المنشورات

ملك منوشهر (ميوشهر)

ورأيته بخط أَبِي الْحُسَيْن بْن المنادي «ميوشهر» قَدْ ضبط بالياء، وهو من ولد إيرج ابن أفريدُونَ، ولما كبر صار إِلَى جده أفريدُونَ فتوجه. وبعث موسى عَلَيْهِ السَّلام وَقَدْ مضى من ملك منوشهر ستون سَنَة، فعاش فِي الْمَلِك ستين [سَنَة] [2] أُخْرَى، ثُمَّ وثب بِهِ عدو [3] فنفاه عن بلده اثني عشر سَنَة، ثُمَّ أديل منه منوشهر فنفاه وعاد إِلَى ملكه، فملكه بَعْد ذَلِكَ ثمانيا وعشرين سَنَة.
وَكَانَ منوشهر يوصف بالعدل والإحسان، وَهُوَ أول من خندق الخنادق وجمع آلة الحرب وزاد في مهنة المقاتلة الرمي، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها لَهُ خولا وعبيدا.
وسار إِلَى بلاد الترك مطالبا بدم جده إيرج، فقتل طوخ بْن أفريدُونَ فانصرف.
واصطلح هُوَ وقريشات عَلَى أَن يجعلا حد مَا بَيْنَ مملكتيهما منتهى رمية سهم رجل من أَصْحَاب منوشهر، فحيث مَا وقع سهمه من موضع رميته تلك مِمَّا يلي الترك فهو الحدّ بينهما. فرمى ذلك فبلغت رميته نهر بلخ، فصار حد مَا بَيْنَ الترك وولد طوخ وولد إيرج.
واشتق منوشهر من الصراة ودجلة ونهر بلخ أنهارا عظاما، وقيل: إنه هُوَ الَّذِي كرى الفرات الأكبر، وأمر النَّاس بحراثة الأَرْض وعمارتها.
قَالُوا: ولما مضى من ملك منوشهر خمس وثلاثون سَنَة تناولت الترك من أطراف رعيته فقام خطيبا فوبخ رعيته- ويقال: هِيَ أول خطبة سمعت من خطيب- وَقَالَ [1] :
إِنَّمَا النَّاس ناس مَا دفعوا العدو عَنْهُم، وَقَدْ نالت الترك من أطرفكم، وليس ذَلِكَ إلا من ترككم جهاد عدوكم، وقلة المبالاة، وإن اللَّه أعطانا هَذَا الْمَلِك ليبلونا أنشكر فيزيدنا أم نكفر فيعاقبنا، فَإِذَا كَانَ غدا فاحضروا.
وأرسل إِلَى أشراف الأساورة فدعاهم وأدخل الرؤساء، ودعى موبذ موبذان، فأقعد عَلَى كرسي مِمَّا يلي سريره، ثُمَّ قام عَلَى سريره، فقام أشراف أَهْل مملكته، فَقَالَ:
اجلسوا فإني إِنَّمَا قمت لأسمعكم كلامي، فجلسوا، فَقَالَ: أيها النَّاس، إِنَّمَا الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مِمَّا هُوَ كائن، وَإِنَّهُ لا أضعف من مخلوق طالبا كَانَ أَوْ مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر مِمَّن طلبته فِي يده، ولا أعجز مِمَّن هُوَ فِي يد طالبه، وإن التفكر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وَقَدْ ورد الأَوَّل ولا بد للآخر من اللحوق بالأول، وَقَدْ مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فَمَا بقاء فرع بَعْد ذهاب أصله! وإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أعطانا هَذَا الْمَلِك فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإن للملك عَلَى أَهْل مملكته [حقا، ولأهل مملكته عَلَيْهِ حقا، فحق الْمَلِك على أهل المملكة] [2] أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوه، وحقهم عَلَى الْمَلِك أَن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها و [أنها تجارتهم، وحق الرعية عَلَى الْمَلِك] [3] أَن ينظر لَهُمْ، ويرفق بهم، ولا يحملهم مَا لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أَوِ الأَرْض أَن يسقط عَنْهُم خراج مَا نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أَن يعوضهم مَا يقويهم عَلَى عمارتها، ثم يأخذ مِنْهُم بَعْد ذَلِكَ عَلَى قدر مَا لا يجحف بهم، والجند للملك بمنزلة جناحي الطائر، فَمَتَى قص من الجناح ريشه كَانَ ذَلِكَ نقصانا منه، فَكَذَلِكَ الْمَلِك إِنَّمَا هُوَ بجناحه وريشه.
ألا وإن الْمَلِك ينبغي أَن يَكُون فِيهِ ثَلاث خصال: أولها أَن يَكُون صدوقا لا يكذب، وأن يَكُون سخيا لا يبخل، وأن يملك نَفْسه عِنْدَ الغضب، فَإِنَّهُ مسلط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فينبغي ألا يستأثر عَنْ جنده ورعيته بِمَا هُمْ أهله، وأن يكثر العفو، فَإِنَّهُ لا ملك أبقى من ملك فِيهِ العفو، ولا أهلك من ملك فِيهِ العقوبة، ولأن يخطئ في العفو فيعفو، خير من أَن يخطئ فِي العقوبة.
فينبغي للملك أَن يتثبت فِي الأمر الَّذِي فِيهِ قتل النفس [وبواها] [1] ، وإذا رفع إِلَيْهِ من عامل من عماله مَا يستوجب بِهِ العقوبة فلا ينبغي لَهُ أَن يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلم، فإن صح عليه للمظلوم حق خرج إليه منه، وإن عجز عنه آدمي أدى عنه الملك [ورده إلى موضعه] [2] ، وأخذه بإصلاح ما أفسد، فهذا لكم علينا.
ألا من سفك دما بغير حق أو قطع يدا بغير حق، فإني لا أعفو عَنْ ذَلِكَ إلا أَن يعفو عَنْهُ صاحبه، فخذوا هَذَا عني.
وإن الترك قَدْ طمعت فيكم فاكفوها بِمَا تكفون أنفسكم بِهِ، وَقَدْ أمرت لكم بالسلاح والعدة وَأَنَا شريككم فِي الرأي، وإنما لي من هَذَا الْمَلِك اسمه مَعَ الطاعة منكم.
ألا وإن الْمَلِك ملك إِذَا أطيع، فَإِذَا خولف فذلك مملوك لَيْسَ بملك. فمهما بلغنا من الخلاف فإنا لا نقبله من المبلغ لَهُ حَتَّى نتيقنه منه، فَإِذَا صحت معرفة ذَلِكَ أنزلناه منزل المخالف.
ألا وإن أكمل الأداة عِنْدَ المصيبات الأخذ بالصبر والراحة إِلَى اليقين، فمن قتل فِي مجاهدة العدو رجوت لَهُ الفوز برضوان اللَّه.
وأفضل الأمور التسليم لأمر اللَّه والراحة إِلَى اليقين والرضا بقضائه، أين المهرب مِمَّا هُوَ كائن! وإنما يتقلب فِي كف الطالب، وإنما أَهْل هذه الدنيا سفر لا يحلون عقد الرحال إلا فِي غيرها، وإنما بلغتهم فِيهَا بالعواري، فَمَا أَحْسَن الشكر للمنعم والتسليم لمن الْقَضَاء لَهُ! ومن أحق بالتسليم لمن فوقه مِمَّن لا يجد مهربا إلا إِلَيْهِ، ولا معوّلا إلا عليه!

فثقوا أَن النصر من اللَّه تَعَالَى، وكونوا عَلَى ثقة من درك الطلبة إِذَا صحت نياتكم، واعلموا أَن هَذَا الْمَلِك لا يقوم إلا بالاستقامة وحسن الطاعة، وقمع العدو وسد الثغور والعدل للرعية وإنصاف المظلوم، فشفاؤكم عندكم، والدواء الَّذِي لا داء فِيهِ الاستقامة، والأمر بالخير والنهي عَنِ الشر، ولا قوة إلا باللَّه.
انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فِيهَا رغبوا فِي العمارة، فزاد ذَلِكَ في خراجكم، وتبين فِي زيادة أرزاقكم، وإذا خفتم عَلَى الرعية زهدوا فِي العمارة، وعطلوا أَكْثَر الأَرْض فنقص ذَلِكَ من خراجكم، وتبين فِي نقص أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف.
هَذَا قولي وأمري يا موبذ موبذان، الزم هَذَا القول وجد [1] فِي هَذَا الَّذِي سمعت فِي يومك، أسمعتم أيها النَّاس! فَقَالُوا: نعم، قَدْ قُلْت فأحسنت، ونحن فاعلون إِن شاء اللَّه.
ثُمَّ أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا، ثُمَّ خرجوا وَهُمْ لَهُ شاكرون.
وَكَانَ ملكه مائة وعشرين سَنَة، فلما هلك قريشات، وتغلب عَلَى مملكة فارس، وصار إِلَى أرض بابل، وأقام بأذربيجان، وأكثر الفساد فبقي اثنتي عشرة سَنَة إِلَى أَن ظهر زو.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید