المنشورات

غزوة تبوك وذلك في رجب

وذلك أن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وسلم بلغه أن الروم قد جمعت جموعا كبيرة، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الناس، وأعلمهم المكان/ الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب ليستنفرهم، وذلك في حر شديد، وخلف علي بن أبي طالب على أهله، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وجاء البكاءون يستحملونه.
واختلف في عددهم وأسماءهم، فروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: هم ستة:
عبد الله بن معقل، وصخر بن سلمان. وعبيد الله بن كعب، وعلية بن زيد، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة.
وذكر محمد بن مسلمة مكان صخر بن سلمان، سلمة بن صخر، ومكان ثعلبة بن غنمة، عمرو بْن غنمة، قال: وقيل منهم معقل بن يسار.
وروى ابن إسحاق عن أشياخ له [2] : أن البكاءين سبعة من الأنصار: سالم بن عمير، وعلية بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحمام، وعبد الله بن معقل، وبعض الناس تقول عَبْد اللَّه بن عمرو المزني، وعرباض بن سارية، وهرمي بن عبد الله.
وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن، وهم سبعة وقد ذكرهم محمد بن سعد، فقال:
النعمان بن عمرو بن مقرن، وسنان بن مقرن، وعقيل بن مقرن، وعبد الرحمن بن مقرن، وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أجد ما أحملكم عليه» فولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا.
وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم [في التخلف] [1] من غير علة فأذن لهم وهم بضعة وثمانون رجلا، وجاء المعذرون من الأعراب، فاعتذروا فلم يعذرهم، وهم اثنان وثمانون رجلا، وكان عبد الله بن أبي قد عسكر في حلفائه من اليهود والمنافقين على ثنية الوداع، واستخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة، وجاء واثلة بن الأسقع فبايعه ثم لحق به، فلما سار تخلف [عبد الله] بن أبي ومن معه، وبقي نفر من المسلمين، منهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وأبو خيثمة السالمي، وأبو/ ذر الغفاري فقدم تبوكا في ثلاثين ألفا من الناس، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، وكان على حرسه عباد بْن بشير، ولقوا في الطريق شدة.
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا عن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد ظننا أن رقابنا ستقطع حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته تتقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه [2] فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، إن اللَّه قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا، قال: «تحب ذلك» ، قال:
نعم، فرفع يديه فلم يرجعها حتى [قالت السماء] [3] فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. وفي هذه السفرة: اشتد بهم العطش ومعهم إداوة فيها ماء فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء ففاضت حتى روي العسكر وهم ثلاثون ألفا، والإبل اثنا عشر ألفا، والخيل عشرة آلاف.
وفيها: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر [من] أرض ثمود، واستقى الناس من أبيارهم فنهاهم.
قال ابن عمر: أن الناس نزلوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرض ثمود الحجر فاستسقوا من أبيارها وعجنوا به، فأمرهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يهريقوا ما استقوا من أبيارها وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من النهر التي كانت ترده الناقة.
أخرجاه في الصحيحين.
فصل
قال علماء السير: أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك عشرين ليلة، ولحقه أبو خيثمة وأبو ذر، وكان أبو خيثمة قد رجع من بعض الطريق، فوجد امرأتين له، [قد] هيأت كل واحدة منهما عريشا وبردت فيه ماء وهيأت طعاما، فوقف/ فَقَالَ: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الضح [1] والريح وأبو خيثمة في ظلال وماء بارد، والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. فلحقه ثم انصرف رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ولم يلق كيدا، وكان هرقل يومئذ بحمص
. فصل
فبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بن الوليد في أربع مائة وعشرين فارسا إِلَى أُكَيْدَرِ بْنِ عَبْد الْمَلِكِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة، وكان أكيدر قد ملكهم وكان نصرانيا، فانتهى إليه خالد بن الوليد وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة إلى بقر يطاردها هو وأخوه حسان، فشدت عليه خيل خالد فاستأسر أكيدر، وامتنع أخوه حسان فقاتل حتى قتل وهرب من كان معه، فدخل الحصن وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول اللَّه صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم علي أن يفتح له دومة الجندل، ففعل وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفيا خالصا، ثم قسم الغنائم، فأخرج الخمس ثم قسم ما بقي فقدم به وبأخيه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم أكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدى له هدية وصالحه على الجزية وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما وكتب لهما كتابا فيه أمانهم.
وفي طريق رجوع رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم إلى المدينة من تبوك قال من قال من المنافقين:
إنما كنا نخوض ونلعب.
وَرَوَى صَالِحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ جَدَّ بْنَ قَيْسٍ، وَوَدِيعَةَ بْنَ خِدَامٍ وَالْجَهِيرُ بْنُ جُمَيْرٍ كَانُوا يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ تبوك، فجعل رجلان منهم يَسْتَهْزِئَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّالِثُ يَضْحَكُ مِمَّا يَقُولانِ وَلا يَتَكَلَّمُ/ بِشَيْءٍ، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزءون بِهِ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، فَقَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «اذْهَبْ فَسَلْهُمْ عَمَّا كَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْهُ، وَقُلْ لهم أحرقكم اللَّهُ» وَلَمَّا سَأَلَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: أَحْرَقَكُمُ اللَّهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيهِمْ قُرَآنٌ، فَأَقْبَلُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَى رَسُولِ اللِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْجَهِيرُ: وَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْتُ بِشَيْءٍ وإنما ضحكت تعجبا من قولهم، فنزل قوله: لا تعتذروا- يَعْنِي جَدَّ بْنَ قَيْسٍ وَوَدِيعَةَ- إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ 9: 66- يعني الجهير- نعذب طائفة [1]- يَعْنِي الْجَدَّ وَوَدِيعَةَ.
وَفِي طَرِيقِ رُجُوعِهِ مَنْ تَبُوكَ، قَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عمرو بن حيوية، قال: حدّثنا الْحَسَنُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ الفهم، قال: أخبرنا محمد بن سعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ [الطَّوِيلُ] [2] ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: رَجَعْنَا من غزاة تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إًلا كَانُوا مَعَكُمْ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟
قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» [3]
. فصل
فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة في رمضان، وجاءه من تخلف فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب بن مالك وصاحبيه حتى نزلت توبتهم وجعل الناس يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فنهاهم، وقال: «لا تزال طائفة [4] من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الرجال» .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید