المنشورات

أرمياء

وَهُوَ أرمياء الألف مضمومة، كَذَلِكَ قرأته عَلَى شيخنا أَبِي مَنْصُور اللغوي.
أنبأنا يَحْيَى بْنُ ثَابِتِ بْنِ بُنْدَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، قال: أخبرنا أبو علي بن دوما، قال: أخبرنا مخلد بن جعفر، قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان، قال: أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عيسى العطار، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حذيفة إِسْحَاق بْن بشر القرشي، قَالَ:
حَدَّثَنَا إدريس، عن وهب:
أَن أرمياء كَانَ غلاما من أبناء الملوك، وَكَانَ زاهدا، وَلَمْ يكن لأبيه ابْن غيره، وكان أبوه يعرض النكاح، وَكَانَ يأبى مخافة أَن يشغله عَنْ عُبَادَة ربه، فألح عَلَيْهِ أبوه وزوجه في أهل بَيْت من عظماء أَهْل مملكته، فلما دخلت عَلَيْهِ امرأته، قَالَ لَهَا: يا هذه، إني مسر إليك أمرا فَإِن كتمته عَلِي وسترته سترك اللَّه فِي الدنيا والآخرة، وإن أَنْتَ أفشيته قصمك اللَّه فِي الدنيا والآخرة. قَالَتْ: فإني سأكتمه عليك، قَالَ: فإني لا أريد النِّسَاء.
فأقامت مَعَهُ سَنَة، ثُمَّ إِن أباه أنكر ذَلِكَ، فسأله فَقَالَ: يا أبه مَا طال ذَلِكَ بَعْد، فدعى امرأته فسألها، فَقَالَتْ مثل ذَلِكَ، ففرق بينهما وزوجه امرأة فِي بَيْت أشرافهم فأدخلت عَلَيْهِ فاستكتمها أمره، فلما مضت سَنَة سأله أبوه مثل مَا سأل، فَقَالَ: مَا طال ذَلِكَ، فسأل المرأة فَقَالَتْ: كَيْفَ تحمل امرأة من غَيْر زوج مَا مسني؟ فغضب أبوه، فهرب منه.
فبعثه اللَّه نبيا مَعَ «ناشية» ، و «ناشية» ملك. وَذَلِكَ حِينَ عظمت الأحداث فِي بَنِي إسرائيل وعملوا بالمعاصي، وقتلوا الأنبياء، وأوحى إِلَيْهِ: إني مهلك بَنِي إسرائيل ومنتقم مِنْهُم، فقم عَلَى صخرة بَيْت المقدس يأتيك أمري، فقام وجعل الرماد عَلَى رأسه وخر ساجدا، وَقَالَ: يا رب، وددت أَن أمي لَمْ تلدني حِينَ جعلتني آخر أنبياء بَنِي إسرائيل، فيكون خراب بَيْت المقدس وبوار بَنِي إسرائيل من أجلي، فقيل لَهُ: ارفع رأسك، فرفع رأسه وبكى ثُمّ قَالَ: يا رب من تسلط عَلَيْهِم؟ قَالَ: عبدة النيران لا يخافون عذابي ولا يرجون ثوابي، قم يا أرميا فاستمع حَتَّى أخبرك خبرك وخبر بَنِي إسرائيل: من قبل أَن أصورك قَدْ نبيتك، من قبل أَن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن [قبل] [1] أَن تبلغ الأشد اخترتك، ولأمر عظيم اجتبيتك، فقم مَعَ الْمَلِك «ناشية» فسدده وأرشده فكان مَعَهُ يرشده، ويأتيه الوحي حَتَّى عظمت الأحداث ونسوا إنجاء اللَّه إياهم من عدوهم سنحاريث، فأوحى اللَّه إِلَى أرميا: قم فقص عَلَيْهِم مَا أمرتك بِهِ، وذكرهم نعمتي عَلَيْهِم، وعرفهم أحداثهم.
فَقَالَ أرميا: يا رب إني ضعيف إِن لَمْ تقوني، عاجز إِن لَمْ تبلغني، مخطئ إِن لَمْ تسددني، مخذول إِن لَمْ تنصرني، ذليل إِن لَمْ تعزني.
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ: أولم تعلم أَن الأمور كلها تصدر عَنْ مشيئتي، وأن الخلق والأمر كُلهُ لي، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي أقلبها كَيْفَ شئت فتطيعني، وأنا الله الّذي ليس شيء مثلي، قامت السموات وَالأَرْض وَمَا فيهن بكلمتي، وَلَمْ تتم المقدرة إلا لي، وَلَمْ يعلم مَا عندي غيري، وأنا الَّذِي كلمت البحار ففهمت قولي وأمرتها فعقلت أمري، وحددت عَلَيْهَا حدودا فلا تعدو حدي، وإني معك ولن يصل إليك شَيْء معي، وإني بعثتك إِلَى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي، مستوجبا بِذَلِكَ أجر من اتبعك مِنْهُم، ولا ينقص من أجورهم شَيْء، انطلق إِلَى قومك فقم فيهم وقل لَهُمْ إِن اللَّه تبارك وتعالى ذكركم بصلاح آبائكم، فلذلك استقاكم يا معشر أبناء الأنبياء ونسلهم، كيف وجد آباؤهم مغبة طاعتي، وكيف وجدوا هُمْ مغبة معصيتي، وهل وجدوا أحدا عصاني فسعد بمعصيتي، وهل علموا أحدا طاعني فشقي بطاعتي، إِن الدواب إِذَا ذكرت أوطانها/ الصالحة نزعت إِلَيْهَا، وإن هَؤُلاءِ الْقَوْم رتعوا فِي مروج الهلكة وتركوا الأمر الَّذِي بِهِ أكرمت آباءهم، وابتغوا الكرامة من غَيْر وجهها. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادتي خولا يتعبدُونَهم [دُونَي] [1] ، ويحكمون فيهم بغير كتابي، حَتَّى أنسوهم ذكري، و [غيروا] [2] سنني، فأدان لَهُمْ عبادي بالطاعة الَّتِي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم فِي معصيتي. وَأَمَّا ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، وغرتهم الدُّنْيَا حَتَّى نبذوا كتابي، ويفترون عَلَى رسلي جرأة مِنْهُم عَلِي وغرة بي. فسبحان جلالي، وعلو مكاني، وعظمة شأني! وهل ينبغي لي أَن يَكُون لي شريك فِي ملكي؟ وهل ينبغي لبشر أَن يطاع فِي معصيتي؟ وهل ينبغي لي أَن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دُونَي، وآذن بطاعة لأحد لا تنبغي لأحد إلا لي.
وَأَمَّا قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون مَا يتخيرون، فينقادُونَ للملوك فيتابعونهم عَلَى البدع الَّتِي يبتدعون فِي ديني، ويطيعونهم فِي معصيتي، ويوفون بعهودهم الناقضة لعهدي.
وَأَمَّا أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون، يخوضون مَعَ الخائضين، فيتمنون عَلِي مثل نصري أباءهم، والكرامة الَّتِي أكرمتهم بها، ويزعمون أَنَّهُ لا أحد أولى بِذَلِكَ مِنْهُم [مني] [3] بغير صدق مِنْهُم، ولا تفكر، ولا يذكرون كَيْفَ كَانَ نصر آبائهم، وكيف كَانَ جهدهم فِي أمري، حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حَتَّى عز أمري، وظهر ديني، فتأنّيت بهؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني ويرجعون، فطولت عَلَيْهِم وصفحت عَنْهُم، فأكثرت ومددت لَهُمْ فِي العمر وأعذرت لعلهم يتذكرون، وكل ذَلِكَ أمطر عَلَيْهِم السماء، وأنبت لَهُمُ الأَرْض، وألبسهم العافية، وأظهرهم عَلَى العدو، فلا يزدادُونَ إلا طغيانا وبعدا مني. فحتى مَتَى، أَبِي يتمرسون، أم إياي يخادعون، أم علي يتجرءون، فإني أقسم بعزتي لأقيمن لَهُمْ فتنة يتحير فِيهَا الحكيم، ويضل فِيهَا رأي ذو الرأي، وحكمة الحكيم، ثُمَّ لأسلطن عَلَيْهِم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة والبيان، يتبعه عد وسواد مثل الليل المظلم [1] ، لَهُ فِيهِ عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب مثل العجاج، كأن حفيف راياته طيران النسور، وحجل فرسانه كصوت العقبان [2] ، يعيدُونَ العمران خرابا، والقرى وحشا، ويبعثون فِي الأَرْض فسادا، ويتبرون مَا علوا تتبيرا، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقون ولا يرحمون، يجولون فِي الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد تقشعر من هيبتها الجلود. فو عزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ولأخلين مجالسهم من حَدِيثها ودروسها، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الَّذِينَ كَانُوا يتزينون بعمارتها لغيري، ويتعبدُونَ فِيهَا لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فِيهَا لغير الدين، ويتعلمون فِيهَا لغير العمل. لأبدلن ملوكها بالعز الذل، وبالأمن الخوف، وبالغنى الفقر، وبالنعمة الجوع، وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء، وبلباس الحرير مدارع الوبر، والعباء بالأرواح الطيبة والأدهان جيف القتلى، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والأغلال.
ثُمَّ لأعيدن فيهم بَعْد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع، وبعد صهيل الْخَيْل عواء الذئاب، وبعد ضوء السراج دخان الحريق، وبعد الأنس الوحشة والقفار.
ثُمَّ لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار، وبالمشي عَلَى الزرابي عبور الأسواق والأنهار، وبالخدور والستور الحسور عَنِ الوجوه والسوق والأسفار.

ثُمَّ لأدوسنهم بألوان العذاب حَتَّى لو كَانَ الكائن مِنْهُم فِي خالق لوصل ذَلِكَ إِلَيْهِ، إني إِنَّمَا أكرم من أكرمني، وإنما أهين من هان عَلَيْهِ أمري، ثُمَّ لآمرن السماء خلال ذَلِكَ فلتكونن طبقا من حديد، ولآمرن الأَرْض فلتكونن سبيكة من نحاس، فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت. فَإِن أمطرت خلال ذَلِكَ شَيْئًا سلطت عَلَيْهِ الآفة، فَإِن خلص مِنْهُم شَيْء نزعت منه البركة، وإن دعوني لَمْ أجبهم، وإن سألوني لَمْ أعطهم، وإن بكوا لَمْ أرحمهم، وإن تضرعوا إلي صرفت وجهي عَنْهُم، وإن قَالُوا: اللَّهمّ أَنْتَ الَّذِي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك، وَذَلِكَ بأنك اخترتنا لنفسك، وجعلت فينا نبوتك وكتابك، ثُمَّ مكنت لنا فِي البلاد واستخلفتنا فِيهَا وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارا وحفظتنا وإياهم برحمتك كبارا، فأنت أحق المنعمين أَن لا تغير إِن غيرنا، ولا تبدل إِن بدلنا، وأن يتم نعمه وإحسانه.
فَإِن قَالُوا ذَلِكَ قُلْت لَهُمْ: إني ابتدئ عبادي بنعمتي ورحمتي، فَإِن قبلوا أتممت، وإن استزادوا زدت، وإن شكروا ضاعفت، وإن بدلوا غيرت، وإذا غيروا غضبت، وإذا غضبت عذبت، وليس يقوم لغضبي شَيْء.
وَقَالَ كعب: قَالَ أرمياء: برحمتك أصبحت أتكلم بَيْنَ يديك، وهل ينبغي لي ذَلِكَ وأنا أذل وأضعف من أَن ينبغي لي أَن أتكلم بَيْنَ يديك، ولكن برحمتك أبقيتني لِهَذَا اليوم، وليس أحد أحق من يخاف هَذَا العذاب وَهَذَا الوعيد مني بِمَا رضيت بِهِ مني طولا والإقامة فِي دار الخاطئين وَهُمْ يعصونك حولي بغير نكير ولا تغير مني، فَإِن تعذبني فبذنبي، وإن ترحمني فذلك ظني بك.
ثُمَّ قَالَ: يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت إنك المملك هذه القرية وَمَا حولها وَهِيَ مساكن أنبيائك، ومنزل وحيك، يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت إنك لمخرب هَذَا الْمَسْجِد وَمَا حوله من المساجد ومن البيوت الَّتِي رفعت لذكرك، يا رب وإنك لتعذب هذه الأمة وَهُمْ ولد إِبْرَاهِيم خليلك، وأمة موسى نجيك، وقوم دَاوُد صفيك، يا رب أي القرى يأمن عقوبتك بَعْد أوري شلم، وأي الْعِبَاد يأمنون سطوتك بَعْد ولد خليلك إِبْرَاهِيم، وأمة نجيك موسى، وقوم خليفتك دَاوُد تسلط عَلَيْهِم عبدة النيران.
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: يا أرميا، من عصاني فلا يستنكر نقمتي، فإني إِنَّمَا أكرمت هَؤُلاءِ الْقَوْم عَلَى طاعتي، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم دار العاصين إلا أَن تداركهم رحمتي.
قَالَ أرميا: يا رب اتخذت إِبْرَاهِيم خليلا وحفظتنا بِهِ، وموسى نجيا فنسألك أَن تحفظنا ولا تسلط عَلَيْنَا عدُونَا، فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: يا أرميا إني قدستك فِي بطن أمك وأخرتك إِلَى هَذَا اليوم، فلو أَن قومك حفظوا اليتامى والأرامل/ والمساكين وابن السبيل، وكنت الداعم لهم، وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طامر، لا يغور ماؤها، ولا يبور ثمرها، إني كنت لَهُمْ بمنزلة الراعي الشفيق، أجنبهم كُل قحط وكل عزة، واتبع بهم الخصب حَتَّى صاروا كباشا ينطح بَعْضهَا بَعْضًا.
فيا ويلهم ثُمَّ يا ويلهم إِنَّمَا أكرم من أكرمني، وأهين من هان عَلَيْهِ أمري إِن من كَانَ قبل هَؤُلاَءِ الْقَوْم من القرون يستخفون بمعصيتي، وإن هَؤُلاءِ الْقَوْم يظهرون معصيتي فِي المساجد والأسواق وعلى رءوس الجبال، وظلال الأشجار حَتَّى عجت السماء إلي منها، وَالأَرْض والجبال، ونفرت منها الوحوش، فِي كل ذلك ينتهون ولا ينتفعون بِمَا علموا من الكتاب.
قَالَ: فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا مَا فِيهَا من الوعيد عصوه وكذبوه، وَقَالُوا: أعظمت عَلَى اللَّه الفرية، وتزعم أَن اللَّه معطل أرضه ومساجده من كتابه وعباده وتوحيده، فمن يعبده حِينَ لا يبقى لَهُ فِي الأَرْض عابد ولا مَسْجِد ولا كتاب، لَقَدْ أعظمت الفرية، واعتراك الجنون.
فأخذوه وقيدوه وسجنوه، فعند ذَلِكَ بعث اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِم نصر.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید