المنشورات

من ولد بالحبشة للمسلمين

عَبْد اللَّه، وعوف، ومُحَمَّد: أولاد جعفر بْن أبي طالب. سَعِيد وأمه: ابنا خالد بْن سَعِيد بْن العاص. عَبْد اللَّه بْن المطلب، مُحَمَّد بْن أبي جعفر، مُحَمَّد بْن حاطب، زينب بنت أبي سلمة، موسى، وعائشة، وزينب: أولاد الحارث بْن خالد.
قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق: كان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سواء أبناؤهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها نيفا وثمانين رجلا [إن كان عمار منهم، وابن إِسْحَاق يشك فِي عمار. وذكر الواقدي] [5] أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا، ومن النساء إحدى عشرة قرشية، وسبع غرائب، فلما سمعوا بمهاجرة النبي صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم إِلَى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا، وثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة، وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا [6] .
فصل
قَالَ مؤلف الكتاب [1] : ولما خرج المسلمون إِلَى الحبشة ومنع اللَّه تعالى نبيه عَلَيْهِ السلام بعمه أبي طالب، ورأت قريش أن لا سبيل لهم عَلَيْهِ رموه بالسحر والكهانة والجنون، وَقَالُوا: شاعر، ثم بالغوا فِي أذاه.
فمما فعلوه:
ما روى عَبْد اللَّه بْن عمرو بْن العاص قَالَ: حضرت قريشا وقد اجتمع أشرافهم يوما فِي الحجر، فذكروا رسول اللَّه [صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم] فقالوا: ما رأينا مثل ما صرنا إليه من هَذَا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا وعاب آلهتنا- وقيل: ديننا [2]- وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه عَلَى أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ طلع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل يمشي حَتَّى استلم الركن، ثُمَّ مر طائفا بالبيت، فلما مر غمزوه ببعض القول، قَالَ فعرفت ذلك فِي وجه رسول الله [3] ، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه [بمثلها] [4] فعرفت ذلك فِي وجه رسول اللَّه [5] ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه/ بمثلها فوقف [6] فَقَالَ:
«ألا تسمعون يا معاشر قريش، أما والذي نفس مُحَمَّد بيده لقد جئتكم بالذبح» .
قَالَ: فأخذت القوم كلمته حَتَّى ما بينهم [7] رجل إلا كأنما عَلَى رأسه طائر واقع، وحتى أن أشدهم فيه وصاة [8] قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما كان يجد من القول حَتَّى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا، فو الله ما كنت جهولا.
فانصرف رسول الله حَتَّى إذا كان من الغد اجتمعوا [فِي الحجر] [9] وأنا معهم.
فَقَالَ بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم حَتَّى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول اللَّه صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تَقُولُ كذا وكذا؟ لما [كان] [1] يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : «نَعَمْ أنا الّذي أقول ذلك» فلقد رأيت رجلا منهم أخذ مجمع ردائه، وقام أَبُو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه. ثم انصرفوا [عنه] [2] . أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ قَالَ: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بْن جَعْفَرٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: أَخْبَرَنَا عبد الرزاق قال: حدّثنا معمر بن أبي خَيْثَمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ [3] عَبَّاسٍ:
أَنَّ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ فَتَعَاهَدُوا بِاللاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى: لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَقَالَتْ: هَؤُلاءِ الْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ [4] مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ قَدْ تَعَاهَدُوا أَنْ لَوْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ يَقْتُلُونَكَ، فَلَيْسَ مَعَهُمْ رَجُلٌ إِلا قَدْ عَرَفَ نصيبه من بدنك. فقال: «يا بنية أرني وُضُوءًا» فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هُوَ هَذَا، هُوَ هَذَا. فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ وَعَقَرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بها. وقال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجل مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا [5] . قَالَ أحمد: وَحَدَّثَنَا علي بْن عَبْد اللَّه- هو ابن المديني- قَالَ: أَخْبَرَنَا الوليد بْن مسلم قَالَ: حدَّثَنِي الأوزاعي قَالَ: حدثني يحيى بْن أبي كثير قَالَ: حدثني مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التيمي قَالَ: حدَّثَنِي عروة بْن الزبير قَالَ: قلت لعَبْد الله بْن عمرو بْن العاص:
أخبرني بأشد شَيْء صنعه المشركون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: بينا رسول اللَّه بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بْن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى به فِي عنقه، فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أَبُو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ من رَبِّكُمْ 40: 28 [1] .
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا وَهْبُ بْن جَرِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاق، عَنْ عَمْرِو بْن مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: مَا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَرَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ وَسَلا جَزُورٍ قَرِيبٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّلا فَيُلْقِيَهُ عَلَى ظَهْرِهِ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ: أنا. فَأَخَذَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَمْ يَزَلْ سَاجِدًا حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَتْهُ عن ظهره، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهمّ عَلَيْكَ بِالْمَلأِ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهمّ عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، اللَّهمّ عَلَيْكَ بِشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. اللَّهمّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، اللَّهمّ عَلَيْكَ بِعُقَبْةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، اللَّهمّ عَلَيْكَ بِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» - أَوْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ» .
فَقَالَ عَبْد اللَّه: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ جَمِيعًا، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ غَيْرُ أُبَيٍّ- أَوْ أُمَيَّةَ- فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلا ضَخْمًا فَتَقَطَّعَ. أخرجه البخاري ومسلم [2] . وانفرد بالذي قبله البخاري [رحمه اللَّه]
. فصل
قَالَ مؤلف الكتاب [3] : فلما كثرت أنواع الأذى التي لقيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ من المشركين استتر فِي دار الأرقم بْن أبي الأرقم وهي التي تسمى الآن دار الخيزران
. فصل
قَالَ مؤلف الكتاب [4] : فلما استقر قرار المهاجرين إلى الحبشة اجتهد المشركون فِي كيدهم، فبعثوا عمرو بْن العاص وعبد الله بْن أبي ربيعة إِلَى النجاشي بهدايا ليسلمهم إليهم.
أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن مالك قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ:
أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:
لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ [1] الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لا نُؤْذَى، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا له [2] هدايا مما يَسْتَطْرِفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ وَأَمَرُوهُمْ أَمْرَهُمْ وَكَانَ أَعْجَبَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْهَا الأَدَمُ [3] ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بَطْرِيقًا إِلا أَهْدَوْا إِلَيْهِ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وأمروهم أمرهم [4] ، وقالوا لهما:
ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ فَدَفَعَا إِلَى كُلِّ بَطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ وَقَالا لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بِلادِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ [5] لِيَرُدُّوهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ تَسْلِيمَهُمْ إِلَيْنَا وَلا نُكَلِّمُهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْبًا. فَقَالُوا: نَعَمْ. ثُمَّ قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَبِلَهَا مِنْهُمْ، ثُمَّ تَكَلَّمَا، فَقَالا لَهُ: إِنَّهُ [6] قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دِينَكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ، لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ/ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِنَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أعلى بهم وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَطَارِقَتُهُ: صَدَقُوا فَأَسْلِمْهِمْ إِلَيْهِمَا. فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ وَقَالَ: لا وَايْمُ اللَّهِ، إِذَنْ لا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا وَلا أُكَادُّ قوما جاورني وَنَزَلُوا بِلادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولانِ سَلَّمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمْ وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَدَعَاهُمْ] [1] فَلَمَّا أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ فَقَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا وَمَا أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا جاءوه وقد دعي النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلا فِي دِينٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ؟ قَالَتْ: وَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ لَهُ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، وَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى [2] إِلَيْنَا رسولا منا نعرف صدقه وأمانته وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاءُنَا [3] مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ: الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا: أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ لا نُشْرِكَ بِهِ شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة وَالصِّيَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَنَا بِهِ [4] فَعَبَدْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إلى عبادة الأوثان، وأن يستحل مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بِلادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عندك أيها الملك. قالت: فَقَالَ [5] لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ: قَالَ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صدرا من كهيعص 19: 1 فَبَكَى النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى اخْضَلُّوا مَصَاحِفَهُمْ. ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، لَيَخْرُجُ مِنْ مشكاة واحدة، انطلقا فو الله لا أسلمكم إليهما أبدا. قالت: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُ غَدًا أَعِيبُهُمْ عِنْدَهُ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لا تفعل، فإن لهم أرحاما. قال: فو الله لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ، قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ، فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ.
قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ؟ قَالَتْ: وَلَمْ يَزَلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: «هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءَ الْبَتُولِ» قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. ثُمَّ قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي- وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ- مَنْ سَلِمَ عَزَمَ، مَنْ سَلِمَ [عَزَمَ، مَنْ سَلِمَ عَزَمَ، مَا أُحِبُّ أن أدير ذَهَبًا وَأَنِّي آذَيْتُ مِنْكُمْ رَجُلا. وَالدِّيرُ بِلِسَانِ الحبشة: الحبل] [1] ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فو الله مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ: / فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنَ، مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ [2] ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَخَيْرِ جَارٍ.
قَالَتْ: فو الله إِنَّا عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ بِهِ مَنْ يُنَازِعُهُ في ملكه.
قالت: فو الله مَا عَلِمْنَا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ عَلَى النَّجَاشِيِّ [فَلا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا ما كان يعرفه] [3] .
قَالَ: فَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ، فَقَالَ أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[هَلْ] [1] مِنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ؟.
قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ.
قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ، فَاسْتَوْثَقَ لَهُ أَمْرُ الْحَبَشَةِ. فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة [2]
. فصل
وَفِي هَذِهِ السنة توفيت:
2- سمية بنت خياط [3] : مولاة حذيفة بْن المغيرة، وهي أم عمار بْن ياسر، أسلمت بمكة قديما، وكانت ممن يعذب فِي اللَّه عز وجل لترجع عَنْ دينها فلم تفعل، فمر بها أَبُو جهل فطعنها فِي قلبها [4] فماتت وكانت عجوزا كبيرة، فهي أول شهيدة فِي الإسلام





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید