المنشورات

غزوة حنين، وحنين واد بينه وبين مكة ثلاث ليال وهي غزوة هوازن

وذلك أن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وسلم لما فتح مكة مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض وحشدوا [وبغوا] [1] . وجمع أمرهم مالك بن عوف النصري، فأمرهم فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأمهاتهم وحتى نزلوا بأوطاس، وجعلت الأمداد تأتيهم، وأخرجوا معهم دريد بن الصمة وهو أعمى ابن سبعين ومائة سنة يقاد وهو في شجار، وهو مركب من أعواد يهيأ للنساء، فقال: بأي واد هم؟ [2] قالوا: بأوطاس، قال: نعم، مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس- أي لين [3]- ما لي أسمع رغاء الإبل [4] ويعار الشاء [5] ، قيل له: ساق مالك بن عوف مع الناس الظعن والأموال، فقال: ما هذا يا مالك؟ قال: أردت أن أحفظ/ الناس- يعني أذمرهم من الحفيظة أن يقاتلوا عن أهاليهم وأموالهم فانقض به- أي صفق بيده- وقال: راعي الضأن ما له وللحرب، وقال: أنت محل بقومك وفاضح عورتك- أي قد أبحت شرفهم- لو تركت الظعن في بلادهم والنعم فِي مراتعها، ولقيت القوم بالرجال على متون الخيل، والرجال [بين أضعاف الخيل، ومقدمة ذرية، أما الخيل] [6] كان الرأي، والذرية مقدمة الخيل.
فأجمع القوم السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال في اثني عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من المسلمين من [أهل] [7] المدينة، وألفان من المسلمين من أهل مكة. فقال رجل [8] : لا نغلب اليوم من قلة. وخرج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناس من المشركين كثير، منهم: صفوان ابن أمية، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع بأداتها، فانتهى إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال، فبعث مالك بن عوف ثلاثة [نفر] [9] يأتونه بخبر أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجعوا [إليه] [1] وقد تفرقت أوصالهم من الرعب.
ووجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الله بن أبي حدرد، فدخل عسكرهم فطاف به وجاء بخبرهم، فلما كان من الليل عمد مالك إلى أصحابه فعبأهم [في وادي حنين] [2] فأوعز إليهم أن يحملوا على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حملة واحدة، وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في السحر وصفهم صفوفا ووضع الألوية والرايات في أصحابه، فمع المهاجرين لواء يحمله علي بن أبي طالب، وراية يحملها سعد بن أبي وقاص، [وراية يحملها عمر بن الخطاب] [3] ، ولواء الخزرج يحمله حباب بن المنذر، ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء التي تسمى الدلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن شيء لم يروا مثله قط من الكثرة، وذلك في غبش الصبح، وحملوا/ حملة واحدة، فانهزم الناس، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يا أنصار 132/ أالله وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله» . ورجع رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم إلى العسكر وثاب إليه من النهزم، وثبت معه يومئذ علي، والفضل والعباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد في ناس من أهل بيته وأصحابه. أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
حدثنا معمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إِلا أَنَا وأبو سفيان بن الحارث [بن عبد المطلب] ، فَلَزِمْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نُفَارِقْهُ وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ [4] ، -[وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَرٌ: بَيْضَاءَ] [5]- أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نعامة الجذامي [6] ، فلما الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ [1] قِبَلَ الْكُفَّارِ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُفُّهَا، وَهُوَ لا يَأْلُو مَا أَسْرَعَ [2] نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِغَرْزِ [3] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال [رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [4] : «يَا عَبَّاسُ، نَادِ يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» [5] . قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلا صَيِّتًا [6] ، فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أصحاب السمرة؟ قال: فو الله لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ الْبِكْرِ عَلَى أَوْلادِهَا [7] . فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ. يَا لَبَّيْكَ، وَوَافَاهُمُ [8] الْمُسْلِمُونَ فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، فَنَادَتِ الأَنْصَارُ [يَقُولُونَ] [9] : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ. ثُمَّ قَصَّرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ [10] ، فَنَادُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. قَالَ: فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ [رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [11] :
«هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» [12] . قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: «انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، [انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ] » [13] . قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى/، [قال] [14] : فو الله ما هو إلا أن رماهم رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلا [1] ، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ. قَالَ:
وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ [2] .
قَالَ أَحْمَدُ [3] : وَحَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَيَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ قَائِظٍ شَدِيدِ الحر، فنزلنا تحت ضلال شَجَرَةٍ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لأْمَتِي وَرَكِبْتُ فَرَسِي، فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ، فَقُلْتُ: السَّلامُ عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حَان الرَّوَاحُ، فَقَالَ: «أَجَلْ يَا بِلالُ» فَثَارَ مَنْ تَحْتِ سَمُرَةٍ كَأَنَّ ظِلَّهُ ظِلُّ طَائِرٍ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَأَنَا فِدَاؤُكَ، فَقَالَ: «أَسْرِجْ لِي فَرَسِي» ، فَأْخَرَجَ سِرْجًا دَفَّتَاهُ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلا بَطَرٌ، قَالَ: فَأَسْرَجَ فَرَكِبَ وَرَكِبْنَا، فَصَادَفْنَاهُم عَشَّيَتَنَا وَلَيْلَتَنَا، فَتَشَامَتِ الَخْيَلانِ فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» [قَالَ] [4] : ثُمَّ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسِهِ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ ضَرَبَ بِهِ وُجَوهَهُمْ، وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الحديد.
قَالَ أَحْمَدُ: وَأَخْبَرَنَا عَارِمٌ، [حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّمِيمِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا السُّمَيْطُ السَّدُوسِيُّ] [1] ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا فَتَحْنَا مَكَّةَ غَزَوْنَا حُنَيْنًا [2] ، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ، فَصُفَّ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ/، ثُمَّ صُفَّتِ الْغَنَمُ، ثُمَّ صُفَّتِ النَّعَمُ، قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آَلافٍ وَعَلَى مَجْنَبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ خُيُولُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا، قَالَ: فَلَمْ تَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خُيُولُنَا وَفَرَّتِ الأَعْرَابُ وَمَنْ تَعَلَّمَ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَنَاَدىَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ» ، ثُمَّ قَالَ: «يَا لَلأَنْصَارِ يَا لَلأَنْصَارِ» . قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حَدِيثُ عَمِّهِ، قَالَ:
قُلْنَا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، [قَالَ] : فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَيْمُ اللَّهِ مَا آَتَيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ، قَالَ: فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجِعْنَا إِلَى مَكَّةَ [3] . قال علماء السير [4] : لما انهزموا أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ان يقتل من قدر عليه منهم فحنق المسلمون عليهم فجعلوا يقتلونهم حتى قتلوا الذرية، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الذرية، وكان سيماء الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أسدلوها [بين أكتافهم] [5] .
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي عامر الأشعري لواء ووجهه في طلبهم، فمنهم من ذهب إلى الطائف ومنهم من ذهب إلى نخلة، وقتل أبو عامر ممن لحق تسعة ثم قتل، واستخلف أبو عامر أبا مُوسَى الأشعري، فقاتلهم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف من سلك طريق نخلة قوما فلقي منهم ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة، فقال له: ما تريد؟ قال: قتلك، ثم ضربه ربيعة فلم يغن شيئا، فقال دريد: بئسما سلحتك أمك، خذ سيفي من مؤخر الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام،واخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أقتل الرجال، فإذا أتيت أمك فقل: قتلت دريد بن الصمة، فقتله.
وكان في تلك الغزوة أم سليم معها خنجر.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ/ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُلْيَمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ [لَهَا] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعِينَ بِهِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟» قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنْهُمْ طَعَنْتُهُ [بِهِ] [1] .
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحَلَ فَانْتَهَى إِلَى الْجِعْرَانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنُ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَلَمَّا أَرَادَ الانْصِرَافَ إِلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ لَيْلا، وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ مِنْ لَيْلِهِ كَبَايِتٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَجَاءَ وَفْدُ هَوَازِنَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: سَأَلُوا رَسُوَل اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [2] : أَمْنُنْ عَلَيْنَا، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بن هوازن- وبنو سَعْدٍ هُمُ الَّذِينَ أَرْضَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَالُ لَهُ: زُهَيْرُ بْنُ صَرْدٍ: لَوْ أنا سَأَلْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شَمْرٍ أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ وَرَجَوْنَا عَطْفَهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ يَقُولُ:
أَمْنُنُ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ
فِي أَبْيَاتٍ أُخَرَ [3] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أم أموالكم» ، فقالوا: نساؤنا وَأَبْنَاؤُنَا، فَقَالَ: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، فَإِذَا أنا صَلَّيْتُ بالناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، فَإِنِّي سَأُعْطِيكُمْ وَأَسْأَلُ لَكُمْ» ، فقاموا وقالوا، فقال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ الله، وَقَالَ الأَنْصَارُ كَذَلِكَ، وَقَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أنا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلا، وَقَالَ/ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلا، وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أنا وَبَنُو سليم فلا، فقال بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله.
فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَمْسَكَ حَقَّهُ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ ست فرائض من أول شيء نصيبه، فَرُدُّوا إِلَى النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الباقي [البزار، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ، أخبرنا أحمد بن معروف، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا محمد بن سعد] [1] عن عبد الله بن جعفر، وابن أبي ميسرة وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ بَعْدَ مَا قَسَّمَ الْغَنَائِمَ، وَفِي ِالْوَفْدِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ أبو برقان، فقال يومئذ: يا رسول إِنَّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ مَنْ كَانَ يَكْلَئُوكَ مِنْ عَمَّاتِكَ وَخَالاتِكَ وَحَواضِنِكَ، قَدْ حَضَنَّاكَ فِي حجورنا وأرضعناك ثدينا، وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ مُرْضَعًا فَمَا رَأَيْتُ خَيْرًا مِنْكَ، وَرَأَيْتُكَ فَطِيمًا فَمَا رَأَيْتُ فَطِيمًا خَيْرًا مِنْكَ، وَرَأَيْتُكَ شَابًّا [فَمَا رَأَيْتُ شَابًّا] [2] خَيْرًا مِنْكَ، وَقَدْ تَكَامَلَتْ فِيكَ خِلالُ الْخَيْرِ، وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ أَهْلُكَ [3] وَعَشِيرَتُكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَدِ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّكُمْ لا تُقْدِمُونَ» وَقَدْ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبْيَ، وَجَرَتْ فِيهِ السُّهْمَانُ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ أَرَبْعَةُ عَشَرَ رَجُلا مِنْ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، وَجَاءُوا بِإِسْلامٍ مِنْ وَرَاءِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ رَأْسُ الْقَوْمِ وَالْمُتَكَلِّمُ أَبُو صْرَدٍ زُهَيْرُ بْنُ صَرْدٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أصل وَعَشِيرَةٌ وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلاءِ مَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالاتُكَ وَحَواضِنُكَ، وَلَوْ مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ شَمْرٍ أَوِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ثُمَّ نَزَلا مِنَّا مِثْلَ الَّذِي نَزَلْتَ بِهِ رَجَوْنَا عَطْفَهُمَا عَلَيْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خير الحديث أصدقه، وعندي من تَرَوْنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ/ أَمْوَالُكُمْ؟» قَالُوا: مَا كُنَّا نَعْدِلُ بِالأَنْسَابِ شَيْئًا، فَرُدَّ عَلَيْنَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَقَالَ: «أَمَّا مَا لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِِ فَهُوَ لَكُمْ، وَأَسْأَلُ لَكُمُ النَّاسَ، فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ بِالنَّاسِ فقولوا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، وَإِنِّي سَأَقُولُ لَكُمُْ مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ وَسَأَطْلُبُ لَكُمْ إِلَى النَّاسِ» .
فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ قَامُوا فَتَكَلَّمُوا بِمَا قَالَ لَهُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: «مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» وَرَدَّ الْمُهَاجِرُونَ وَرَدَّ الأَنْصَارُ، وَسَأَلَ قَبَائِلَ الْعَرَبِ فَاتَّفَقُوا عَلَى قْوَلٍ وَاحِدٍ بِتَسْلِيمِهِمْ بِرِضَاهُمْ، وَدَفْعِ مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ [مِنَ السَّبْيِ إِلا قَوْمٌ تَمَسَّكُوا بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ] [1] فَأَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبِلا عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ. قال علماء السير: وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد هوازن عن مالك بن عوف، فقالوا:
هو بالطائف، فقال: «إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل» فبلغه فأتى وأسلم، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستعمله على قومه وعلى من أسلم من حول الطائف.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد السبي ركب وتبعه الناس يقولون: أقسم علينا الإبل والغنم حتى ألجئوه إلى شجرة فخطفت رداءه، فقال: «ردوا علي ردائي، فو الله لو كان لي عدد شجر تهامة نعما لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا» . ثم أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغنائم فجمعت، فكان السبي ستة آلاف رأس. [قال مؤلف الكتاب] [2] : وقد ذكرنا أنه رد ذلك، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، وأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية، ومائة من الإبل، [قال: ابني يزيد، قال: «أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل» ، قال: ابني معاوية، قال: «أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل» ، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل] [3] ثم سأله مائة أخرى فأعطاه، [وأعطى النضر بن الحارث مائة من الإبل] [4] ، وكذلك أسيد بن حارثة،والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وقيس/ بن عدي، وحويطب، والأقرع بن حابس، وعيينة، ومالك بن عوف. وأعطى العلاء بن حارثة خمسين بعيرا، وكذلك مخرمة بن نوفل، وعثمان بن وهب، وسعيد بن يربوع، وهشام بن عمرو، وذلك كله من الخمس، وأعطى العباس بن مرداس أباعر، فلم يرض وقال:
أتجعل نهبي ونهب العنيد ... بين عيينة والأقرع
والعنيد اسم فرسه فزاده حتى رضي.
وكانت هذه القسمة بالجعرانة، وحينئذ تكلمت الأنصار، وقالوا: أما [عند] القتال فنحن، وحينئذ قام ذو الخويصرة فقال: اعدل فإنك لم تعدل.
رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعِرَّانَةِ وَهُوَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ وَالتِّبْرَ وَهُوَ فِي حِجْرِ بِلالٍ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا فِي أصحاب له، وإن أصحابا لهذا يقرءون الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . قال مؤلف الكتاب: وهذا الرجل يعرف بذي الخويصرة








مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید