المنشورات

سبب نزول ملوك آل نصر الحيرة

وكان سبب نزولهم الحيرة رؤيا رآها نصر بْن ربيعة اللخمي [3] ، وكان ملكه بين التبابعة. فرأى رؤيا هالته، فبعث فِي مملكته فلم يدع كاهنا ولا منجما إلا جمعه إليه، ثم قَالَ لهم: / إني قد [4] رأيت رؤيا هالتني، فأخبروني بتأويلها، فقالوا: اقصصها علينا، فَقَالَ: إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها، قالوا: فإن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح، وشقّ، فإنه ليس أحد أعلم منهما. واسم سطيح: ربيع بْن ربيعة بْن مسعود بْن مازن. وشق بْن صعب بْن يشكر [5] بْن فهم.
فبعث إليهما، فقدم سطيح قبل شق، ولم يكن فِي زمانهما مثلهما من الكهان، فَقَالَ له: يا سطيح، إني قد رأيت رؤيا هالتني فإن أصبتها أصبت تأويلها. فَقَالَ: رأيت جمجمة [6] خرجت من ظلمة فوقعت بأرض ثهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة. فَقَالَ الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك من تأويلها؟ قَالَ: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
قَالَ له الملك: وأبيك يا سطيح، إن هَذَا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ فِي زماني أم بعده [1] ؟ قَالَ: لا [2] بل بعده بحين، الحين من ستين إِلَى سبعين. قَالَ: فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال [3] : لا بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يخرجون منها هاربين. قَالَ: ومن يلي ذلك؟ قال: إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحد منهم باليمن. قَالَ: أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟ قَالَ: لا بل ينقطع. قَالَ: ومن يقطعه؟ قَالَ: نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي قَالَ: وممن هَذَا النبي؟ قَالَ: رجل من ولد غالب بْن فهر بْن مالك بْن النضر، يكون الملك فِي قومه إِلَى آخر الدهر. قَالَ: وهل [للدهر] [4] يا سطيح من آخر؟ قَالَ: نعم، يوم يجمع فيه [5] الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قَالَ: أحق ما تخبرنا يا سطيح؟ فَقَالَ: نعم، والشفق والغسق والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
فلما فرغ قدم شق/ فدعاه فَقَالَ: يا شق إني قد رأيت رؤيا فأخبرني بها، قَالَ:
نعم، رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة [6] وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة، قَالَ: صدقت، فما عندك من تأويلها؟ قَالَ: أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن عَلَى كل طفلة البنان [7] ، وليملكن ما بين أبين إِلَى نجران.
فَقَالَ له الملك: وأبيك يا شق، إن هَذَا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ [قَالَ بعدكم] [8] بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شأن، ويذيقهم منه أشد الهوان قَالَ: ومن هَذَا العظيم الشأن؟ قَالَ: غلام من بيت ذي يزن. قال: فهل يدوم ملكه أم ينقطع؟ قَالَ: بل ينقطع برسول يأتي بالحق وبالعدل [1] ، يكون الملك فِي قومه إِلَى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل؟ قَالَ: يوم يجزى فيه الولاة، ويجمع الناس للميقات.
فوقع فِي نفسه أن [2] ما قالا كائن من [3] أمر الحبشة، فجهز بنيه وبني [4] أهل بيته إِلَى العراق، وكتب لهم إِلَى ملك من ملوك الفرس [5] يقال له: سابور، فأسكنهم الحيرة، وما زالت الحيرة يسكنها الملوك [6] .

فصل
[7] قَالَ مؤلف الكتاب [8] : وقد روينا عَنْ بعض ملوك الحيرة قصة مستطرفة يحسن ذكرها.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن علي الصيرفي، قَالَ: أخبرتنا فاطمة بنت عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الحيري، قالت: أخبرنا علي بن الحسن بن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن خالد الكاتب، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بْن عَبْد اللَّه بْن المغيرة الجوهري، قَالَ:
حَدَّثَنَا أحمد بن سعيد الدمشقي، قَالَ: حدثني الزبير بْن بكار، قَالَ: حدثني عمي مصعب بْن عَبْد اللَّه، عَنِ الهيثم بْن عدي، عن أبيه [9] ، قَالَ:
كان المنصور أمير المؤمنين ضم الشرقي من قطامي إِلَى المهدي حين وضعه بالري، فأمره أن يأخذه بالحفظ لأيام العرب ومكارم أخلاقها ودراسة أخبارها [1] وقراءة أشعارها، فَقَالَ له المهدي ذات ليلة: يا شرقي، مرح قلبي [الليلة] [2] بشَيْء يلهيه، قَالَ: نعم، أصلح اللَّه الأمير، ذكروا أنه كان فِي ملوك/ الحيرة ملك له نديمان قد نزلا من قلبه منزلة نفيسة، وكانا لا يفارقانه فِي لهوه وبأسه، ويقظته ومنامه [3] ، وكان لا يقطع أمرا دونهما، ولا يصدر إلا عَنْ رأيهما، فغبر بذلك دهرا طويلا.
فبينما هو ذات ليلة فِي شغله ولهوه، إذ غلب عَلَيْهِ الشراب فأثر فيه تأثيرا أزال عقله، فدعا بسيفه فانتضاه وشد عليهما فقتلهما، وغلبته عيناه فنام، فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بما كان منه، فأكب عَلَى الأرض عاضا عليها [4] تأسفا عليهما وجزعا لفراقهما، فامتنع من الطعام والشراب وتسلب عليهما ثم حلف ألا [5] يشرب شرابا يخرج عقله ما عاش، فواراهما وبنى عَلَى قبريهما الغرنين، وسن أن لا يمر بهما أحد من الملك فمن دونه إلا سجد لهما.
قَالَ: وكان إذا سن الملك سنة توارثوها وأحيوا ذكرها، وأوصى بها الآباء أعقابهم.
قَالَ: فغبر الناس بذلك دهرا طويلا لا يمر بقبرهما أحد [6] صغيرا ولا كبيرا إلا سجد لهما، فصار ذلك سنة لازمة، وأمرا كالشريعة والفريضة، وحكم فِي من أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد أن يحكم فِي خصلتين يجاب إليهما كائنا ما كانتا.
قَالَ: فمر يوما قصار [7] ومعه كارة ثيابه، وفيها مدقته، فَقَالَ الموكلون بالقبر للقصار: اسجد! فأبى أن يفعل، فقالوا: إنك مقتول إن لم تسجد، فأبى، فرفع إِلَى الملك وأخبر بقصته. فَقَالَ: ما منعك أن تسجد؟ فقال: قد سجدت، ولكن كذبوا عَلَى، قالوا الباطل. قَالَ الملك: فاحتكم فِي خصلتين فإنك مجاب إليهما وإني قاتلك، قَالَ: ولا بد من قتلي بقول هَؤُلاءِ؟ قَالَ: لا بد من ذلك، قَالَ: فإني أحكم أن أضرب رقبة الملك بمدقتي هَذِهِ، قَالَ له الملك: يا جاهل، لو حكمت بما يجدي عَلَى من تخلف كان أصلح لهم. قال: ما أحكم إلا بضربة لرقبة الملك. فَقَالَ الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم به هَذَا الجاهل، قالوا: نرى إن هَذِهِ سنة أنت سننتها، وأنت تعلم ما فِي نقض/ السنن من العار والبوار وعظيم الإثم، ومتى نقضت سنة نقضت أخرى ثم أخرى، ثم يكون ذلك لمن بعدك كما كان لك، فتبطل السنن. قَالَ: فاطلبوا لي القصار أن يحكم بما شاء ويعفيني من هَذِهِ، فإني أجيبه إِلَى ذلك ولو بلغ شطر ملكي.
فطلبوا إليه، قَالَ: ما أحكم إلا بضربة فِي رقبته، فلما رأى الملك ما عزم عَلَيْهِ القصار عقد [1] له مجلسا عاما، وأحضر القصار وأبدى مدقته فضرب بها عنق الملك ضربة أزاله [عن موضعه] [2] ، فخر الملك مغشيا عَلَيْهِ، فأقام ستة أشهر عليلا [3] ، وبلغت به العلة حدا كان يجرع فيها الماء بالقطن.
فلما أفاق وتكلم، وطعم وشرب سأل عَنِ القصار، فقيل له: إنه محبوس، فأمر بإحضاره، وَقَالَ: قد بقيت لك خصلة فاحكم فيها فإني قاتلك لا محالة. فَقَالَ القصار:
فإذا كان ولا بد فإني أحكم أن أضرب الجانب الآخر ضربة أخرى، فلما سمع الملك بذلك خر عَلَى وجهه من الجزع، وَقَالَ: ذهبت والله إذا نفسي. ثم قَالَ للقصار: ويلك دع عنك ما لا ينفعك، فإنه لن ينفعك [4] ما مضى فاحكم بغيره أنفذه لك كائنا ما كان، قَالَ: ما راحتي إلا فِي ضربة [5] أخرى. فَقَالَ الملك لرؤسائه ووزرائه: ما ترون؟ قالوا:
تموت عَلَى السنة، قَالَ: ويلكم والله إنه إن ضرب الجانب الآخر لم أشرب الماء البارد أبدا، لأني أعلم بما قد مر بي. قالوا: فما عندنا حيلة.

فلما رأى ذلك وما قد أشرف عَلَيْهِ، قَالَ للقصار: أخبرني، ألم أكن قد سمعتك يوم جاء بك الشرط أنك قد سجدت؟ قَالَ: نعم. فوثب من مجلسه وقبل رأسه، وَقَالَ:
أشهد أنك أصدق من أولئك، وأنهم كذبوا عليك. فانصرف راشدا، فحمل كارته ومضى.
فضحك المهدي حَتَّى فحص برجله، وَقَالَ: أحسنت والله، ووصله وبره





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید