المنشورات

مواعظ عِيسَى عَلَيْهِ السلام

 أنبأنا يَحْيَى بْنُ ثَابِتِ بْنِ بُنْدَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بْن الحسين بن دوما، قال: أخبرنا مخلد بن جعفر الباقرجي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّان، قال: أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار، قال: أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ إدريس، عَنْ وهب بْن منبه [2] قَالَ: قَالَ عِيسَى بْن مَرْيَمَ:
«إن للحكمة أهلا إن كتمتها عَنْ أهلها جهلت، وإن تكلمت بها عند غير أهلها جهلت، فكن كالطبيب العالم الذي يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع» [3] .
قَالَ القرشي: وَأَخْبَرَنَا عِيسَى بْن عطية السعدي، وعبد الله بن زياد بن سمعان، قالا: عَنْ بعض من أسلم من أهل الكتاب [4] ، قَالَ: قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السلام للحواريين:
«لا تجالسوا [5] الخطائين فإن مجالستهم تقسي القلب، تقربوا إِلَى اللَّه عز وجل بمفارقتهم. يا معشر الحواريين، لا تحملوا عَلَى اليوم هم غد، حسب كل يوم همه، ولا يهتم أحدكم لرزق غد، خالق غد يأتيكم فيه بالرزق. ولا يقولن أحدكم إذا استقبل الشتاء: من أين آكل ومن أَيْنَ [ألبس؟ وإذا استقبله الصيف يقول: من أين آكل ومن أين] [6] أشرب؟ فإن كان لك فِي الشتاء بقاء فلك فيه رزق، وإن كان لك في الصيف بقاء عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى، فو عزّتي وجلالي لأزوجنك ألف حوراء، ولأولمن عليك أربعمائة عام» . وعزاه ابن كثير لابن عساكر في ترجمة محمد بن الوليد بن أبان، ثم قال: «هذا حديث غريب رفعه، وقد يكون موقوفا من رواية سفي بن نافع عن كعب الأحبار أو غيره من الإسرائيليين، والله أعلم.
فلك فيه رزق. ولا تحمل هم شتائك وصيفك عَلَى يومك، حسب هم كل يوم بما فيه.
يا معشر الحواريين. إن ابن آدم خلق فِي الدنيا عَلَى أربعة منازل، فهو في ثلاثة منها/ باللَّه واثق، وظنه باللَّه حسن، وهو فِي الرابعة سيئ ظنه بربه يخاف خذلان اللَّه إياه.
أما المنزلة الأولى، فإنه يخلق فِي بطن أمه خلقا من بعد خلق، فِي ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، يدر اللَّه عَلَيْهِ رزقه فِي ظلمة البطن، فإذا خرج من البطن وقع فِي اللبن، لا يسعى إليه بقدم، ولا يتناوله بيده، ولا ينهض إليه بقوة بل يكره عَلَيْهِ، حَتَّى يرتفع عَنِ اللبن ويفطم، ويقع فِي المنزلة الثالثة بين أبوين يحنان عَلَيْهِ [1] ، فإذا ماتا وتركاه يتيما تعطف عَلَيْهِ الناس، يطعمه هَذَا ويكسوه هَذَا رحمة له، حَتَّى إذا بلغ منزلته الرابعة واستوى خلقه واجتمع حَتَّى أنه لا يرزقه إلا اللَّه، اجترأ عَلَى اللَّه، وغدا على الناس يقاتلهم عَلَى الدنيا.
يا معشر الحواريين، اعتبروا بالطير، هل رأيتم طيرا قط يدخر، وكذلك البهائم والسباع، الحق أقول لكم أمسيتم فِي زمان [قوم] [2] كلامهم كلام الأنبياء، وفعالهم فعال السفهاء، كلامهم دواء يبرئ الداء، وقلوبكم ما تقبل الدواء. قلوبكم تبكي من أعمالكم، أصبحت الدُّنْيَا عندكم بمنزلة العروس المجلية يعشقها كل من يراها، وهي بمنزلة الحية، لين لمسها، يقتل سمها.
يا معشر الحواريين، ليكن همكم من الدنيا أنفسكم تفوزوا بها، ولا تكن همكم بطونكم وفروجكم، تملئوها من الطعام وتضمروها من الحكمة، كلوا خبز الشعير، وملح الجريش، واخرجوا من الدنيا سالمين. واعلموا أن النظر إِلَى النساء سهم من سهام إبليس مسموم، وهو يزرع الشهوة فِي القلب، وإن مثل الحكيم يعمل حكمته كمثل الشمس تضيء للخلائق ولا تحرق نفسها، وإن مثل الحكيم [3] الذي لا يعمل بحكمته كمثل السراج يضيء لمن حوله، ويحرق نفسه.
يا معشر الحواريين، لا [1] تضعوا البعوض عَنْ شرابكم وسرطون الفيلة [2] ، لا تنظروا/ فِي ذنوب النَّاس كالأرباب وانظروا فِي ذنوبكم كالعبيد، ما الناس إلا كرجلين:
مبتلى ومعافى، فارحموا صاحب البلاء، واحمدوا اللَّه عَلَى العافية [3] .
يا بني إسرائيل، كونوا حكماء علماء، لا تضعوا الحكمة إلا عند أهلها ولا تكتموها أهلها، فإنكم إن تكلمتم بالحكمة عند غير أهلها جهلتم، وإن منعتموها أهلها فقد ظلمتموها وضيعتموها، فكونوا كالطبيب العالم الذي يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع، اعفوا عَنِ الناس يعف اللَّه عز وجل عنكم.
يا بني إسرائيل، ما يغني عَنِ البيت المظلم السراج عَلَى ظهره وباطنه مظلم، تخرجون الحكمة إِلَى الناس وتمسكون الغل فِي صدوركم. لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق ويمسك النخالة، كذلك الحكمة تخرج من أفواهكم وتبقي الغل فِي صدوركم. إن الّذي يخوض الماء لا بدّ أن يصيب ثوبه الماء، وكذلك من يحب الدنيا لا ينجو من الخطايا. طوبى للمجتهدين بالَّليلِ ورعوا فِي مساجدهم العمل وسقوا زرعهم من دموع أعينهم حَتَّى نبت وأدرك الحصاد ليوم فقرهم، فوجدوا عاقبة ذلك عند ربهم، ومن يكن زرعه المر لا يحصد حلوا.
يا عَبْد الدنيا، ما أكثر الشجر وليس كله يثمر، وما أكثر العلماء وليس كلهم يعمل، إن الدابة ما لم ترض تستصعب [4] .
يا عبيد الدنيا، إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر عَلَى ما تكرهون، ولا تبلغون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، كنتم أمواتا فأحياكم، وحين أحياكم متم، وحين كنتم.
ضلالا هداكم، وحين اهتديتم ضللتم. إن الزانية إذا حملت يفضحها حملها، وكذلك يفتضح بالعمل من كَانَ يغر [5] الناس بالقول الحسن ويقول ما لا يفعل.




مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید