المنشورات

اجتماع الحكمين

فبعث عليّ رضي الله عنه أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي، وفيهم أبو مُوسَى [الأشعري] [3] ، وبعث معهم عَبْد اللَّهِ بن عباس يصلي ويلي أمورهم، ولم يحضر علي وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، ثم جاء معاوية، واجتمعوا بأذرح، وشهد معهم عَبْد اللَّهِ بن عمر، وعبد الله بن الزبير، 50/ أوالمغيرة بن شعبة فِي جماعة كثيرة. / وخرج عمرو بن سعد بن أبي وقاص، فأتى أباه وهو بالبادية، فقَالَ: يا أبت، قد بلغك ما كان بين الناس بصفين، وقد حكموا وقد شهدهم نفر من قريش، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد أهل الشورى، وأنت أحق بالخلافة، فقَالَ: لا أفعل، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنه تكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي» . والتقى الحكمان، فقَالَ عمرو بن العاص: يا أبا مُوسَى، أرأيت أول ما يقضى به من الحق أن يقضى لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قَالَ: وما ذاك؟
قَالَ: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وافوا وقدموا للموعد؟ قَالَ: بلى، قَالَ عمرو:
اكتبها، فكتبها أبو مُوسَى، قَالَ: ألست تعلم أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما؟ قَالَ:
أشهد، قَالَ: أفلست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فإن الله عز وجل قَالَ: وَمن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً 17: 33 [1] ، فما يمنعك من معاوية ولي عثمان، وبيته فِي قريش كما قد علمت، فإن قَالَ الناس ليس له سابقة فلك حجة، وهي أن تقول: إني وجدته ولي عثمان المظلوم، والطالب بدمه، وقد صحبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ: إني لم أكن لأوليه، وأدع المهاجرين الأولين والأنصار، ولو خرج لي من سلطانه ما كنت لأرتشي فِي حكم الله، ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب.
فأبى عمرو وقَالَ: أخبرني عن رأيك، قَالَ: رأيي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا، فقَالَ له عمرو: فإن الرأي ما رأيت، فأقبلا إلى الناس فقَالَ عمرو: يا أبا مُوسَى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع، فتكلم أبو مُوسَى فقَالَ: رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة، فقَالَ عمرو: صدق وبر، يا أبا مُوسَى، تقدم فتكلم. فتقدم أبو مُوسَى ليتكلم فدعاه ابن عباس فقَالَ له: ويحك، والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك قبلك، فإني لا آمن أن يخالفك، فقَالَ: إنا قد اتفقنا.
فتقدم أبو مُوسَى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: أيها الناس، إنا قد نظرنا فِي أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم/ لشعثها من أمر قد اجتمع عليه رأيي ورأي 50/ ب عمرو، وهو أن نخلع عليا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم ما أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحى.
وأقبل عمرو فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقَالَ: إن هذا قد قَالَ ما سمعتم، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي [معاوية] [1] ، فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه، فقَالَ له أبو مُوسَى: مالك، لا وفقك الله، غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قَالَ عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. فالتمس أهل الشام أبا مُوسَى فركب راحلته ولحق بمكة. وكان يقول: اطمأننت إلى عمرو وظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصح الأمة، ولقد حذرنيه ابن عباس.
وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة وقام معاوية عشية فِي النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أما بعد، من كان متكلما فِي هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، قَالَ ابن عمر: فأطلعت حويتي فأردت أن أقول:
يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام، ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجماعة ويسفك فيها دم وأحمل فيها على غير رأيي، وذكرت ما وعد الله فِي الجنان فأمسكت.
قَالَ عمرو بن العاص: بلغني أن عتبة بن أبي سفيان قَالَ لعبد الله بن عباس: ما منع عليّا أن يبعثك مكان أبي مُوسَى، فقَالَ عَبْد اللَّهِ: منعه والله من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء، أما والله لو بعثني لاعترضت فِي مدارج نفس عمرو ناقضا ما أبرم ومبرما لما نقض، أسف إذا طار وأطير إذا أسف، ولكن مضى قدر وبقي أسف، والآخرة خير لأمير المؤمنين.
وقَالَ خريم بن فاتك الأسدي هذه الأبيات:
لو كان للقوم رأي يرشدون به ... أهل العراق رموكم بابن عباس
51/ أ/ للَّه در أبيه أيما رجل ... ما مثله لفصال الأمر للناس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن ... لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس [1]
أَخْبَرَنَا أبو القاسم الحريري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو طالب العشاري، قال: حدّثنا أبو الحسن الدار الدارقطني، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو الحسين إبراهيم بن بيان الرزاد، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو سعيد الخرقي، قالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، [قَالَ:
سألت أبي] قلت: ما تقول فِي علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قَالَ: يا بني، إيش أقول فيهما، أعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فوضعوا له فضائل كيدا منهم له. [أو كما قَالَ] .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید