المنشورات

الحوادث فِي سنة خمس عشرة من مولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي هَذِهِ السَّنَةِ: قامت سوق عكاظ، وهي سوق كانوا يبيعون فيها ويشترون.
وقد روي أن قس بْن ساعدة الأيادي كان يقف بسوق عكاظ ويعظ الناس، وكان خطيبا [بليغا] [7] وشاعرا حكيما. ويقال: إنه أول من علا عَلَى شرف وخطب عليه،وأول من قَالَ فِي كلامه «أما بعد» وأول من أتكأ عند خطبته عَلَى سيف أو عصا، ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعكاظ.
وقد روينا من حديثه [1] من طرق، ولكن ليس فيها ما يثبت [2] .
فمنها: ما روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لما قدم وفد أياد عَلَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما فعل قس بْن ساعدة؟» قالوا: مات. قَالَ: «كأني أنظر إليه بسوق عكاظ عَلَى جمل له أورق [3] ، وهو يتكلم بكلام له حلاوة، ما أجدني أحفظه» . فَقَالَ رجل من القوم: أنا أحفظه، سمعته يقول: أيها النَّاس، احفظوا وعوا [4] من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحار تزخر، ونجوم تزهر، وضوء وظلام، وبر وآثام، ومطعم وملبس، ومشرب ومركب، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، وإله قس ما عَلَى وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه، وأدرككم أوانه، فطوبى لمن أدركه وأتبعه، وويل لمن خالفه، ثم إنه أنشأ وجعل [5] يقول:
فِي الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ... ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي [6] ... الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر
[أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر] [7]
سكنوا البيوت فوطنوا ... إن البيوت هي المقابر
[8]
فَقَالَ النبي صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم: «يرحم اللَّه قسا، إني لأرجو أن يبعثه اللَّه يوم القيامة أمة وحده» .
فَقَالَ رجل: يا رسول اللَّه، لقد رأيت من قس عجبا قَالَ: «وما رأيت؟» قَالَ: بينا أنا بجبل يقال لَهُ سمعان فِي يوم شديد الحر، إذا أنا بقس تحت ظل شجرة عندها [1] عين ماء وحوله سباع، كلما زأر سبع منها عَلَى صاحبه ضربه بيده وَقَالَ: كف حَتَّى يشرب الذي ورد قبلك. ففرقت، فَقَالَ: لا تخف، وإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت له: ما هذان القبران؟ فَقَالَ: هذان قبرا أخوين كانا لي، فاتخذت بينهما مسجدا أعَبْد اللَّه فيه [2] حَتَّى ألحق بهما، ثم ذكر أيامهما ثم أنشأ يقول:
[خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما] [3]
جرى النوم بين الجلد والعظم منكما ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما [4]
ألم تريا أني بسمعان مفرد ... وما لي فيه من خليل سواكما
أقيم عَلَى قبريكما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
كأنكما والموت أقرب غاية ... بجسمي من قبريكما قد أتاكما
فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما
[سأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد عَلَى ذي عولة إن بكاكما]
[5] فَقَالَ النبي صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم: «رحم الله قسا» [6]
وقد روي [1] أن هَذِهِ الأبيات لعيسى بْن قدامة الأسدي، وأنه كان له نديمان فماتا، فكان يجلس عند القبرين وهما براوند فِي موضع يقال له: حراف، ونصب عَلَى القبرين حَتَّى يقضي وطره، ثُمَّ ينصرف وينشد هَذِهِ الأبيات، وفيها زيادة وهي:
خليلي هبا طال ما قد رقدتما ... أجدكما ما تقضيان كراكما
ألم تعلما ما لي براوند كلها ... ولا بخراق من صديق سواكما
أقيم علي قبريكما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
جرى النوم مجرى اللحم والعظم منكما ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما
فأي أخ يجفو أخا بعد موته ... فلست الذي من بعد موت جفاكما
أصب عَلَى قبريكما من مدامة ... فإلا تذوقا أرو منها ثراكما
لطول منام لا تجيبان داعيا ... خليلي ما هَذَا الذي قد دهاكما
قضيت بأني لا محالة هالك ... وأني سيعروني الذي قد عراكما
سأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد عَلَى ذي عول إن بكاكما





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید