المنشورات
عمير بْن سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس
فأما أبوه فشهد بدرا، ويقال لَهُ: سَعْد القارئ. ويروي الكوفيون أنه أَبُو زَيْد الَّذِي جمع القرآن على عهد رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
وقتل سَعْد بالقادسية شهيدا. وَأَمَّا عمير فصحب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وولاه عُمَر حمص، وَكَانَ يقال لَهُ: نسيج وحده.
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ الأَنْمَاطِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ الحداد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَكِيمٍ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي] [3] ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَامِلا عَلَى حِمْصٍ، فَمَكَثَ حَوْلا لا يأتيه خبره، فقال عمر لكاتبه:
اكتب إلى عمير، فو الله مَا أَرَاهُ إِلا قَدْ خَانَنَا: «إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَأَقْبِلْ وَأَقْبِلْ بِمَا جَبَيْتَ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ تَنْظُرُ فِي كِتَابِي هَذَا» .
قَالَ: فَأَخَذَ عُمَيْرٌ جِرَابَهُ، فَجَعَلَ فِيهِ زَادَهُ وَقَصْعَتَهُ، وَعَلَّقَ أَدَوَاتِهِ، فَأَخَذَ عَنْزَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي مِنْ حِمْصَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ شَحَبَ لَوْنُهُ، وَأَغْبَرَ وَجْهُهُ، وَطَالَ شَعْرُهُ، فَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَ عُمَرُ: مَا شَأْنُكَ؟ / فَقَالَ عُمَيْرٌ: مَا تَرَى مِنْ شَأْنِي، أَلَيْسَ تَرَانِي صَحِيحَ الْبَدَنِ [1] ، ظَاهِرَ [2] الدَّمِ، مَعِي الدُّنْيَا أُجُرُّهَا بِقَرْنِهَا. قَالَ: وَمَا مَعَكَ؟ فَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِمَالٍ. فَقَالَ: مَعِي جِرَابِي، أَجْعَلُ فِيهِ زَادِي وَقَصْعَتِي، آكَلُ فِيهَا، وَأَغْسِلُ فِيهَا رَأْسِي وَثِيَابِي وَإِدَاوَتِي أَحْمِلُ فِيهَا وَضُوئِي وَشَرَابِي، وَعَنْزَتِي أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، وَأُجَاهِدُ بِهَا عَدُوًّا إن عرض لي، فو الله مَا الدُّنْيَا إِلا نَفْعٌ لِمَتَاعِي، قَالَ عُمَرُ: فَجِئْتَ تَمْشِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا كَانَ لك أحد يتبرع لك بداية تَرْكَبُهَا؟ قَالَ: مَا فَعَلُوهُ، وَمَا سَأَلْتُهُمْ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: بِئْسَ الْمُسْلِمِينَ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِهِمْ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُمَرُ، قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنِ الْغَيْبَةِ، وَقَدْ رَأَيْتُهُمْ يُصَلُّونَ صَلاةَ الْغَدَاةِ. قَالَ عُمَرُ: بَعَثْتُكَ وَأَيُّ شَيْءٍ صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: وَمَا سُؤَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ؟ فَقَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَمَا أَنِّي لَوْلا أَنِّي أَخْشَى أَنْ أعَمْلَ [3] مَا أَخْبَرْتُكَ بَعَثْتَنِي حَتَّى أَتَيْتُ الْبَلَدَ، فَجَمَعْتُ صُلَحَاءِ أَهْلِهَا فَوَلَّيْتُهُمْ جِبَايَةَ فَيْئِهِمْ، حَتَّى إِذَا جَمَعُوهُ وَضَعْتُهُ مواضعه، ولو نالك منه شَيْءٌ لأَتَيْتُكَ بِهِ. قَالَ: فَمَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ. قَالَ: لا. قَالَ: جَدِّدُوا لِعُمَيْرٍ عَهْدًا. قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لِشَيْءٍ لا عَمِلْتُهُ لَكَ وَلا لأَحَدٍ بَعْدَكَ، وَاللَّهِ مَا سَلِمْتُ، بَل لَمْ أسلم. قلت: لنصراني؟ [4] أخزاك الله، هذا مَا عَرَّضْتَنِي لَهُ، وَإِنْ أَشْقَى أَيَّامِي يَوْمَ خَلَّفْتُ [5] مَعَكَ. ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَرَجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَبَيْنَهَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَمْيَالٌ، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ انْصَرَفَ عُمَيْرٌ: مَا أَرَاهُ إِلا قَدْ خَانَنَا. فَبَعَثَ رَجُلا يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ، وَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى عُمَيْرٍ حَتَّى تَنْزِلَ بِهِ كَأَنَّكَ ضَيْفٌ، فَإِن رَأَيْتَ أثر شيء فأقبل ، وَإِنْ رَأَيْتَ حَالا شَدِيدًا فَادْفَعْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْمِائَةِ دِينَارٍ.
فَانْطَلَقَ الْحَارِثُ، فَإِذَا هُوَ بِعُمَيْرٍ جَالِسٌ يُفْلِي قَمِيصًا إِلَى جَنْبِ الْحَائِطِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: انْزِلْ رَحِمَكَ اللَّهُ. فَنَزَلَ ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟
فَقَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَكَيْفَ تَرَكْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ؟ قَالَ: صَالِحًا. قَالَ: فَكَيْفَ تَرَكْتَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: صَالِحِينَ. قَالَ: أَلَيْسَ يُقِيمُ الْحُدُودَ/ قَالَ: بَلَى، ضَرَبَ ابْنًا لَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ فَمَاتَ مِنْ ضَرْبِهِ. قَالَ عُمَيْرٌ: اللَّهمّ أَعِنْ عُمَرَ، فَإِنِّي لا أَعْلَمُهُ إِلا شَدِيدًا حُبُّهُ لَكَ.
قَالَ: فَنَزَلَ بِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِلا قُرْصٌ مِنْ شَعِيرٍ كَانُوا يَخُصُّونَهُ بِهِ، وَيَطْوُونَ حَتَّى أَتَاهُمُ الْجَهْدُ. فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: إِنَّكَ قَدْ أَجَعْتَنَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَحَوَّلَ عَنَّا فَافْعَلْ. قَالَ:
فَأَخْرَجَ الدَّنَانِيرَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَعَثَ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنيِنَ، فَاسْتَعِنْ بِهَا. قَالَ: فَصَاحَ وَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِيهَا، رُدَّهَا. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنِ احْتَجْتَ إِلَيْهَا، وَإِلا فَضَعْهَا فِي مَوَاضِعِهَا. فَقَالَ عُمَيْرٌ: وَاللَّهِ مَا لِي شَيْءٌ أَجْعَلُهَا فِيهِ. فَشَقَّتِ الْمَرْأَةُ أَسْفَلَ دِرْعِهَا، فَأَعْطَتْهُ خِرْقَةً، فَجَعَلَهَا فِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَبْنَاءِ الشُّهَدَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ وَالرَّسُولُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْهَا شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: أَقْرِئْ مِنِّي أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ السَّلامَ. فَرَجَعَ الْحَارِثُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ حَالا شَدِيدًا. قَالَ: فَمَا صَنَعَ بِالدَّنَانِيرِ؟
قَالَ: لا أَدْرِي. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: «إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي فَلا تَضَعْهُ مِنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ» .
فَأَقْبَلَ إِلَى عُمَرَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «مَا صَنَعْتَ بِالدَّنَانِيرِ؟ فَقَالَ: / صَنَعْتُ مَا صَنَعْتُ، وَمَا سُؤَالُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: أُنْشِدُكَ اللَّهَ إِلا مَا أَخْبَرْتَنِي [1] مَا صَنَعْتَ بِهَا؟ قَالَ:
قَدَّمْتُهَا لِنَفْسِي. قَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ. فَأَمَرَ لَهُ بِوَسَقٍ مِنْ طَعَامٍ وَثَوْبَيْنِ، فَقَالَ: أَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَدْ تَرَكْتُ فِي الْمَنْزِلِ صَاعَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ، إِلَى أَنْ آكُلَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالرِّزْقِ. وَلَمْ يَأْخُذِ الطَّعَامَ. وَأَمَّا الثَّوْبَانِ فَإِنَّ أُمَّ فُلانٍ عَارِيَةٌ [2] . فَأَخَذَهُمَا وَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ هَلَكَ- رَحِمَهُ الله- فبلغ ذلك عُمَرَ، فَشُقَّ عَلَيْهِ، وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ يَمْشِي مَعَهُ، وَمَعَهُ الْمَشَّاءُونَ [3] إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لأصحابه: ليتمنّ كل مِنْكُمْ أُمْنِيَةً. فَقَالَ رَجُلٌ: وَدِدْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ أَنَّ عِنْدِي مَالا فَأَعْتِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ آخَرُ: وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي مَالا فَأُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُ: وَدِدْتُ أَنَّ لِي قُوَّةً فَأَنْضَحُ بِدَلْوٍ مِنْ زَمْزَمَ لِحُجَّاجِ بَيْتِ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنَّ لِي رَجُلا مِثْلَ عُمَيْرٍ أَسْتَعِينُ بِهِ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ
مصادر و المراجع :
١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
(المتوفى: 597هـ)
20 ديسمبر 2023
تعليقات (0)