المنشورات

خروج الخوارج على أمير المؤمنين رضي الله عنه

لما رجع علي رضي الله عنه من صفين فدخل الكوفة لم تدخل معه الخوارج،وكانوا من وقت تحكيمه يردون عليه ولا يرضون بفعله، فلما رجع باينوه فأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا، وقالوا: لا حكم إلا للَّه- وكان ذلك أول ظهورهم- ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عَبْد اللَّهِ بن الكواء اليشكري، والأمر شورى.
فبعث علي رضي الله عنه عَبْد اللَّهِ بن العباس إلى الخوارج، فقَالَ: ما نقمتم من الحكمين. أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسين بْن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا اعْتَزَلَتِ الْخَوَارِجُ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَخْرُجُوا على عَلي بْن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه أتيته يوما قَبْلَ الظُّهْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبْرِدْ بِالصَّلاةِ لَعَلِّي أَدْخُلُ عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ فَأُكَلِّمَهُمْ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ عَلْيَكَ، فَقُلْتُ: كَلا، وكنت حسن الخلق، لا أوذي 49/ أأحدا، فأذن لي/ فدخلت عليهم فَلَمْ أَرَ قَوْمًا أَشَدَّ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا جِبَاهُهُمْ قَرِحَةٌ مِنَ السُّجُودِ، وَأَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا نَقْرُ الإِبِلِ [1] ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ [2] مُشَمِّرِينَ، مُشَهَّمَةٌ وَجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِابْنِ عَبَّاسٍ، مَا جَاءَ بِكَ؟ فَقَالَ:
أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمِنْ عِنْدِ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: لا تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ 43: 58 [3] فَقَالَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ: لَنُكَلِمَنَّهُ، فَقُلْتُ: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: ثَلاثًا، أَمَّا إِحْدَاهُنَّ: فَإِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ 6: 57 [4] ، فما شأن الرجال والحكم؟ فقلت: هذه وَاحِدَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يُسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ لَنَا قِتَالُهُمْ وَسَبْيُهُمْ. قَالُوا: وَمَحَى نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ.
فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَنْقُضُ قَوْلَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ صَيَّرَ مِنْ حُكْمِهِ إِلَى الرِّجَالِ فِي رُبُعِ دِرْهَمٍ ثَمَنَ أَرْنَبٍ، وَتَلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... 5: 95 [1] الآيَةَ. وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها 4: 35 [2] . فَنَشَدْتُكُمُ اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمُونَ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ حُكْمِهِمْ فِي أَرْنَبٍ وَبُضْعِ امْرَأَةٍ، فَأَيُّهُمَا تَرَوْنَ أَفْضَلَ؟ قَالُوا: بَلْ هَذِهِ، قُلْتُ: خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ وَلَمْ يُسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَتُسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، فو الله إِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ بِأُمِّنَا لَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الإِسْلامِ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَنُسبِيَنَّهَا وَنَسْتَحِلُّ مِنْهَا مَا نَسْتَحِلُّ مِنْ غَيْرِهَا خَرَجْتُمْ مِنَ الإِسْلَامِ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَى نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاتَبَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ/، وَلَوْ نَعْلَمُ مَا قَاتَلْنَاكَ، فقال: امح يا 49/ ب عَلِيُّ وَاكْتُبْ: هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بن عبد الله، فو الله لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَقَدْ مَحَى نَفْسَهُ.
فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَخَرَجَ سَائِرُهُمْ فَتَقَاتَلُوا [3] . قَالَ علماء السير [4] : وجاء علي بن أبي طالب [رضي الله عنه إلى القوم] [5] وابن عباس يكلمهم، فقَالَ لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، قَالَ: فما أخرجكم علينا؟
قالوا: حكومتك يوم صفين، قَالَ: أنشدكم باللَّه، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني عرفتهم أطفالا ورجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، امضوا على حقكم، فإنما رفعهم المصاحف خديعة، فرددتم علي رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم، فلما أبيتم إلا الكتاب [1] اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما فِي القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء. قالوا له: فخبرنا، أتراه عدلا تحكيم الرجال فِي الدماء؟ فقَالَ: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال، ادخلوا مصركم، فدخلوا من عند آخرهم.
وقَالَ الخوارج منهم: كان الأمر كما وصفت، ولكن كان ذلك كفرا منا، فقد تبنا إلى الله منه، فتب كما تبنا نبايعك، وإلا فنحن مخالفون. فانصرف علي بأصحابه، فقَالَ قوم: إنه أقر لهم بالخطأ، فصعد المنبر فذكر أمرهم فعابه، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلا للَّه، فقَالَ علي: كلمة حق أريد بها باطل.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید