأنَّهُ قالَ: لا يملكُ درهماً فكيف يملك ديناراً، وانتصابه على وجهين محكيين عن (230) الفارسي: أحدهما: أنْ يكونَ منصوباً (231) بفعل محذوف، وذلك الفعل نعت للنكرة. والثاني: أنْ يكونَ حالاً من معمول الفعل المذكور وهو (درهماً) ، وإنّما ساغ مجيء الحال منه مع كونه نكرة للمسوّغ وهو: وقوع النكرة في سياق النفي، والنفي يُخرج النكرة من حيِّز الإِبهام إلى حيِّز العموم، وضعف الوصف، فإنّه متى امتنع الوصف بالحال أو ضعف ساغ مجيئها من النكرة، فالأول كقوله تعالى: (أو كالذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ عل عُروشِها) (232) ، فإنّ الجملة المقرونة بالواو لا تكون صفةً خلافاً للزمخشري (233) . والثاني كقولهم: (مررتُ بماءٍ قِعْدَةَ رجلٍ) فإنّ الوصفَ بالمصدر خارجٌ عن القياس. وإنما لم يُجز الفارسي في (فضلاً) كونه صفة لدرهم لأنّه (234) رآه منصوباً أبداً سواء كانَ ما قبله منصوباً أم مرفوعاً أم مخفوضاً. وزعم أبو حيان أنّ ذلك لأنّه لا يوصف بالمصدر إلاّ إذا أُريدت المبالغة لكثرة وقوع ذلك الحدث من صاحبه وليس بمرادٍ هنا. وأمّا القولُ بأنّه يوصف بالمصدر على تأويله بالمشتقّ أو على تقدير المضاف فليس قول المحققين، فهذا منتهى القول في (235) توجيه إِعراب الفارسيّ. وأمّا تنزيله على المعنى المراد فَعَسِرٌ، وقد خُرِّجَ على أَنَّهُ من باب قوله (236) : على لاحِبٍ لا يُهتَدَى بمنارِهِ (18) ولم يذكر أبو حيان سوى ذلك، وقال: قد يُسلِّطونَ النفي على المحكوم عليه بانتفاءِ صفتِهِ فيقولونَ: (ما قامَ رجلٌ عاقِلٌ) [أي: لا رجلَ عاقلٌ] (237) فيقوم، فإنّه لا يريد إثبات منارٍ للطريق وينفي (238) الاهتداء عنه، وإنّما يريد نفي المنار فتنتفي الهداية [به، أي: لا منار لهذا الطريق فيُهتَدَى به] (239) . وعلى هذا خرّج: (فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين) (240) ، أي: لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته. وعلى هذا يتخرج المثال المذكور، أي: لا يملك درهماً فيفضل عن دينارٍ له، وإذا انتفى ملكه للدرهم كانَ انتفاء ملكه للدينار (241) أولى. وفيه (242) أنّ (فضلاً) مقيِّد للدرهم أو معمول للمقيّد على الإِعرابين السابقين، فلو قُدِّر النفي مسلطاً على القيد اقتضى مفهومه خلاف المراد، وهو أنّه (243) يملك الدرهم ولكنّه لا يملك الدينار، ولما امتنع [هذا] (244) تعيَّنَ الحمل على الوجه المرجوح، وهو تسليط النفي على المقيّد، وهو الدرهم، فينتفي الدينار، لأنّ الذي لا يملكُ الأقلَّ لا يملكُ الأكثرَ، فإنّ المراد بالدرهم ما يساويه من النقود لا الدرهم العرفي. والذي ظهر لي في توجيه هذا الكلام أنْ يُقالَ: إنّه في الأصل جملتان مستقلتان ولكنّ الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيير حصل الإِشكال بسببه. وتوجيه ذلك أنْ يكونَ هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جواباً لمستخبرٍ قالَ: (أيملكُ فلانٌ ديناراً؟) ، أو ردًّا على مُخْبِرٍ قالَ: (فلانٌ يملكُ ديناراً) ، فقِيل في الجواب: (فلانٌ لا يملك درهماً) ، ثم استُؤنِفَ كلامٌ آخرُ. ولك (245) في تقديره وجهان: أحدهما: أنْ يُقدّرَ: أخبرك (246) بهذا زيادةً عن الإِخبار عن دينارٍ (247) استفهمت عنه، وزيادةً عن دينارٍ أخبرت بملكه له، ثُمّ حذفت جملة (أخبرك بهذا) وبقي معمولها وهو (فضلاً) كما قالوا: (حينئذٍ الآن) بتقدير: كان ذلك حينئذ (248) واسمع الآنَ، فحذفوا الجملتين وأبقوا من كلٍّ منهما معمولها ثم حُذِف مجرور (عن) وجارّ (الدينار) ، وأدخلت (عن) الأولى على (الدينار) كما قالوا: (ما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عينِهِ الكُحْلُ من زيدٍ) (249) ، والأصل: منه في عين زيد، ثُمّ حُذِف مجرور (مِن) وهو الضمير، وجارّ العين وهو (في) ، ودخلت (مِن) على (19) العين. والثاني: أنْ يُقدّرَ فضل (250) انتفاء الدرهم عن فلان فضلاً (251) عن انتفاء الدينار عنه (252) . ومعنى ذلك أنْ تكون (253) حالة هذا المذكور في الفقر (254) معروفة عند الناس. والفقير (255) إنّما ينفى عنه في العادة مِلك (256) الأشياء الحقيرة لا مِلك الأموال الكثيرة، فوقوع نفي ملك الدرهم عنه في الوجود عن وقوع نفي الدينار عنه، أي: أكثر منه. يُقال: فضل عنه وعليه بمعنى زاد. و (فضلاً) على التقدير الأول حال، وعلى الثاني مصدر، وهما الوجهان اللذان ذكرهما الفارسي، لكنّ توجيه الإِعرابين مخالفٌ لما ذكر، [وتوجيه المعنى مخالفٌ لما ذكروا، لأنّه إنما يتضح تطابق اللفظ والمعنى على ما وجَّهتن لا على ما وجَّهوا] (257) . ولعلّ مَنْ لم يَقْو (258) أُنْسُهُ بتجوّزات (259) العرب في كلامها يقدحُ فيما ذكرت بكثرة الحذف، وهو كما قيل (260) :
إذا لم يكنْ إلاّ الأسنةَ مركبٌ فلا رأيَ للمحتاجِ إلاّ رُكوبُها وقد بيَّنْتُ في التوجيه أنّ مثل هذا الحذف والتجوّز (261) واقِعٌ في كلامهم. هذا خلاصة ما ذكره ابن هشام الأنصاري في رسالته (262) . وقد قرَّر الإعراب والمعنى المراد السيد الشريف، قدّس سره، في حواشي الكشاف (263) على غير ما مرَّ فقال: (هو مصدر يتوسط بين أدنى وأعلى للتنبيه بنفي (264) الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفي الأعلى واستحالته، أي: عدّه محالاً (265) عُرفاً، فيقع بعد نفي: إمّا صريحٌ كقولك: (فلانٌ لا يُعطي الدرهَم فَضْلاً عن [أنْ يُعطي] الدينار، تريد: أنّ إعطاءَه الدرهمَ منفيٌّ ومستبعدٌ فكيف يُتصوَّرُ منه إعطاء الدينار، وإمّا ضمني كقوله (266) : (وتقاصر الهمم ... الخ) ، يريد أنّ هممهم تقاصرت عن بلوغ أدنى عدد هذا العلم وصار منفياً مستبعداً عنهم فكيف ترقى إلى ما ذكر. وهو مصدر قولك: فضل عن المال كذا، إذا ذهب أكثرُهُ وبقي أقلّه. ولمّا اشتمل على معنى الذهاب والبقاء ومعنى الكثرة والقلّة ظهر هناك توجيهان: - فمنهم مَنْ نظر إلى معنى الذهاب والبقاء فقال: تقدير الكلام: فضل عدم إعطاء الدرهم من إعطاء الدينار، أي: ذهب إعطاء الدينار بالمرة (267)
وبقي عدم إعطاء الدرهم، فالباقي هو نفي الأدنى المذكور قبل (فضلاً) ، والذاهب (268) هو نفس الأعلى المذكور بعده. وعلى هذا التوجيه يفوت شيئان من أصل (20) الاستعمال: الأول: كون الباقي من جنس الذاهب، إذْ ليس انتفاء الأدنى من جنس الأعلى. الثاني: كون الباقي أقلّ [من الذاهب، إذْ لا معنى لكون انتفاء الأدنى أقلّ] (269) من جنس الأعلى. فإنْ قلتَ: يردّ عليه (270) أنّ المفهوم من (فضلاً) حينئذ أنّ ما بعده ذاهبٌ منتفٍ بتمامه، وأمّا أنّه أدخل في الانتفاء وأقوى فيه مما نفي قبله كما هو المقصود فلا. قلتُ: قد يفهم ذلك من كونه أعلى وأدنى، لأنّ الأعلى أولى بالانتفاء من الأدنى. - ومنهم من نظر إلى القِلّة والكثرة فقال: التقدير في المثال: فضل عدم إعطاء الدرهم عن عدم إعطاء الدينار، أي: العدم الأوّل قليل بالقياس إلى العدم الثاني، فإنّ الأوّلَ عَدَمٌ ممكن مستبعد وقوعه، والثاني عَدَمٌ مستحيل، فهو أكثر قوّة وأرسخ من الأول. وعلى هذا التوجيه يفوت من أصل الاستعمال معنى الذهاب والبقاء، ويلزم أنْ لا تكون كلمة عن صلة (271) له بحسب معناه المراد، بل بحسب أصله، ويحتاج إلى تقدير النفي فيما بعد (فضلاً) .
وههنا توجيه ثالث مبني على اعتبار ورود النفي [على الأدنى بعد توسط (فضلاً) بينه وبين الأعلى، كأنّه قيل: يُعطي الدرهم فضلاً عن الدينار، على معنى: ذهب إعطاء الدينار وبقي من جنسه بقيّة هي إعطاء الدرهم ثُمّ أورد النفي] (272) على البقية، وإذا انتفت (273) بقية الشيء كان ما عداها أقدم منها في الانتفاء. ويرجع حاصل المعنى إلى أنّ إعطاء الدينار انتفى أوّلاً ثم تبعه في الانتفاء إعطاء الدرهم) (274) . انتهى ملخّصاً (275) . ثم ذكر بعد ما مرَّ ما نصّه، قال (276) ، رحمه الله تعالى: (لزم حذف ناصب (فضلاً لجريه مجرى تتمة الأول، بمنزلة (لا سيما) ولا محل لذلك المحذوف من الإِعراب البتة، وردّ به على مَنْ زعم أنّه حال (277) . ولا يلتبس عليك أنّ فاعل ذلك [الفعل] المحذوف هو الأدنى على الوجه الأخير، ونفيه على الوجهين الأولين) . انتهى. وعدم صحة كونه حالاً على المعنى الذي قرره ظاهر، وكذا عدم كون الجملة صفة، بخلاف ذلك كله على المعنى الذي قرّره ابن هشام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
مصادر و المراجع :
١-الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة
المؤلف: ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي
الحنفي (المتوفى: 1252هـ)
16 ديسمبر 2023
تعليقات (0)