المنشورات

العرب

قَالَ مؤلف الكتاب [5] : لما مات بخت نصر انضم الذين أسكنوا الحيرة من العرب إِلَى أهل [6] الأنبار، وبقي الحيرة خرابا [7] ، فغبروا [8] بذلك زمانا طويلا، لا يطلع عليهم أحد من العرب، وَفِي الأنبار أهلها ومن انضم إليهم [9] من أهل الحيرة ومن قبائل العرب من بني إسماعيل ومن معد بْن عدنان، وكثروا وملئوا بلادهم من تهامة وما يليها، ثم فرقتهم [10] حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من بلاد اليمن والمشارق [11] ، ونزل بعضهم البحرين، وكان بها جماعة من الأزد كانوا نزلوها فِي زمان عمران بن عمرو، مزيقياء. ومزيقياء لقب عمرو، وإنما لقّب مزيقياء [12]
لأنه كان يتخذ كل يوم حلتين من حلل الملوك، فإذا أمسى مزقهما واستبدل بهما من الغد أخريين، لأنه لم يكن يرى أحدا أهلا أن يلبس ثيابه. وهو ابن عامر ويلقب عامر: «ماء السماء بْن حارثة» وهو الغطريف بْن ثعلبة بْن امرئ القيس بْن مازن بْن الأزد [1] .
فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا [عَلَى] [2] التنوخ [3]- وهو المقام- وتعاقدوا عَلَى [التوازر] [4] والتناصر، فضمهم [اسم] [5] تنوخ.
فدعا مالك بْن زهير جذيمة الأبرش بْن مالك بْن فهم أن يقيم معه، فأقام فزوجه أخته لميس [6] ابنة زهير.
وكان [7] هَذَا كله فِي أزمان [8] ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر، وفرق البلدان بينهم عند قتله دارا [بْن دارا ملك فارس، إِلَى أن ظهر أردشير بْن بابك] [9] ملك فارس عَلَى ملوك الطوائف، وقهرهم ودان له الناس، وضبط [له] [10] الملك.
وإنما سموا ملوك الطوائف، لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلا من الأرض.
فتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إِلَى ريف العراق، وطمعوا فِي غلبة الأعاجم عَلَى ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، فانقسموا فخرج كل رئيس من العرب بمن معه على قوم.
ولم يزالوا كذلك لا يدينون للأعاجم ولا تدين لهم الأعاجم [1] إِلَى أن قدم الأنبار تبع- وهو/ أسعد أَبُو كرب بْن مليكرب [2]- فِي جيوشه، فخلف بها من لم يكن فيه قوة للقتال [3] ، وخرج للغزو.
ونزل كثير من تنوخ الأنبار والحيرة، وما بين الحيرة إِلَى طف الفرات وغربيه فِي الأبنية والمظال، لا يسكنون بيوت المدر [4] . وكانوا يسمون: عرب الضاحية، فكان أول من ملك منهم فِي زمان ملوك الطوائف مالك بْن فهم، وكان منزله فيما يلي الأنبار.
ثم مات [مالك] [5] ، فملك بعده أخوه عمرو بْن فهم، ثم هلك [6] فملك بعده جذيمة بْن الأبرش [بْن مالك] [7] بْن فهم بْن غنم [8] بْن دوس الأزدي، وكان من قبل أردشير بْن بابك [9] .
وكان من أفضل ملوك العرب رأيا، وأشدهم نكاية، وأبعدهم غورا [10] ، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وكان به برص، فكنت [11] العرب عنه إعظاما له. فقيل: جذيمة الوضاح، وجذيمة الأبرش، وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبار [وبقة] [12] وهيت [وناحيتها] [13] ، وعين التمر، وأطراف البر.
وكان لا ينادم أحدا كبرا، بل ينادم الفرقدين، فإذا شرب قدحا صب لها قدحا.
وكانت تجبى [1] إِلَيْهِ الأموال، وتفد عَلَيْهِ [2] الوفود، فخرج إِلَى غزو طسم وجديس، فأصاب حسان بْن تبع قد أغار عَلَى طسم وجديس، فانكفأ جذيمة راجعا بمن معه [3] .
وكانت فيهم الزرقاء، واسمها: اليمامة، وبها سمي بلدها: اليمامة، وهي [4] من بنات لقمان بْن عاد، وقيل: هي من جديس وطسم.
فلما قصدهم جيش حسان بْن تبع بقي بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام، فأبصرتهم وقد حمل كل رجل منهم شجرة يسير بها، فقالت: «تاللَّه [5] ، لقد دب الشجر- أو حمير قد أخذت شيئا تجر» . فلم يصدقوها، فقالت: «أقسم باللَّه لقد رأى رجلا منهم ينهش كتفا أو يخصف نعلا» ، فلم يستعدوا.
فصبحهم حسان فاجتاحهم، فأخذها فشق عينيها [6] ، وإذا فيها عروق من الأثمد [7] .
قَالَ مؤلف الكتاب [8] : وبنظر هَذِهِ المرأة يضرب المثل. / وكانت زرقاء اليمامة قد نظرت إِلَى سرب من حمام طائر [9] ، [فإذا فيه] [10] ست وستون حمامة، وعندها حمامه واحدة، فقالت:
ليت الحمام ليه ... إِلَى حمامتيه ونصفه قديه
ثم الحمام مية فَقَالَ النابغة يخاطب النعمان ويقول [1] :
واحكم كحكم فتاة الحي إذا نظرت ... إِلَى حمام سراع وارد الثمد
أراد [2] : كن حكما.
وكان جذيمة قد تنبأ وتكهن، واتخذ صنمين يقال: لهما: الضيزنان [3]- ومكانهما بالحيرة معروف- وكان يستسقي بهما ويستنصرهما عَلَى العدو.
وكانت إياد بعين أباغ، وأباغ رجل من العماليق نزل بتلك العين، فكان يغازيهم، فذكر لجذيمة غلام من لخم فِي أخواله من إياد، يقال له: عدي بْن نصر بْن ربيعة، له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعث [4] إياد قوما منهم فسقوا سدنة الصنمين [5] الخمر، وسرقوهما، فأصبحا فِي إياد، فبعث [6] إِلَى جذيمة: إن صنميك أصبحا فينا زهدا فيك ورغبة [7] فينا، فإن أوثقت [8] لنا ألا تغزونا رددناهما إليك.
فَقَالَ: وعدي بْن نصر تدفعونه إلي [مع الصنمين] [9] فدفعوه إليه مع الصنمين، فانصرف عنهم، وضم عديا إِلَى نفسه وولاه شرابه.
فأبصرته رقاش بنت مالك، أخت جذيمة، فعشقته [10] وراسلته وَقَالَت: يا عدي، اخطبني إِلَى الملك فإن لك حسبا وموضعا. فَقَالَ: لا أجترئ عَلَى كلامه فِي ذلك، ولا أطمع أن يزوجنيك. قالت: فإذا جلس عَلَى شرابه وحضر ندماؤه فاسقه صرفا، واسق القوم مزاجا، فإذا أخذت الخمر منه [11] فاخطبني إليه، فإنه لن يردك ولن يمتنع منك، فإذا زوّجك [12] فأشهد القوم.

ففعل [الفتى] [1] ما أمرته، فلما [2] أخذت الخمر مأخذها، خطبها إليه فأملكه إياها، فأعرس [3] بها من ليلته، وأصبح مضرجا بالخلوق. فَقَالَ له جذيمة: ما هَذِهِ/ الآثار يا عدي؟ قَالَ: آثار العرس، قَالَ: أي عرس؟ قَالَ: عرس رقاش! قَالَ: من زوجكها [4] ؟ قَالَ: الملك.
فضرب جذيمة بيده عَلَى جبهته وأكب عَلَى الأرض ندامة وتلهفا، وخرج عدي عَلَى وجهه هاربا فلم ير له أثر، ولم يسمع له بذكر، وأرسل إليها جذيمة فَقَالَ:
حدثيني وأنت لا تكذبيني ... أبحر زنيت أم بهجين!
أم بعَبْد فأنت أهل [5] لعَبْد ... أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت: لا [6] ، بل أنت زوجتني أمرأ عربيا، معروفا حسيبا، ولم تستأمرني فِي نفسي، ولم أكن مالكة لأمري. فكف عنها وعرف [7] عذرها.
ورجع عدي بْن نصر إِلَى [8] أياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية [9] متصيّدين، فرمى به فتى منهم بين جبلين فمات.
واشتملت [10] رقاش عَلَى حمل، فولدت غلاما سمته عمرو، حَتَّى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته، وأزارته خاله جذيمة، فلما رآه أعجب به وأحبه. وكان مع ولده، فخرج جذيمة متبديا بأهله وولده فِي سنة ذات خصب، فضرب لهم أبنية في روضة ذات زهرة وغدر [1] ، وخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة [2] ، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها فِي حجزته [3] ، فانصرفوا إِلَى جذيمة يتعادون وعمرو يقول [4] :
هَذَا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إِلَى فيه
فضمه إليه جذيمة والتزمه وسر بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق من فضة. فكان أول عربي ألبس طوقا، فكان يسمى عمرو ذا [الطوق] [5] . فبينما هو عَلَى أحسن حاله استطاره الجن [فاستهوته] [6] ، فضرب جذيمة فِي الآفاق فلم يقدر عَلَيْهِ.
وأقبل رجلان أخوان من بلقين [بهدايا يريدان جذيمة] [7] يقال لهما: مالك وعقيل [8] فنزلا ببعض الطريق منزلا ومعهما قينة [9] لهما يقال لها: أم عمرو، فقدمت إليهما طعاما، / فبينما هما يأكلان أقبل فتى عريان شاحب، قد تلبد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله، فجاء حَتَّى جلس حجرة [10] منهما، فمد يده إليهما يريد الطعام، فناولته القينة كراعا [11] [فأكلها] [12] ثم مد يده إليها، فقالت: «تعطي العَبْد كراعا فيطمع فِي الذراع» . فذهبت مثلا ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها فأوكت زقها [13] ، فَقَالَ عمرو بْن عدي:

صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
[1] ! فَقَالَ مالك وعقيل: من أنت يا فتى؟ فَقَالَ: أنا عمرو بْن عدي.
فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه، وقلما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب، وَقَالَا: ما كنا لنهدي لجذيمة هدية هي أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، وقد رده اللَّه عَلَيْهِ بنا.
فخرجا به إِلَى جذيمة بالحيرة، فسر بذلك سرورا شديدا، وأرسل به إلى أمه، فمكث عندها أياما ثم أعادته إليه، فَقَالَ: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب عَنْ عيني ولا قلبي إِلَى الساعة. فأعادوا عَلَيْهِ الطوق، فلما نظر إليه قَالَ: «شب [2] عمرو عَنِ الطوق» ، فأرسلها مثلا، وَقَالَ لمالك وعقيل: حكمكما، فقالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت، فهما ندمانا جذيمة [3] اللذان ذكرا فِي أشعار العرب.
وَفِي ذلك يقول أَبُو خراش الهذلي الشاعر [4] :
لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي ... وإن ثوائي عندها لقليل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... نديما صفاء مالك وعقيل
[5] وَقَالَ متمم بْن نويرة [6] :
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَة ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة [7] ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب- وقيل [1] : ظريف- بْن حسان بْن أذينة بْن السميدع بْن هوبر العليقمي [2] .
فجمع جذيمة جموعه من العرب، فسار إليه يريد غزاته فالتقوا فاقتتلوا [3] قتالا شديدا، فقتل عمرو بْن ظرب وفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين.
فملكت من بعد عمرو ابنته الزباء، واسمها: نائلة، وكان جنود الزباء بقايا من العماليق، والعارية الأولى من قبائل قضاعة، وكان للزباء أخت يقال لها: زبيبة، فبنت لها قصرا حسنًا [4] عَلَى شاطئ الفرات الغربي، وكانت تشتو [5] عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إِلَى تدمر.
فلما أن استجمع لها أمرها واستحكم لها ملكها، أجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطالب بثأر أبيها، فقالت لها أختها زبيبة- وكانت عَلَى الشام والجزيرة من قبل الروم، وكانت ذات رأي ودهاء: يا زباء، إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم [6] له ما بعده، إن ظفرت أصبت ثأرك، وإن قتلت ذهب ملكك، والحرب [7] سجال [8] ، وعثراتها لا تقال [9] ، وإن كعبك لم يزل ساميا عَلَى من ناوأك وساماك، ولم تري [10] بؤسا ولا غيرا [11] ، ولا تدرين لمن تكون العاقبة، [ولا] [12] على من تكون [13] الدائرة! فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحة، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت.


فانصرفت عما كانت أجمعت عَلَيْهِ من غزو جذيمة، وأتت أمرها من وجه [1] الخداع والمكر. فكتبت إِلَى جذيمة تدعوه إِلَى نفسها وملكها، وأن يصل بلاده ببلادها، وكان فيما كتبت إليه: أنها لم تجد ملك النساء إلا قبح فِي [2] السماع، وضعف السلطان، وقلة ضبط المملكة، وإنها لم تجد لملكها موضعا [3] ولا لنفسها كفئا غيره، فاجمع ملكي إِلَى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك.
فلما انتهى كتاب الزباء/ إِلَى جذيمة استخفه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع إليه أهل [الحجي] [4] والنهى، من ثقات أصحابه، وهو بالبقة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء، واستشارهم، فأجمع رأيهم عَلَى أن يسير إليها، ويستولي عَلَى ملكها، وكان فيهم رجل يقال له: قصير بْن سعد بْن عمرو، وكان سعد قد تزوج أمة لجذيمة، فولدت له قصيرا، وكان حازما مقدما عند جذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وَقَالَ: «رأي فاتر، وعدو [5] حاضر» . فذهبت مثلًا [6] .
وَقَالَ لجذيمة: اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك ولم تقع فِي حبالها، وقد قتلت أباها. فلم يوافق جذيمة ما أشار به عَلَيْهِ [7] قصير، وَقَالَ له: «إنك امرؤ رأيك فِي الكن لا فِي الضح» . فذهبت مثلا.
ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بْن عدي فاستشاره، فشجعه على السير. فاستخلف عمرو، وسار في وجوه أصحابه، فلما نزل رحبة طوق [8] دعا قصيرا، فَقَالَ: ويحك ما الرأي؟ قَالَ له: «ببقة تركت الرأي» ، فذهبت مثلا.
واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فَقَالَ: [يا قصير] [1] ، كيف ترى؟ قَالَ:
«خطر يسير فِي خطب كبير» . فذهبت مثلا.
وَقَالَ له قصير: ستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أحاطت بك فالقوم غادرون، فاركب العصا- وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى- فإني راكبها ومسايرك [عليها] [2] .
فلقيته [3] الخيول فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير موليا، فَقَالَ: «ويل أمه حزما عَلَى ظهر العصا!» فذهبت مثلا.
فجرت به إِلَى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضا بعيدة، فبنى عليها برجا يقال له: برج العصا.
ودخل جذيمة عَلَى الزباء فقتلته [4] ، ورجع قصير إِلَى عمرو بْن عدي، فَقَالَ: تهيأ ولا تطل دم خالك. قَالَ: «وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو» . فذهبت مثلا.
/ وكانت الزباء سألت كاهنة لها عَنْ ملكها وأمرها، فقالت: أرى [5] هلاكك بسبب غلام مهين، وهو عَمْرو بْن عدي، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله يكون ذلك.
فحذرت من عمرو، وأخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إِلَى حصن لها داخل مدينتها، وَقَالَت: إن فجأني أمر دخلت النفق إِلَى حصني. ودعت رجلا مصورا، فجهزته وَقَالَت [له] [6] : سر حَتَّى تقدم عَلَى عمرو بْن عدي متنكرا، فتخلو بحشمه وتخالطهم، ثم أثبت عمرو بْن عدي معرفة فصوره جالسا وقائما، وراكبا ومتفضلا [7] ، ومتسلحا بهيئته وثيابه، فإذا أحكمت ذلك فأقبل إليّ.
فانطلق وصنع ما أمرته به، وأرادت أن تعرف عمرو بْن عدي فلا تراه عَلَى حال إلا عرفته وحذرته وعلمت علمه. فَقَالَ قصير لعمرو بْن عدي: أجدع أنفي واضرب ظهري، ودعني وإياها فَقَالَ عَمْرو: ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق [1] مني. فَقَالَ قصير:
«خل عني إذا وخلاك ذم» . فذهبت مثلًا.
وَقَالَ ابن الكلبي: كان أبوها اتخذ لها [2] النفق ولأختها، وكان الحصن لأختها فِي داخل مدينتها، قَالَ: فَقَالَ له عمرو: فأنت أبصر، فجدع أنفه وضرب ظهره فقالت العرب: «لمكر ما جدع قصير أنفه» .
وَفِي ذلك يقول الملتمس:
ومن حذر الأوتار ما جز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
[3] ثم خرج قصير كأنه هارب، وأظهر أن عمرا فعل به ذلك، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة، وغره من الزباء. فسار قصير حَتَّى قدم عليها، فتسبب فِي قتلها [4] .
وَقَالَ مؤلف الكتاب: وقد رويت لنا هَذِهِ القصة عَلَى خلاف هَذَا، وأن جذيمة طرد الزباء ثم طلب أن يتزوجها، ونحن نوردها لتعلم قدر الاختلاف.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الملك بْن خيرون أَنْبَأَنَا أحمد بْن علي بْن ثابت [الخطيب] قَالَ: أَخْبَرَنَا عَليّ بْن الحسين بْن موسى العلوي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد: سهل بْن أحمد الديباجي، قَالَ: أَخْبَرَنَا قاسم بْن جعفر السراج، قَالَ: أَخْبَرَنَا يعقوب بْن الناقد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عمرو بْن الفرج، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، عَنْ يونس بْن حبيب النحوي.
قَالَ الديباجي: وَحَدَّثَنَا القاضي أَبُو مُحَمَّد: عَبْد الله بن أحمد الربعي، قال:

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْن عبيد بْن ناصح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن مُحَمَّد الكلبي، عَنْ أبيه [1] ، قَالَ:
كان جذيمة بْن مالك ملكا عَلَى الحيرة وعلى ما حولها من السواد- ملك ستين سنة- وكان به وضح، وكان شديد السلطان، قد خافته العرب، وتهيبه العدو، فتهيبت العرب أن يقولوا الأبرص، فقالوا: الأبرش. فغزا مليح بْن البراء، وكان ملكا عَلَى الحضر [2] ، وهو الحاجز بين الروم والفرس.
وهو الذي ذكره عدي بْن زيد فِي قوله:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابور
[3] فقتله جذيمة، وطرد الزباء إِلَى الشام، فلحقت بالروم، وكانت عربية اللسان، حسنة البيان، شديدة السلطان، كبيرة الهمة.
قَالَ ابن الكلبي: ولم تكن فِي نساء عصرها أجمل منها، وكان اسمها: فارعه، وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جللها، فسميت الزباء.
قَالَ ابن الكلبي: فبعث عِيسَى ابن مريم بعد قتل أبيها، فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال، وبذلت الأموال، وعادت إِلَى ديار أبيها ومملكته، فأزالت جذيمة الأبرش [4] عنها، وابتنت عَلَى عراقي الفرات مدينتين متقابلتين من شرقي الفرات وغربيه، وجعلت بينهما نفقا تحت الفرات، فكان إذا رهقها عدو أوت إليه وتحصنت به، وكانت قد اعتزلت الرجال، فهي عذراء بتول، وكان بينها وبين جذيمة مهادنة، فحدث جذيمة/ نفسه بخطبتها، فجمع خاصته فشاورهم فِي ذَلِكَ، وكان له ابن عم يقال له:
قصير بْن سعد، وكان عاقلا لبيبا، وكان خازنه وصاحب أمره وعميد دولته، فسكت القوم وتكلم قصير فَقَالَ: أبيت اللعن أيها الملك، إن الزباء امرأة قد حرمت الرجال، فهي عذراء بتول، لا ترغب فِي مال ولا جمال ولها عندك ثأر، والدم لا ينام، وإنما تاركتك وهنة وحذارا من بطشك، والحقد دفين فِي سويداء القلب، له كمون ككمون النّار في الحجر، إن أقدحته أورى، وإن تركته توارى، وللملك فِي بنات الأكفاء متسع، ولهن فيه مقنع، وقد رفع الله قدرك عَنِ الطمع فِي من دونك وعظم شأنك، فما أحد فوقك.
فَقَالَ جذيمة: يا قصير، الرأي ما رأيته، والحزم فيما قلته، و [لكن] [1] النفس تواقة، وإلى ما تحب وتهوى مشتاقة، ولكل امرئ قدر لا مفر منه ولا وزر.
فوجه إليها خاطبا، وَقَالَ: ائت الزباء فاذكر لها ما يرغبها فيه وتصبو إليه. فجاءها خطيبه، فلما سمعت كلامه وعرفت مراده، قالت له: أنعم بك عينا وبما جئت به وله [2] .
وأظهرت لَهُ السرور به، والرغبة فيه، وأكرمت مقدمه ورفعت موضعه، وَقَالَت: [قد كنت] [3] أضربت عَنْ هَذَا الأمر خوفا أن لا أجد كفؤا، والملك فوق قدري، وأنا دون قدره، وقد أجبت إِلَى ما سأل، ورغبت فيما قَالَ، ولولا أن السعي فِي مثل هَذَا الأمر بالرجال أجمل لسرت إليه، ونزلت عَلَيْهِ [4] . وأهدت له هدية سنية، فساقت العبيد، والإماء، والكراع، والسلاح، والأموال، والإبل، والغنم، وحملت من الثياب والعين والورق.
فلما رجع إليه [5] خطيبه أعجبه ما سمع من الجواب، وأبهجه ما رأى من اللطف، فظن أن ذلك بحصول رغبة، فأعجبته نفسه، وسار من فوره فِي من يثق به من خاصته وأهل مملكته، وفيهم قصير خازنه.
واستخلف عَلَى ملكه [6] ابن أخته عمرو بْن عدي اللخمي/، وهو أول ملوك الحيرة [من لخم] [7] ، وكان ملكه عشرين ومائة سنة، وهو الذي اختطفته الجن وهو صبي وردته وقد شب وكبر، فقالت أمه: ألبسوه الطوق، فَقَالَ خاله جذيمة: «شب عمرو عَنِ الطوق» . فذهبت مثلا.
وسار إِلَى الزباء، فلما صار معه نزل فتصيد وأكل وشرب، واستغنى بالمشورة [1] والرأي من أصحابه، فسكت القوم وافتتح الكلام قصير بْن سعد، فَقَالَ: أيها الملك، كل عزم لا يؤيد بحزم فإلى آخر ما يكون كون فلا يثق به خرف قول لا محصول له، ولا يعقد [2] الرأي بالهوى فيفسد، ولا الحزم بالمنى فينفذ، والرأي عندي للملك أن يعقب [3] أمره بالتثبت، ويأخذ حذره بالتيقظ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدور لعزمت عَلَى الملك عزما بتا أن لا يفعل.
فأقبل جذيمة عَلَى الجماعة فَقَالَ: ما عندكم أنتم فِي هَذَا الأمر؟ فتكلموا بحسب ما عرفوا من رغبة الملك فِي ذلك وصوبوا رأيه، وقووا عزمه، فَقَالَ جذيمة: الرأي مع الجماعة، والصواب ما رأيتم، فَقَالَ قصير: «أرى القدر سابق بالحذر [4] فلا يطاع لقصير أمر» . فأرسلها مثلا.
وسار جذيمة فلما قرب من ديار الزباء نزل فأرسل إليها يعلمها بمجيئه، فرحبت به، وأظهرت السرور [5] والرغبة به، وأمرت أن تحمل إليه الأموال [6] والعلو، فأتت وَقَالَت لجندها، وخاصة أهل مملكتها وعامة أهل دولتها: تلقوا سيدكم وملك دولتكم.
وعاد الرسول إليه بالجواب بما رأى وسمع، فلما أراد جذيمة أن يسير، دعا قصيرا، فَقَالَ: أنت عَلَى رأيك؟ قَالَ: نعم وقد زادت [بصيرتي فيه، أفأنت عَلَى عزمك؟
قَالَ: نعم وقد زادت] [7] رغبتي فِيهِ. فَقَالَ قصير: ليس للأمور بصاحب من لم ينظر فِي العواقب، وقد يستدرك الأمر قبل فوته، وَفِي يد الملك بقية هو بها متسلط على استدراك الصواب، فإن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان، وعزة ومكان، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك، وفارقت عشيرتك ومكانك، وألقيتها فِي يدي/ من لست آمن عليك مكره وغدره، فإن كنت ولا بد فاعلا، ولهواك تابعا، فإن القوم أن يلقوك غدا فرقا وساروا أمامك، وجاء قوم وذهب قوم فالأمر بعد فِي يدك، والرأي فيه إليك، فإن تلقوك زردقا واحدا، وقاموا لك صفين حَتَّى إذا توسطتهم انقضوا عليك من كل جانب فأحدقوا بك فقد ملكوك وصرت فِي قبضتهم، وهذه العصا [1] لا تسبق غبارها- وكانت لجذيمة فرس تسبق الطير، وتجاري الرياح يقال لها: عصا- فإذا كان كذلك فتجلل ظهرها، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها، فسمع جذيمة كلامه، ولم يرد جوابا، وسار.
وكانت الزباء لما رجع رسول جذيمة من عندها قالت لجندها: إذا أقبل جذيمة [غدا] [2] فتلقوه بأجمعكم وقوموا له صفين من عَنْ يمينه ومن [3] عَنْ شماله، فإذا توسط جمعكم فتفوضوا عَلَيْهِ من كل جانب حَتَّى تحدقوا به، وإياكم أن يفوتكم.
وسار جذيمة وقصير عَنْ يمينه، فلما لقيه القوم زردقا [4] واحدا قاموا له صفين، فلما توسطهم انقضوا عَلَيْهِ من كل جانب انقضاض الأجدل [5] عَلَى فريسته [6] ، فأحدقوا به [7] ، وعلم أنهم قد ملكوه، وكان قصير يسايره، فأقبل عَلَيْهِ، وَقَالَ: صدقت يا قصير.
فَقَالَ قصير: أيها الملك، «أبطأت بالجواب حَتَّى فات الصواب» . فأرسلت [8] مثلا.
فَقَالَ: كيف الرأي الآن؟ فَقَالَ: هَذِهِ العصا فدونكها، لعلها تنجو بك [9]- أو قَالَ: تنجو بها وهو الأصح [1]- فأنف جذيمة من ذلك، وسارت به الجيوش، فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأسر وأيقن بالقتل جمع نفسه، فصار عَلَى ظهر العصا وأعطاها عنانها وزجرها، فذهبت به تهوي هوي الريح [2] ، فنظر إليه جذيمة وهي تتطاول به.
وأشرفت الزباء من قصرها، فقالت: ما أحسنك من عروس/ تجلي علي وتزف إلي. حَتَّى دخلوا [به] [3] عَلَى الزباء ولم يكن معها فِي قصرها إلا جوار أبكار أتراب، وكانت جالسة عَلَى سريرها وحولها ألف وصيفة، كل واحدة لا تشبه صاحبتها فِي خلق ولا زي، وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم تزهر، وأمرت بالأنطاع [4] فبسطت، وَقَالَت لوصيفاتها: خذوا بيد سيدكن وبعل مولاتكن. فأخذن بيده، فأجلسنه عَلَى الأنطاع بحيث تراه ويراها، [وتسمع كلامه ويسمع كلامها] [5] ، ثم أمرت الجواري فقطعن دواهيه، ووضعت الطشت تحت يده، فجعلت دماؤه تشخب فِي الطشت، فقطرت قطرة فِي النطع، فقالت لجواريها: لا تضيعوا دم الملك، فَقَالَ جذيمة: لا يحزنك دم أراقه أهله.
فلما مات قالت: والله ما وفى دمك ولا شفى قتلك، ولكنه غيض [6] من فيض. ثم أمرت به فدفن.
وكان جذيمة قد استخلف عَلَى مملكته ابن أخته: عمرو بْن عدي، وكان يخرج كل يوم إِلَى ظهر الحيرة يطلب الخبر، ويقتفي الأثر من خاله، فخرج ذات يوم ينظر إِلَى فارس [قد أقبل] [7] تهوي بِهِ فرسه هوي الريح، فَقَالَ: أما الفرس ففرس جذيمة، وأما الراكب فكالبهيمة لأمر ما جاءت العصا، فأشرف عليهم قصير، فقالوا: ما وراءك؟ قَالَ:
سعى القدر بالملك إِلَى حتفه رغم أنفي [8] وأنفه فاطلب بثأرك من الزّباء، فقال عمرو:
وأي [1] ثأر يطلب من الزباء وهي أمنع من عقاب الجو، فَقَالَ قصير: قد علمت نصحي [كيف] [2] كان لخالك، وكان الأجل رائده، وإني والله لا أنام عَنِ الطلب بدمه ما لاح نجم وطلعت شمس، أو أدرك به ثأرا أو تحرم نفسي فاعذر.
ثم أنه عمد إِلَى أنفه فجدعه، ثم لحق بالزباء هاربا من عمرو بْن عدي، فقيل لها: هَذَا قصير ابن عم جذيمة وخازنه وصاحب أمره قد جاءك، فأذنت له، فقالت: ما الذي جاء بك يا قصير وبيننا وبينك دم عظيم الخطر، فَقَالَ: يا ابنة/ الملوك العظام، لقد أتيت فيما يأتي [3] مثلك فِي مثله، لقد كان دم الملك يطلبه حَتَّى أدركه، وقد جئتك مستجيرا بك من عمرو بْن عدي، فإنه اتهمني بخاله وبمشورتي عَلَيْهِ فِي المسير [إليك] [4] ، فجدع أنفي، وأخذ مالي، وحال بيني وبين عيالي، وتهددني بالقتل، وإني خشيت عَلَى نفسي فهربت منه إليك، وأنا مستجير بك، ومستند إِلَى كهف عزك.
فقالت: أهلا وسهلا، لك حق الجوار ودية المستجير. وأمرت به فأنزل [وأجريت له الأنزال] [5] ووصلته وكسته، وأخدمته وزادت فِي إكرامه، فأقام مدة لا يكلمها ولا تكلمه، وهو يطلب الحيلة عليها، وموضع الفرصة منها، وكانت متمنعة بقصر مشيد عَلَى باب النفق تعتصم به فلا يقدر أحد عليها [6] .
فَقَالَ لها قصير [يوما] [7] إن لي بالعراق مالا كثيرا وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك، فإن أذنت لي بالخروج [8] إِلَى العراق، وأعطيتني شيئا أتعلل به فِي التجارة، وأجعله سببا إِلَى الوصول إِلَى مالي أتيتك بما قدرت عليه من ذلك.
فأعطته مالا بعد ما أذنت له [9] ، فقدم العراق وبلاد كسرى، فأطرفها وألطفها وسرها، وبنت له عندها منزلا، وعاد إِلَى العراق ثانية، فقدم بأكثر من ذلك طرفا من الجواهر [1] ، والبز، والخز، والقز، والديباج، فازداد مكانه عندها [2] ، وازدادت منزلته عندها، ورغبتها فيه، ولم يزل قصير يتلطف حَتَّى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات، والطريق إليه.
ثم خرج ثالثة فقدم بأكثر من الأوليين طرائف ولطائف، فبلغ مكانه [منها] [3] وموضعه عندها إلى أن كانت تستعين به فِي مهمها وملمها، فاسترسلت إليه وعولت عَلَيْهِ فِي أمورها كلها [4] . وكَانَ قصير رجل حسن العقل والوجه، حصيفا أديبا لبيبا، فقالت له يوما: أريد أن أغزو البلد الفلاني من أرض الشام، فاخرج إِلَى العراق فأتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب/ فَقَالَ قصير: ولي فِي بلاد عمرو بْن عدي ألف بعير وخزانة من السلاح فيها كذا وكذا، وما يعلم عمرو بْن عدي [5] بها، ولو علم لأخذها واستعان بها عَلَى حربك، وكنت أتربص به المنون وأنا أخرج متنكرا من حيث لا يعلم فآتيك بها مع الذي سألت.
فأعطته من المال ما أراد، وَقَالَت: يا قصير، الملك يحسن بمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره، ولقد بلغني أن أمر جذيمة كان إيراده وإصداره إليك، وما تقصر يدك عَنْ شَيْء تناله يدي، ولا يقعد بك حال تنهض بي.
فسمع كلامها رجل من خاصة قومها، فَقَالَ: أسد خادر وليث زائر، قد تحفز للوثبة. ولما رأى قصير مكانه منها وتمكنه من قلبها، قَالَ: الآن طاب المصاع. وخرج من عندها، فأتى عمرو بْن عدي وَقَالَ: أصبت الفرصة من الزباء فانهض فعجل الوثبة، فَقَالَ له عمرو: قل يسمع [6] ، ومر أفعل، فأنت طبيب هَذِهِ القرحة، فَقَالَ: الرجال والأموال. فَقَالَ: حكمك فيما عندنا مسلط. فعمد إِلَى ألفي رجل من فتاك قومه وصناديد [1] أهل مملكته، فحملهم عَلَى ألف بعير فِي الغرائر السود، وألبسهم السلاح والسيوف والحجف [2] ، وأنزلهم فِي الغرائر، وجعل [رءوس] [3] المسوح من أسافلها مربوطة من داخل، وكان عمرو فيهم. وساق الخيل والعبيد والكراع والسلاح والإبل [4] محملة.
فجاءها البشير فَقَالَ [5] : قد جاء قصير. ولما قرب من المدينة حمل الرجال فِي الغرائر متسلحين السيوف والحجف، وَقَالَ: إذا توسطت الإبل المدينة والأمارة بيننا كذا وكذا فاخرطوا الربط. فلما قربت العير من مدينة الزباء فِي قصرها فرأت الإبل تتهادى بأحمالها فارتابت منها [6] ، وقد كان وشي بقصير إليها، وحذرت منه، فقالت للواشي [به إليها] [7] إن قصير اليوم منا، وهو ربيب هَذِهِ النعمة، وصنيعة هَذِهِ الدولة، وإنما يبعثكم [عَلَى] [8] ذلك الحسد، وأن ليس فيكم مثله، فهالها [9] ما رأت من كثرة الإبل/ وعظم [10] أحمالها فِي نفسها [مع ما عندها] [11] من قول الواشي به إليها:
أرى الجمال سيرها وئيدا [12] ... أجندلا يحملن أم حديدا أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال فِي المسوح سودا
[1] ثم أقبلت عَلَى جواريها وَقَالَت: «أرى الموت الأحمر فِي الغرائر السود» - فذهبت مثلا- حتى [2] إذا توسطت الإبل المدينة وتكاملت، ألغز [3] إليهم الأمارة، فاخترطوا رءوس الغرائر، فوقع [4] إِلَى الأرض ألفا ذراع بألفي باتر ونادوا [5] : يا لثأر القتيل غدرا.
وخرجت الزباء تمضي [6] تريد النفق، فسبقها إليه قصير، فحال بينها وبينه، فلما رأت أن قد أحيط [بها] [7] وملكت التقمت خاتما فِي يدها تحت فصه سم ساعة، وَقَالَت:
«بيدي لا بيدك يا عمرو» [8] فأدركها عمرو وقصير، فضرباها بالسيف حَتَّى هلكت، وملكا مملكتها، واحتويا على مملكيها [9] ونعمتها، وخط قصير عَلَى جذيمة قبرا، وضرب عَلَيْهِ فسطاطا، وكتب عَلَى قبره يقول [10] :
ملك تمنع بالعساكر والقنا ... والمشرفية عزة ما توصف
فسعت منيته إِلَى أعدائه ... وهو المتوج والحسام المرهف
قَالَ علماء السير [11] : وصار الملك من بعد جذيمة لابن أخته عمرو بْن عدي، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة فِي كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر.
قالوا: عمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة، إِلَى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عديّ.
وعمرت الحيرة خمسمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة إِلَى أن وضعت الكوفة، ونزلها أهل الْإسْلَام، فلم يزل عمرو بْن عدي ملكا إِلَى أن مات وهو ابن مائة وعشرين سنة.
قيل: مائة وثماني عشرة سنة.
ومن ذلك فِي زمن أردشير، / ومن ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة.
وَفِي [زمن] [1] ملوك فارس ثلاث [2] وعشرون.
ومن ذلك فِي زمن أردشير بْن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر.
وَفِي زمن سابور بْن أردشير ثماني سنين وشهران.
وما زال عقب عمرو بْن عدي بعده لهم الملك متصلا عَلَى كل من بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم عَلَى ذلك واستكفائهم أمر من وليهم من العرب إِلَى أن قتل أبرواز بْن هرمز النعمان بْن المنذر، ونقل ما كانت ملوك فارس يجعلونه إليهم إِلَى غيرهم. والنعمان من أولاد نصر أيضا، لأنه النعمان بْن المنذر بْن ماء السماء بْن عمرو بْن عدي بْن نصر بن ربيعة.
قال أبو جعفر بن الطبري [3] : ما زال عَلَى ثغر العرب من قبل ملوك الفرس من آل ربيعة إِلَى أن ولى عمرو بْن هند، ثم ولي بعده [أخوه] [4] قابوس بْن المنذر، ثم ولي أربع سنين من ذلك في زمن أنوشروان ثمانية أشهر، وَفِي زمن هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر، ثم ولي بعده السهرب، ثم [ولي] [5] بعده المنذر أَبُو النعمان بْن المنذر أربع سنين، ثم بعده النعمان بْن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة من ذلك فِي زمن هرمز سبع سنين وثمانية أشهر، وَفِي زمن أبرويزا أربع عشرة سنة، وأربعة أشهر، ثم ولي إياس بْن قبيصة الطائي تسع [6] سنين، ولسنة [7] وثمانية أشهر من [8] ولايته بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استخلف ازادية الهمداني سبعة عشر سنة، ثم استخلف ولي المنذر بن النعمان بن المنذر ثمانية أشهر إِلَى أن قدم خالد بْن الوليد الحيرة، وكان آخر من بقي من آل نصر.
فجميع ملوك آل نصر عشرون [1] ملكا، ملكوا خمس مائة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر.













مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید