المنشورات

الحوادث فِي السنة الثامنة من النبوة

قَالَ مؤلف الكتاب [4] :
فيها نزل قول اللَّه تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ 30: 2- 3سَيَغْلِبُونَ 30: 3 [1] وكانت بين فارس والروم حروب قد أشرنا إليها فيما تقدم.
قَالَ يحيى بْن يعمر: بعث قيصر رجلا يدعى قطمه بجيش من الروم وبعث كسرى بشهربراز، فالتقيا بأذرعات وبصرى وهما أدنى الشام إليكم فلقيت فارس الروم، فغلبتهم فارس، ففرح بذَلِكَ كفار/ قريش وكرهه المسلمون. فأنزل اللَّه تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْضِ 30: 1- 3 الآيات.
وَقَالَ علماء السير: وقد فرح المشركون وشق عَلَى المسلمين لأن فارس لم يكن لهم كتاب، وكانوا يجحدون البعث، ويعَبْدون الأصنام، وكان الروم أصحاب كتاب، فَقَالَ المشركون لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس عَلَى إخوانكم من الروم، فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فنزلت هَذِهِ الآية، فخرج بها أَبُو بكر الصديق رضي اللَّه عنه إِلَى المشركين، فقالوا: هَذَا كلام صاحبك، فَقَالَ: اللَّه أنزل هَذِهِ! فقالوا لأبي بكر: نراهنك عَلَى أن الروم لا تغلب فارس، فَقَالَ أَبُو بكر: البضع ما بين الثلاث إِلَى التسع، فقالوا:
الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرهان- وذلك قبل أن يحرم الرهان- وكان الرهن عشر قلائص إِلَى عشر قلائص، فرجع أَبُو بكر إِلَى أصحابه فأخبرهم، فلاموه، وَقَالُوا: هلا أقررتها كما أقرها اللَّه لو شاء أن يقول ستا، فخرج أَبُو بكر: أزيدكم فِي الخطر وأزيدكم [2] فِي الأجل إِلَى تسع سنين. فقهرهم أَبُو بكر وأخذ رهانهم، فظهرت الروم عَلَى فارس بعد سبع سنين، ووافق التقاؤهم يوم بدر.
ومن الحوادث فِي هَذِهِ السنة [3] أنه لما أسلم حمزة وعمر رضي اللَّه عنهما، وحمى النجاشي من عنده من المسلمين، وحامي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أَبُو طَالِبٍ فشا الإسلام فِي القبائل، واجتهد المشركون فِي إخفاء ذلك النور، وَيَأْبَى الله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ 9: 32 [4] واجتمعت قريش واستمرت بينها أن يكتبوا كتابا يتعاهدون فيه عَلَى أن لا ينكحوا لبني هاشم وبني عَبْد المطلب ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتوافقوا عليها، وعلقوها فِي جوف الكعبة، توكيدا لذلك الأمر عَلَى أنفسهم، فلما فعلوا ذلك انحازت بنو هاشم وبنو عَبْد المطلب إِلَى أبي طالب، فدخلوا معه فِي شعبه، / وخرج من هاشم أَبُو لهب إِلَى قريش فظاهر المشركين، فأقاموا عَلَى ذلك ثلاث سنين.
وَرَوَى الواقدي عَنْ أشياخه أنهم حصروهم فِي أول سنة سبع من النبوة وقطعوا عنهم الميرة والمارة، فكانوا [1] لا يخرجون إلا من هو منهم، حَتَّى بلغهم الجهد، وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش من سره ذلك، ومنهم من ساءه، وكان خروجهم فِي السنة العاشرة، وكان هِشَام بْن عمرو بْن ربيعة أفضل [2] قريش لبني هاشم حين حصروا فِي الشعب، أدخل عليهم فِي ليلة [3] ثلاثة أحمال طعام، فعلمت بذلك قريش، فمشوا إليه، فكلموه فِي ذلك، فَقَالَ: إني عائد بشَيْء يخالفكم، ثم عاد الثانية، فأدخل حملا أو حملين ليلا فغالظته قريش وهموا به، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان بْن حرب، دعوه رجل وصل رحمه أما إني أحلف باللَّه لو فعلنا مثل ما فعل، كان أجمل [بنا] [4] ثم أن هشاما أسلم يوم الفتح.
تتمة السنة الثامنة من البعثة:
فصل
واختلف العلماء في سبب نقض [حكم] [1] الصحيفة على قولين:
أحدهما: أن الله تعالى أطلع نبيه [صلّى الله عليه وسلّم] [2] على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم، وبقي ما كان [فيها] [3] من ذكر الله تعالى، فذكر ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي طَالِب، فقال أبو طالب: أحق ما تخبرني به يا ابن أخي. قال: نعم والله. فذكر ذلك أبو طالب لإخوته وقال: والله ما كذبني قط. قالوا: فما ترى؟ قال: أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم، وتخرجوا إلى قريش، فتذكروا [ذلك] [4] لهم من قبل أن يبلغهم الخبر. فخرجوا حتى دخلوا المسجد، فَقَالَ أبو طالب: إنا قد جئنا لأمر فأجيبونا فيه [5] . قالوا: مرحبا بكم وأهلا. قال: إن ابن أخي قد أخبرني- ولم يكذبني قط- أن الله عز وجل قد سلّط على صحيفتكم الأرضة، فلحست كل ما فيها [6] من جور أو ظلم أو قطيعة رحم [1] ، وبقي فيها كل ما ذكر به الله [2] ، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه واستحييتموه إن شئتم. قالوا: قد أنصفت.
فأرسلوا إلى الصحيفة، فلما فتحوها إذا هي كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسقط في أيدي القوم، ثم نكسوا [على] [3] رءوسهم. فقال أبو طالب: هل تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة، فلم يراجعه أحد منهم، ثم انصرفوا.
رواه محمد بن سعد عن أشياخ له [4] .
والثاني: أن هشام بن عمرو بن الحارث العامري مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت، لا يباعون [5] ، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف باللَّه: لو كان أخوك أبو الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك منهم أبدا. قَالَ: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد/ والله لو كان معي آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلا. قال:
من هو؟ قال: أنا. قال: أبغنا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدي فقال: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت موافق لقريش في ذلك [6] ؟ قال:
ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال: من هو؟ قال:
أنا. قال: أبغنا ثالثا [7] . قال: قد وجدت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال:
أبغنا رابعا. فذهب إلى أبي البختري بن هشام. فقال له نحوا مما قال لمطعم بن عدي.
فقال: فهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير، والمطعم،وأنا معك، قال: أبغنا خامسا. فذهب إلى زمعة بن الأسود، فكلمه وذكر له قرابتهم.
فقال: وهل لك معين [1] ؟ قال: نعم. فسمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون [2] التي بأعلى مكة، واجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها. فقال زهير: أنا أبدؤكم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم [3] ، وكانت قريش قد تجاوزت الكعبة، فكان شق البيت لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود واليماني لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش ضموا إليهم، وكان ظهر البيت [4] لبني جمح وبني سهم، وكان شق الحجر- وهو الحطيم- لبني عبد الدار، ولبني أسد بن عبد العزى، وبني عدي بن كعب، فغدا زهير فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، إنا نأكل الطعام [5] ، ونشرب الشراب. ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون [6] ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل: كذبت، والله لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت [7] . فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به: فقال المطعم: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. / فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل وتشوور فيه بغير [هذا المكان] [8] فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها [9] ، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا ما كان من «باسمك اللَّهمّ» .
وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم [1] ، فشلت يده [2] .
هذا قول ابن إسحاق
. فصل
وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ضماد الأزدي.
أَخْبَرَنَا سَعْدُ الْخَيْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسُّي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ابن عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يُرْقِي مِنْ [هَذِهِ] [3] الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ [4] يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ، لَعَلَّ [اللَّهَ] [5] أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدِي [6] . قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدٌ، إِنَّي أَرْقِي مِنَ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ يَشَاءُ، فَهَلْ لَكَ [7] ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فلا مضل له [8] ، ومن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» .
قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ.
فَأَعَادَهُنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ قَامُوسَ الْبَحْرِ، هَاتِ يَدَكَ [1] أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلامِ. فَبَايَعَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [2] : «وَعَلَى قَوْمِكَ» ؟
قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي.
فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ الْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلاءِ شَيْئًا؟.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَصَبْتُ مَطْهَرَةً.
فَقَالَ: رَدُّوهَا، فَإِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ [3]







مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید