المنشورات
يعقوب و مَا جرى ليوسف عليهما السَّلام
فَإِن أمه راحيل لما ولدته دفعه يعقوب إِلَى أخته تحضنه.
قَالَ مجاهد [2] : أول مَا دَخَلَ عَلَى يُوسُف من البلاء فيما بلغنا أَن عمته ابنة إِسْحَاق، وكانت أكبر ولد إِسْحَاق، وكانت إِلَيْهَا منطقة إِسْحَاق وكانوا يتوارثونها بالكبر وَكَانَ من أختانها مِمَّن وليها كَانَ لَهُ سلما [3] لا ينازع فِيهِ يصنع فِيهِ مَا شاء، فلما حضنت يُوسُف أحبته حبا شديدا حَتَّى إِذَا ترعرع طلبه يعقوب، فَقَالَتْ: مَا أصبر عَنْهُ، فَقَالَ:
وَكَذَلِكَ أنا. قَالَتْ: فدعه عندي أياما، فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إِلَى منطقة إِسْحَاق، فشدتها عَلَى يُوسُف من تَحْتَ ثيابه، ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ فقدت منطقة إِسْحَاق فانظروا من أخذها، فوجدت مَعَ يُوسُف، فَقَالَتْ: إنه يسلم لي أصنع بِهِ مَا شئت، فَقَالَ يعقوب: أَنْتَ وذاك، فأمسكته فلم يقدر عَلَيْهِ يعقوب حَتَّى ماتت، وبذلك عيره أخوته فِي قولهم: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ من قَبْلُ 12: 77 [4] .
قَالَ علماء السير [5] : لما رأى أخوة يُوسُف شدة محبة يعقوب له، وعلموا المنام الَّذِي رآه، وأن الشمس والقمر والنجوم سجدوا لَهُ دخلهم الحسد، فاحتالوا عَلَيْهِ بقولهم: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ 12: 12 [1] فلما خرجوا بِهِ إِلَى البرية أظهروا لَهُ العداوة وجعل هَذَا يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل يصيح: يا أبتاه، يا يعقوب لو تعلم مَا يصنع بابنك، فألقوه فِي الجب، فجعلوا يدلونه فيتعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فَقَالَ: يا أخوتاه ردوا عَلِي قميصي أتوارى بِهِ فِي الجب، فَقَالُوا: ادع الشمس والقمر والكواكب [تؤنسك] [2] . فألقوه فِي الماء، فآوى إِلَى الصخرة فِي الجب، ثُمَّ أرادوا أَن يرضخوه بصخرة [3] ، فمنعهم يهوذا، وَقَالَ: قَدْ أعطيتموني موثقا أَن لا تقتلوه، وَكَانَ يهوذا يأتيه بالطعام، فأوحى اللَّه تَعَالَى لينبئنهم بأمرهم هَذَا، ثُمَّ جاءوا أباهم عشاء يبكون، فَقَالَ: أين يُوسُف؟ قَالُوا: أكله الذئب، وكانوا قَدْ ذبحوا جديا فلطخوا بدمه القميص، فجاءت سيارة بَعْد ثلاثة أَيَّام، فورد واردهم فتعلق بِهِ فصعد، فقال: يا بُشْرى هذا غُلامٌ 12: 19 [4] . فَقَالَ إخوته: هَذَا غلام آبق منا. واشتروه مِنْهُم بعشرين درهما، ثُمَّ باعوه بمصر، فاشتراه قطفير [5] ، وَكَانَ عَلَى خزائن مصر، وفرعون مصر يَوْمَئِذٍ الريان بْن الْوَلِيد من أولاد سام بْن نوح. ويقال: إِن هَذَا الْمَلِك لَمْ يمت حَتَّى آمن بيوسف، ثُمَّ مَات ويوسف حي، ثُمَّ ملك بعده قابوس بْن مُصْعَب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى.
فلما اشتراه قطفير أتى بِهِ منزله، فَقَالَ لامرأته واسمها راعيل: أكرمي مثواه، وَكَانَ لا يأتي النساء، فراودته عن نفسه، وَقالَتْ: هَيْتَ لَكَ 12: 23، أي: تهيأت لك، قال:
مَعاذَ الله 12: 23 [6] .
فأما قوله: وَهَمَّ بِها 12: 24 [7] ، فَإِنَّهُ حَدِيث الطبع وتمنيه نيل الشهوة لو كانت مباحة فَإِن الإِنْسَان إِذَا صام اشتهى شرب الماء، غَيْر أَن الصوم مانع، فرأى البرهان وهو علمه بأن اللَّه تَعَالَى حرم الزنا ولا يلتفت إِلَى مَا يروى فِي التواريخ والتفاسير من أَنَّهُ رأى يَعْقُوب عاضا عَلَى يده فَإِن مرتبة يُوسُف كانت أعلى من هَذَا. وَقَدْ شرحنا هَذَا فِي التفسير.
والشاهد الَّذِي [شهد] [1] كَانَ طفلا صغيرا تكلم هكذا.
قَالَ علماء السير: فَلَمَّا رَأى 12: 28 زوج المرأة قَمِيصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ 12: 27، قال لزوجته إِنَّهُ من كَيْدِكُنَّ 12: 28، ثم قال ليوسف: أَعْرِضْ عَنْ هذا 12: 29، أي لا تذكره لأحد وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ 12: 29 [2] . فشاع الحديث، وجعل النسوة يقلن: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ 12: 30 [3] ، فلما سمعت بِذَلِكَ أعدت لهن طعاما وَمَا يتكئن عَلَيْهِ من الوسائد، وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً 12: 31 [4] لقطع الأترج، ثُمَّ قَالَتْ ليوسف: اخرج، فخرج عليهن فقطعن أيديهن بالسكاكين، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، فَقَالَتْ لهن:
فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ 12: 32 فاستغاث يُوسُف بربه عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ 12: 33 [5] قَالَتْ لزوجها: إِن هَذَا العبد العبراني قَدْ فضحني بَيْنَ النَّاس يعتذر إِلَى النَّاس، ولا يطيق أَن أعتذر، فإما أَن تأذن لي فأعتذر، وإما إِن تحبسه فحبسه، فأدخل مَعَهُ السجن فتيان من فتيان الْمَلِك، وَكَانَ أحدهما صاحب طعامه فبلغه أَنَّهُ يريد أَن يسمه فحبسه وحبس صاحب شرابه ظنا أَنَّهُ مالأه عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يُوسُف قَدْ قَالَ فِي السجن: إني أعبر الرؤيا، فسألاه عَنْ مناميهما المذكورين فِي الْقُرْآن، وَقَدْ قيل: إنهما لَمْ يريا شَيْئًا وإنما جربا عَلَيْهِ فدعاهما إِلَى التوحيد أولا بقوله أرباب متفرقون.
ثُمَّ فسر مناميهما، فقالا: مَا رأينا شَيْئًا، فَقَالَ: قُضِيَ الْأَمْرُ 2: 210 [6] ثُمَّ قَالَ للذي ظن أَنَّهُ ناج منهما: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ 12: 42 [7] . وأخبره أَنَّهُ محبوس ظلما. فأوحى إِلَيْهِ: يا يُوسُف اتخذت من دُونَي وكيلا! لأطيلن حبسك، فبكى وَقَالَ: يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى فَقُلْتُ كلمه، فويل لإخوتي! فلبث فِي السجن سبع سنين، ثُمَّ رأى الْمَلِك مناما، وَهُوَ قَوْله: إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ 12: 43 [1] فقصها على أصحابه، فقالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ 12: 44 فَقَالَ الَّذِي نجا من الفتيين [2] ، وَهُوَ الساقي وَادَّكَرَ 12: 45 أي: ذكر حاجة يُوسُف أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ 12: 45 [3] فأرسلوه، فأتى يُوسُف فأخبره وَقَالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ 12: 47 [4] . ومعناه:
ازرعوا. فعاد إِلَى الْمَلِك، فأخبره. فَقَالَ الملك: ائْتُونِي به 12: 50 [5] فأبى يُوسُف أَن يخرج حِينَ رابه مِمَّا قرب/ به، فقال: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ 12: 50 [6] فجمع الْمَلِك النسوة، وَقَالَ: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ 12: 51 [7] . ولكن امرأة الْعَزِيز أخبرتنا أَنَّهَا راودته فَقَالَتِ امرأة العزيز: أَنَا راوَدْتُهُ 12: 51 [8] ، فَقَالَ يُوسُف: ذَلِكَ الفعل الَّذِي فعلت من ترديدي رَسُول الْمَلِك ليعلم قطفير سيدي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ 12: 52.
فلما تبين للملك عذر يُوسُف ورأى أمانته، قال: ائْتُونِي به أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا 12: 54 أتي بِهِ فكلمه قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ 12: 54 فقال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ 12: 55 أي على حفظ الطعام إِنِّي حَفِيظٌ 12: 55 لما استودعتني عَلِيمٌ 12: 55 [9] بسني المجاعة، فولاه عمل قطفير [10] ، وعزل قطفير، فهلك قطفير فِي تلك الأيام، وزوج الْمَلِك يُوسُف امرأة قطفير [11] ، فلما دخلت عَلَيْهِ قَالَ: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين، فَقَالَتْ: أيها الصادق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء فِي ملك ودنيا، وَكَانَ صاحبي لا يَأْتِي النِّسَاء، وكنت فيما أعطاك ربك من الْحَسَن فغلبتني نفسي، فيزعمون أَنَّهُ وجدها عذراء فأصابها فولدت لَهُ أفراييم [1] وميشا [2] ، فولد لأفراييم نون، وولد لنون يوشع فتى موسى، وولد لميشا موسى، وَهُوَ نبي قبل موسى بْن عمران. وَقَدْ روي فِي حقها غَيْر هَذَا عَلَى مَا سيأتي.
فلما ولي يُوسُف أمر النَّاس بالزرع فزرعوا، فأمر بترك الزرع فِي سنبله، ودخلت السنون المجدبة، وقحط النَّاس وأجدبت بلاد فلسطين، وباع يُوسُف الطعام بالدنانير والدراهم والحلي والجلل، ثُمَّ باعهم فِي السنة الأخرى بالعبيد والإماء، ثُمَّ باعهم بَعْد ذَلِكَ بالْخَيْل والدواب، ثُمَّ بالمواشي والبقر والطير، ثُمَّ بالقرى والضياع والمنازل، ثُمَّ باعهم بأنفسهم، فلم يبق بمصر رجل ولا امرأة ولا صَغِير ولا كبير إلا صار فِي ملك يُوسُف.
أَخْبَرَنَا أَبُو المعمر الأَنْصَارِي، أَخْبَرَنَا صاعد بْن سيار، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن أَبِي سهل الغورجي، أَخْبَرَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ الْحَافِظ إجازة، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن حمزة، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن المنذر، قَالَ: حَدَّثَنِي مطروح بْن شاكر، حَدَّثَنَا عَلِي بْن معبد العبدي، حَدَّثَنَا عُمَر بْن عَبْد اللَّهِ القُرَشِيّ، قَالَ: [3] جاء سيل [بمصر] [4] فحسر عَنْ بَيْت من ذهب فِي أصل جبل عَلَيْهِ مصراعان وفيه امرأة عَلَيْهَا سبعة عقود وسبعة أسورة وإلى جانبها صخرة مكتوب فِيهَا: أنا شادة بنت فُلان الْمَلِك، أصابتنا مجاعة عَلَى عهد يُوسُف، فبذلت صاعا من درهم بصاع من طعام، فلم أقدر عَلَيْهِ، ثُمَّ بذلت صاعا من دنانير بصاع من طعام فلم أقدر عَلَيْهِ، ثُمَّ بذلت صاعا من لؤلؤ بصاع من طعام فلم أقدر عَلَيْهِ، فعمدت إِلَى اللؤلؤ فسحقته ثُمَّ شربته فزادني جوعا، فمت جوعا، فأيما امرأة طلبت الدُّنْيَا بَعْد فأماتها الله موتي فإنّي إنما مت جوعا.
وَقَدْ روي أَن زليخا صارت فِي ملك يُوسُف لأنها اشترت منه بجميع ملكها، ثُمَّ بنفسها فأخرجها يُوسُف من مدينته فابتنت لنفسها مسكنا عَلَى قارعة طريق يُوسُف، فغيرتها السنون ونسيها يُوسُف واشتغل بملكه عَلَيْهِ السَّلام، وكبرت وعميت وانحنى صلبها. وَكَانَ يُوسُف يركب فِي كل شهر ركبة في ثمانمائة ألف، وَفِي ألف لواء وألفي سَيْف يدور فِي عمله وينتصب لأهل مملكته، وينصف للمظلوم من الظَّالِم. وكانت زليخا تلبس جبة صوف وتشد حقويها بحبل من ليف وتقف عَلَى قارعة الطريق فَإِذَا حاذاها يُوسُف نادته فلا يسمع نداءها، ففعلت ذَلِكَ مرارا، فركب يوما فنادته: أيها الْعَزِيز سبحان من جعل العبيد بالطاعة ملوكا. وجعل الملوك بالمعصية عبيدا، فسمعها فبكى والتفت إِلَى فتاه، فَقَالَ: انطلق بهذا العجوز معك إِلَى دار الْمَلِك، واقض لَهَا كُل حاجة، فَقَالَ لَهَا الغلام: مَا حاجتك يا عجوز؟ فَقَالَتْ لَهُ: إِن حاجتي محرمة أن يقضيها غَيْر يُوسُف، فأقبل يُوسُف من موكبه فدعا بها، وَقَالَ: من أَنْتَ يا عجوز؟ قَالَتْ: أنا معتقتك ومذللتك، أنا زليخا، فبكى وَقَالَ: مَا فعل حسبك وجمالك، قَالَتْ: ذهب بِهِ الَّذِي ذهب بذلتك ومسكنتك وأعطاك هَذَا الْمَلِك، فَقَالَ: يا زليخا إِن لَكَ عندي قضاء ثلاث حوائج فسلي، فو حقّ شيبة إِبْرَاهِيم لأقضينها، فَقَالَتْ: حاجتي الأولى أَن تدعو اللَّه أَن يرد عَلِي بصري وشبابي، فدعا اللَّه لَهَا فرد بصرها وشبابها، فلما نظر إِلَى حسنها وجمالها لَمْ يتمالك أَن ضحك، ثُمّ قَالَتْ: ادع اللَّه أَن يرد عَلِي حسني كَمَا كَانَ، فدعا اللَّه فرد حسنها وجمالها وزادها كرامة ليوسف، فصارت كأنها بنت ثماني عشرة سَنَة، وَكَانَ لَهَا يَوْمَئِذٍ مائة وعشرون سَنَة، فَقَالَتْ: حاجتي الثالثة ... قَالَ مَا هِيَ؟ قَالَتْ:
ليست حاجتي إليك، قَالَ: فَمَا حاجتك؟ قَالَتْ: أَن تتزوج بي، فأوحى اللَّه إِلَيْهِ أَن تزوج بها وزينها بكل زينة، ثُمَّ دَخَلَ بها فأصابها بكرا، وأولدها اثني عشر ولدا.
ذكر هذه القصة أَبُو الْحُسَيْن بْن المنادي من حَدِيث وهب بْن منبه، وغيره.
قَالَ الْعُلَمَاء: وبلغ الجدب أرض كنعان وهلكت ماشية يعقوب ودوابه وجاع هو وأولاده، فقال لهم: انطلقوا فاشتروا لنا من عزيز مصر طعاما. وكان يوسف قد أقعد صاحب جوازه عَلَى الطريق، وأمره أَن لا يترك أحدا من أَهْل الشام يدخل مصر إلا سأله عَنْ حاله وقصته، فلما قدم ولد يعقوب سألهم من أين هم؟ فقالوا: نحن كنعانيون من بني يعقوب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلاَم، وكتب إِلَى يُوسُف بِذَلِكَ، وأنهم يريدُونَ اشتراء طعام، فورد الكتاب عَلَى يُوسُف فبكى بكاء شديدا، ثُمَّ قَالَ: عز عَلِي يا نبي اللَّه بِمَا قاسيت من فقراء الشَّام وجوعها وأنا ملك مصر، ثُمَّ أدخلهم عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ 12: 58 [1] فجعته العبرة ثُمَّ قَالَ: من أين أنتم؟ قَالُوا: من وادي كنعان، قَالَ: ومن أنتم؟ قَالُوا: بنو يعقوب النَّبِي ابْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ الخليل، فَقَالَ: حياكم اللَّه يا ولد يعقوب، ألكم حاجة؟
قَالُوا: نعم أصابتنا خصاصة، فوجهنا يعقوب إليك نمتار منك طعاما، فأمر بصرارهم فأخذت، ثُمَّ دعا فتاه من حيث لا يشعرون، فأمره أَن يجعل كُل صرة فِي حمل من الأحمال الَّتِي يكيل فِيهَا الطعام لَهُمْ، وَكَانَ هُوَ يتولى الكيل بنفسه ويخيط الحمل بنفسه، فلما أرادوا الرحيل، قَالَ: كَيْفَ رأيتم سيرتي وحسن ضيفي؟ قَالُوا: جزاك اللَّه خيرا، فَقَالَ: إِن لي إليكم حاجة، قَالُوا: وَمَا حاجتك؟ قَالَ: تخبروني كم ولد يعقوب؟ قَالُوا:
اثنا عشر، قَالَ: فَمَا أرى إلا عشرة، قَالُوا: أما أحدهما وَكَانَ يقال لَهُ يُوسُف وَكَانَ أجملنا فأكله الذئب، قَالَ: فالآخر، قَالُوا: موكل بخدمة يَعْقُوب يتسلى بِهِ، قَالَ: فآتوني بأخيكم هَذَا، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي، وَلا تَقْرَبُونِ 12: 60 [2] .
فرجعوا إِلَى يعقوب فقصوا عَلَيْهِ قصتهم، فبكى يعقوب، وَقَالَ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ من قَبْلُ 12: 64 [3] ثُمَّ فتحوا متاعهم فوجدوا الصرار، فَقَالُوا: يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا 12: 65 [4] . ثُمَّ مَا زالوا بيعقوب حَتَّى بعث معهما ابْن يامين، ثُمَّ أَنَّهُ كره أَن تصيبهم العين، فَقَالَ: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا من أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ 12: 67 [5] .
فلما وصلوا إِلَيْهِ فرأى يُوسُف ابْن يامين خنقته العبرة، فلما جلسوا نصب لَهُمْ موائد ستة، وأمر كُل واحد مِنْهُم أَن يأخذ بيد أخيه من أمه وأبيه فيجلسان عَلَى مائدة، وأخذ كُل واحد بيد أخيه، فبقيت مائدة خالية وابن يامين قائم وحده، فَقَالَ يُوسُف: يا غلام مَا لَكَ لا تقعد مَعَ إخوتك؟ قَالَ: لَيْسَ لي قرين، ولقد كَانَ لي أخ فأكله الذئب، فَقَالَ: أتحب يا غلام أَن أجلس أنا معك؟ قَالَ: نعم، فجلس مَعَهُ فجعل ابْن يامين يبكي، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ:
أري فِي وجهك علامات طال مَا كنت أراها فِي وجه أَخِي يُوسُف.
فلما كَانَ لَهُمْ أمر فتاه أَن يجعل الصواع فِي رحل ابْن يامين/ فلما خرجوا نادى مناد: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ 12: 70 [1] .
فجرى لَهُمْ مَا قص فِي الْقُرْآن إِلَى أَن ظهر الصواع فِي رحل ابْن يامين، فأقبلوا يلطمون وجه ابْن يامين، وَهُوَ يَقُول: وحق شيبة إِبْرَاهِيم مَا سرقت ولا علمت كَمَا لَمْ تعلموا أنتم بصراركم قبل ذَلِكَ، فلما رجعوا إِلَى أبيهم، تخلف روبيل، وَقَالَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي 12: 80 [2] .
فلما أخبروا يعقوب، قَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً 12: 83 [3] ، ثُمَّ أعرض عَنْهُم، وَقال يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ 12: 84 [4] ، فَقَالُوا لَهُ: لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً 12: 85 [5] . فقال: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله 12: 86 لا إليكم وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ 12: 86 [6] من صدق رؤيا يُوسُف.
وقيل: إِن يعقوب سأل ملك الْمَوْت: هل قبضت روح يُوسُف؟ قَالَ: لا، فَقَالَ لأَصْحَابه: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ 12: 87 [7] .
فرجعوا إِلَى مصر، فدخلوا عَلَى يُوسُف فَقَالُوا: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ 12: 88 [8] وكانت سمنا وصوفا، فسألوا التجاوز عَنْهُم، وَقَالُوا له: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا 12: 88 [9] أي: بفضل مَا بَيْنَ الرديء والجيد، وقيل: ترد أخانا. فبكى وَقَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ 12: 89 بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ 12: 89 [1] فقالوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي 12: 90 [2] فقالوا:
لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنا 12: 91 [3] فَقَالَ: مَا فعل أَبِي؟ قَالُوا: عمي من الحزن، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا [فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] 12: 93 [4] .
فلما فصلوا بالقميص قَالَ يعقوب: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ 12: 94 [5] فكان بينهما مسيرة ثمانية أَيَّام.
قَالَ الْعُلَمَاء: واستأذنت الريح ربها أن تأتي ربيح القميص يعقوب قبل البشر، فأذن لَهَا.
فلما وصل وَهُوَ يهوذا، وَكَانَ قَدْ قَالَ: أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم فأخبرته أَنَّهُ أكله الذئب وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره أَنَّهُ حي فأفرحه كَمَا أحزنته، فألقاه عَلَى وجه يَعْقُوب فارتد بصيرا، فَقَالَ أولاده: يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا 12: 97 [6] . قال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ 12: 98 [7] . فأخر ذَلِكَ إِلَى ليلة الجمعة وقت السحر.
ثُمَّ دَخَلَ يعقوب وأولاده وأهله إِلَى مصر، فلما بلغوا خرج يُوسُف يتلقاه فِي ألوف كثيرة، فنظر يعقوب إِلَى الْخَيْل، فَقَالَ لابنه يهوذا وَهُوَ يتوكأ عَلَيْهِ: هَذَا فرعون [مصر] [8] ، فقال: لا هذا ابنك يُوسُف. فلما التقيا قَالَ يعقوب: السَّلام عليك يا مذهب الأحزان، فلما دخلوا مصر رفع أبويه عَلَى العرش، وَهُوَ السرير.
والمراد بأبويه: أبوه وأمه، وقيل: بَل خالته وكانت أمه قَدْ ماتت. وخروا لَهُ- الوالدان والأخوة- سجدا. وكانت تحية الناس قديما.
فقال يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ 12: 100 [1] الَّتِي رأيتها، وَكَانَ بَيْنَ الرؤيا وتأويلها أربعون سَنَة. قاله سلمان وَقَالَ الْحَسَن: ثمانون. قَالَ الْحَسَن: ألقي يُوسُف فِي الجب وَهُوَ ابْن سبع عشرة سَنَة، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ وبين لقاء يعقوب ثمانين سَنَة، وعاش بَعْد ذَلِكَ ثلاثا وعشرين سَنَة، ومات وَهُوَ ابْن عشرين ومائة سَنَة.
وَقَدْ زعم بَعْض أَهْل الكتاب أَن يُوسُف دَخَلَ مصر وَلَهُ سبع عشرة سَنَة، وأقام فِي منزل الْعَزِيز ثَلاث عشر سَنَة، فلما تمت لَهُ ثلاثون سَنَة استوزره فرعون ملك مصر واسمه الريان بْن الْوَلِيد، وأن هَذَا الْمَلِك آمن بِهِ ثُمَّ مَات.
وَقَالَ بَعْض علماء السير: أقام يعقوب عِنْدَ يُوسُف [بمصر] [2] أربعا وعشرين سَنَة، وقيل: سبع عشرة، ومات وَهُوَ ابْن مائة وسبع وأربعين سَنَة، وعاش يُوسُف بَعْد يعقوب ثلاثا وعشرين سَنَة، وأوصى إِلَى يُوسُف أَن يدفنه عِنْدَ أَبِيهِ إِسْحَاق، فحمله إِلَى هناك، وأوصى يُوسُف إِلَى أخيه يهوذا [أَن يدفن إِلَى جنب آبائه] [3] . ومات.
مصادر و المراجع :
١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
(المتوفى: 597هـ)
16 ديسمبر 2023
تعليقات (0)