المنشورات
مَا جرى لَمُوسَى بَعْد انفصاله عَنْ مدين شُعَيْب
قَالَ السدي [1] : فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ 28: 29 ضل الطريق فرأى نارا- وَكَانَ شتاء- ف قال لِأَهْلِهِ امْكُثُوا 28: 29 [2] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي مَنْصُور الْحَافِظ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا الحسن بن عَلِي التميمي/ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَبْد الكريم بْن معقل بْن منبه، حَدَّثَنَا عَبْد الصمد بْن معقل، قَالَ: سمعت وهب بْن منبه قَالَ [3] :
لما رأى موسى النار انطلق يسير حَتَّى وقف منها قريبا، فَإِذَا هُوَ بنار عظيمة تفور من فروع شجرة خضراء شديدة الخضرة، لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما، ولا تزداد الشجرة عَلَى شدة الحريق إلا خضرة وحسنا.
فوقف ينظر لا يدري عَلَى مَا يضع أمرها، إلا أَنَّهُ قَدْ ظن أَنَّهَا شجرة تحترق أوقد إِلَيْهَا موقد نالها فاحترقت، وَإِنَّهُ إِنَّمَا تمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جزعها. فوضع أمرها عَلَى هَذَا، فوقف يطمع أَن يسقط منها شَيْء فيقتبسه.
فلما طال عَلَيْهِ ذَلِكَ أهوى إِلَيْهَا بضغث فِي يده وَهُوَ يريد أَن يقتبس من لهبها. فلما فعل ذلك موسى مالت نحوه كأنما تريده، فأستأخر عَنْهَا وهاب، ثُمَّ عاد فطاف بها فلم تزل تطمعه ويطمع فِيهَا. وَلَمْ تكن بأوشك من خمودها، فاشتد عِنْدَ ذَلِكَ عجبه وفكر فِي أمرها، وَقَالَ: هِيَ نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تضرم فِي جوف شجرة ولا تحرقها، ثُمَّ خمودها عَلَى قدر عظمها فِي أوشك من طرفة عين، فلما رأى ذَلِكَ موسى، قَالَ: إِن لهذه النار لشأنا. ثُمَّ وضع أمرها عَلَى أَنَّهَا مأمورة أَوْ مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بِمَا أمرت ولا من صنعها ولا لَمْ صنعت، فوقف متحيرا لا يدري أيرجع أم يقيم.
فبينا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إذ رمى بطرفه نَحْو فرعها فَإِذَا هُوَ أشد مَا كَانَ خضرة، وإذا الخضرة ساطعة فِي السماء، ثُمَّ لَمْ تزل الخضرة تنور وتصفر وتبياض حَتَّى صارت نورا ساطعا عمودا مَا بَيْنَ السماء وَالأَرْض عَلَيْهِ مثل شعاع الشمس تكل دُونَه الأبصار، كلما نظر إِلَيْهِ كاد يخطف بصره.
فعند ذَلِكَ اشتد خوفه وحزنه، فرد يده عَلَى عينيه ولصق بالأرض وسمع الحنين والوجس إلا أَنَّهُ يسمع حينئذ شَيْئًا لَمْ يسمع السامعون مثله. عظما الحنين.
فلما بلغ موسى الكرب واشتد عَلَيْهِ الهول وكاد أَن يخالط فِي عقله من شدة الخوف لما يسمع ويرى نودي من الشجرة، فقيل: يا موسى، فأجاب سريعا وَمَا يدري من دعا، وَمَا كَانَ سرعة إجابته إلا استئناسا بالإنس، فَقَالَ: لبيك مرارا، أسمع صوتك وأحس رحبك ولا أرى مكانك، فأين أَنْتَ؟ قَالَ: أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك.
فلما سمع هَذَا موسى علم أَنَّهُ لا ينبغي ذَلِكَ إلا لربه تعالى، وأيقن به، فقال:
كذلك أنت يا إلهي، أكلامك أسمع أم لرسولك؟ قَالَ: أنا الَّذِي أكلمك فادن مني، فجمع موسى يديه فِي العصا ثُمَّ تحامل حَتَّى استقل قائما فرعدت فرائصه حَتَّى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه وَلَمْ يبق منه عظم يحمل آخر، فَهُوَ بمنزلة الميت إلا أَن روح الحياة تجري فِيهِ، ثُمَّ زحف عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مرعوب حَتَّى وقف قريبا من الشجرة الَّتِي نودي منها، فَقَالَ لَهُ الرب تبارك وتعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قال هِيَ عَصايَ 20: 17- 18 قَالَ: وَمَا تصنع بها ولا أحد أعلم بذلك منه، قال موسى: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى 20: 18. وكان لموسى عليه السلام في العصي مآرب. وكانت لَهَا شعبتان ومحجن تَحْتَ الشعبتين.
قَالَ لَهُ الرب تبارك وتعالى: أَلْقِها يَا مُوسى 20: 19 [1] . فظن موسى أَنَّهُ يَقُول لَهُ ارفضها فألقاها عَلَى وجه [الأَرْض لا عَلَى وجه] [2] الرفض، ثم حانت منه نظرة فإذا هي بأعظم ثعبان نظر إِلَيْهِ الناظرون يدب ليمس كأنه يبتغي شَيْئًا يريد أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيقبلها، ويطعن بالناب فِي أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه توقدان نارا، وَقَدْ عاد المحجن عرفا فِيهِ شعر مثل النيازك، وعادت الشعبتان فَمَا مثل القليب الواسع، وفيه أضراس وأنياب لَهَا صريف.
فلما عاين ذَلِكَ موسى عَلَيْهِ السَّلام ولى مدبرا، فَذَهَبَ حَتَّى أمعن [فِي البرية] [1] ، ورأى أَنَّهُ قَدْ أعجز الحية، ثُمَّ ذكر ربه عَزَّ وَجَلَّ فوقف استحياء منه.
ثُمَّ نودي: يا موسى، ارجع حيث كنت، فرجع وهو شديد الخوف، قال:
خُذْها 20: 21 بيمينك وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى 20: 21 [2] وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها ثنى طرف المدرعة عَلَى يده، فَقَالَ لَهُ ملك: أرأيت يا موسى لو أذن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لما تحاذر، أكانت المدرعة تغني عنك شَيْئًا؟ قَالَ: لا ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت، فكشف عن يده ثم وضعها في فِي الحية حَتَّى سمع حس [الأضراس] [3] والأنياب، ثُمَّ قبض فَإِذَا هِيَ عصاه الَّتِي عهدها، فَإِذَا يده فِي الموضع الَّذِي كَانَ يضعها فِيهِ إِذَا توكأ بَيْنَ الشعبتين.
فَقَالَ لَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: ادن، فلم يزل يدنيه حَتَّى أَسْنَدَ ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة، وجمع يديه فِي العصا وخضع برأسه وعنقه، ثُمَّ قَالَ: إني قَدْ أتيتك اليوم مقاما لا ينبغي لبشر بعدك أَن يقوم مقامك أدنيتك وقربتك حَتَّى سمعت كلامي، وكنت بأقرب الأمكنة مني، فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، فَإِن معك يدي وبصري، وإني قَدْ ألبستك جبة من سلطاني تستكمل بها القوة فِي أمري، فأنت جند عظيم من جنودي بعثتك إِلَى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حَتَّى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وَعَبْد [غيري] [4] ، وزعم أَنَّهُ لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت بطشة جبار يغضب لغضبه السموات وَالأَرْض والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأَرْض ابتلعته، وإن أمرت [الجبال] [1] دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان عَلِي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بِمَا عندي، وحق لي أني أنا الغني لا غني غيري.
فبلغه رسالاتي [2] ، وادعه إِلَى عبادتي وتوحيدي، وإخلاص اسمي، وذكره بآياتي وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أني إِلَى العفو والمغفرة أسرع مني إِلَى الغضب والعقوبة، ولا يرعبك مَا أُلْبِسَهُ من لباس الدنيا، فَإِن ناصيته بيدي لَيْسَ يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني.
قل لَهُ: أجب ربك عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ واسع المغفرة، فَإِنَّهُ قَدْ أمهلك أربعمائة سَنَة وَفِي كلها أَنْتَ مبارز لمحاربته، تشبه وتمثل وتصد عباده عَنْ سبله، وَهُوَ يمطر عليك السماء، وينبت لَكَ الأَرْض، لَمْ تسقم وَلَمْ تهرم وَلَمْ تفتقر [3] وَلَمْ تغلب. ولو شاء أَن يعجل ذَلِكَ لَكَ أَوْ يسلبكه فعل، ولكنه ذو أناة، وحلم عظيم.
وجاهده بنفسك وأخيك، وأنتما محتسبان بجهاده، فإني لو شئت أَن آتيه بجنود لا قبل لَهُ بها لفعلت، ولكن ليعلم هَذَا العبد الضعيف الَّذِي قَدْ أعجبته نَفْسه وجموعه أَن الفئة القليلة- ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني.
ولا تعجبنكما زينته، ولا مَا يتمتع بِهِ، ولا تمدا إِلَى ذَلِكَ أعينكما، فإنها زهرة الحياة الدُّنْيَا، وزينة المترفين، وإني لو شئت أَن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حِينَ ينظر إِلَيْهَا أَن مقدرته تعجز عَنْ مثل مَا أوتيتما فعلت، ولكني أرغب بكما عَنْ ذَلِكَ وأزويه عنكما، وَكَذَلِكَ أفعل بأوليائي قديما فأخرت لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فإني لأذودهم عَنْ نعيمها ورخائها كَمَا يذود الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم سلوتها وعيشها كَمَا يجنب الراعي الشفيق عَنْ مبارك الغرة.
وَمَا ذاك لهوانهم عَلِي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لَمْ تكلمه الدُّنْيَا وَلَمْ يطع الهوى.
واعلم أَنَّهُ لَمْ يتزين الْعِبَاد بزينة هِيَ أبلغ من الزهد فِي الدنيا، فإنها زينة المتقين، عَلَيْهِم منها لباس يعرفون بِهِ من السكينة والخشوع، سِيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ من أَثَرِ السُّجُودِ 48: 29 [1] .
أولئك أوليائي حقا حقا، فَإِذَا لقيتهم فاخفض لَهُمْ جناحك وذلل لَهُمْ قلبك ولسانك.
واعلم أَنَّهُ من أهان لي وليا إِذَا خافه فَقَدْ بارزني بالمحاربة وَمَا رآني، وعرض نَفْسه [للهلكة] [2] ودعاني إِلَيْهَا، وأنا أسرع شَيْء إِلَى نصرة أوليائي، أفيظن الَّذِي يحاربني أَن يقوم لي؟ أَوْ يظن الَّذِي يعاديني أَن يعجزني؟ أم يظن الَّذِي بارزني أَن يسبقني أَوْ يفوتني؟ فكيف وأنا الثائر لَهُمْ فِي الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إِلَى غيري.
قَالَ [3] : فأقبل موسى صلى الله عليه وسلم إِلَى فرعون فِي مدينته، قَدْ جعل حولها الأسد فِي غيضة قَدْ غرسها، فالأسد فِيهَا مَعَ ساستها، إِذَا آسدتها عَلَى أحد أكل. وللمدينة أربعة أبواب فِي الغيضة، فأقبل موسى عَلَيْهِ السَّلام من الطريق الأعظم الَّذِي يراه منه فرعون، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب فأنكر ذَلِكَ الساسة وفرقوا من فرعون.
وأقبل موسى حَتَّى انتهى إِلَى الباب إِلَى قبة فرعون فقرعه بعصاه، وعليه جبة صوف وسراويل صوف، فلما رآه البواب عجب من جرأته فتركه وَلَمْ يأذن لَهُ، وَقَالَ: هل تدري من تضرب؟ إِنَّمَا تضرب بَاب سيدك، قَالَ: أَنْتَ وأنا وفرعون عبيد لربي عَزَّ وَجَلَّ فأنا آمره، فأخبر البواب الَّذِي يليه والبوابين حَتَّى بلغ ذَلِكَ أدناهم ودُونَهم سبعون حاجبا كُل حاجب مِنْهُم تَحْتَ يده من الجنود مَا شاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كأعظم أمِير اليوم إمارة، حَتَّى خلص الْخَبَر إِلَى فرعون، فَقَالَ: أدخلوه عَلِي [فأدخلوه] [4] ، فلما أتاه قَالَ لَهُ فرعون: أأعرفك، قَالَ: نعم، قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً 26: 18 [5] . فرد موسى عَلَيْهِ الَّذِي ذكره اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ فرعون: خذوه، فبادرهم موسى فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ 26: 32 [6] فحملت عَلَى النَّاس فانهزموا منها فمات مِنْهُم خمسة وعشرون ألفا، قتل بَعْضهم بَعْضًا.
وقام فرعون منهزما حَتَّى دَخَلَ الْبَيْت، فَقَالَ لموسى: اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فِيهِ، فَقَالَ لَهُ موسى: لَمْ أومر [1] بِذَلِكَ وأنا أمرت بمناجزتك، وإن أَنْتَ لَمْ تخرج إلي دخلت إليك.
فأوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى موسى: أَن اجعل بينك وبينه أجلا، واجعل ذَلِكَ إِلَيْهِ، قَالَ فرعون: أجعله إِلَى أربعين يوما، ففعل. وَكَانَ فرعون لا يَأْتِي الخلاء إلا فِي أربعين يوما مرة، فاختلف ذَلِكَ اليوم أربعين مرة.
قَالَ: وخرج موسى من المدينة، فلما مر بالأسد بصبصت بأذنابها، وسارت مَعَ موسى تشيعه ولا تهيجه ولا أحد من بَنِي إسرائيل.
مصادر و المراجع :
١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
(المتوفى: 597هـ)
16 ديسمبر 2023
تعليقات (0)