المنشورات

سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص، يكنى أبا عثمان، ويكنى أبا سعيد:

 جده أبو أحيحة، قتل أبوه العاص يوم بدر كافرا، وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولسعيد تسع سنين. وكان سعيد كريما، استسقى يوما من دار بالمدينة، ثم عرض صاحب الدار الدار للبيع، فقَالَ: لم يبيعها؟ قالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فقَالَ: إن له لحرمة لسقيه إيانا. فركب إليه ومعه غريمه، فقَالَ للغريم: هي لك علي، وقَالَ لصاحب الدار:
استمتع بدارك.
وكان الناس يتعشون عنده، وكان فيهم رجل من القراء افتقر، فقالت له زوجته: قد بلغنا عن أميرنا هذا كرم فاذكر له حالك فلعله أن ينيلنا شيئا، فقَالَ: ويحك، لا تخلقي وجهي، قَالَتْ: فاذكر له على كل حال. فتصرم الناس ليلة عنه، وثبت الرجل، فقَالَ: سعيد: أظن جلوسك لحاجة، فسكت، فقَالَ لغلمانه:
تنحوا، ثم قَالَ له: رحمك الله، إنما أنا وأنت فاذكر حاجتك، فسكت، فأطفأ السراج ثم قَالَ: رحمك الله، لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقَالَ: أصلح الله الأمير، لقد أصابتنا حاجة فأحببت ذكرها لك، فقَالَ: إذا أصبحت فالق فلانا وكيلي. فلما أصبح الرجل لقي الوكيل، فقَالَ له: إن الأمير قد أمر لك بشيء فائت بمن يحمله معك، فقَالَ:
ما عندي من يحمل، ثم انصرف إلى زوجته فأخبرها الخبر وجعل يلومها ويقول: ما أظنه أمر لي إلا بقوصرة تمر وقفيز بز وذهب ماء وجهي، لو كانت/ دراهم أعطانيها، فقالت له 121/ أامرأته: يا هذا، قد بلغ بنا الأمر ما ترى فمهما أعطاك فإنه يقوتنا، فأتى الوكيل، فقَالَ:
أين تكون؟ أخبرت الأمير أنه ليس عندك من يحمل فأمرني أن أوجه معك من يحمل معك ما أمر به، ثم أخرج إليه ثلاثة من السودان على رأس كل واحد منهم بدرة دراهم وقَالَ: امضوا معه، فلما بلغ الرجل باب منزله فتح بدرة منها فأخرج دراهم ودفعها إلى السودان وقَالَ: انصرفوا، قَالُوا: إلى أين، نحن عبيدك، إنه ما حمل مملوك للأمير قط هدية إلى أحد فرجع المملوك إلى ملكه. قال: فصلحت حال الرجل.
ولما احتضر سعيد قَالَ لبنيه: لا يفقدن مني إخواني غير وجهي، فاصنعوا لهم ما كنت أصنع، وأجروا عليهم ما كنت أجري، فاكفوهم مئونة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فو الله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجة أعظم عليكم منة منكم عليه بما تعطونه.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الْبَارِعُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٌ الْمُخَلِّصُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بن داود، قال: حدثنا الزبير بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدٍ فَقَالَتْ: إِنِّي نَوَيْتُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ الْعَرَبِ، فَقَالَ: «أَعْطِيهِ هَذَا الْغُلامَ» : يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ وَاقِفٌ. ومات سعيد بن العاص فِي قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع، وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق وأمره أن يدفنه بالبقيع، وقَالَ: إن قليلا لي عند قومي فِي بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع، ففعلوا، وأمر ابنه عمرا إذا دفنه أن يركب إلى معاوية فينعاه ويبيعه منزله بالعرصة، وكان منزلا قد أنحله سعيدا، وغرس فيه النخل وزرع وبنى فيه قصرا معجبا، وقَالَ لابنه: إن منزلي هذا ليس فِي العقد، إنما هو منزل برة، فبعه من معاوية/ واقض عني ديني ومواعيدي، ولا تقبل 121/ ب من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي.
فلما دفنه عمرو ووقف الناس بالبقيع فعزوه، ثم ركب رواحله إلى معاوية، فقدم عليه فنعاه له، فاسترجع وتوجع لموته، ثم قَالَ: هل ترك من دين؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
فكم؟ قال: ثلاثمائة ألف درهم، قَالَ: هي علي، قَالَ: قد أبى ذلك وأمرني أن أقضي عنه من أمواله، أبيع ما استباع منها، قَالَ: فاعرضني ما شئت، قَالَ: أنفسها وأحبها إلينا وإليه فِي حياته، منزله فِي العرصة، فقَالَ له معاوية: هيهات لا تبيعون هذا المنزل، انظر غيره، قَالَ: فما نصنع، نحب تعجيل قضاء دينه، قال: قد أخذته بثلاثمائة ألف درهم، قَالَ: اجعلها بالواقية- يريدون درهم فارس، الدرهم زنة مثقَالَ الذهب- قَالَ: قد فعلت، قَالَ: فاحملها إلى المدينة، قَالَ: قد فعلت، فحملها له، فقدم عمرو بن سعيد فجعلها فِي ديونه وحاسبهم بما بين الدراهم الواقية- وهي البعلية- وبين الدراهم الجوار- وهي تنقص فِي العشرة ثلاثة، كل سبعة بالبعلية عشرة بالجوار- حتى أتاه فتى من قريش فذكر حقا له فِي كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض نفقاته، وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى- وهو صعلوك من قريش- هذا المال، فأرسل إلى مولى أبيه الصك فلما قرأه المولى بكى ثم قَالَ: نعم أعرف هذا الصك، وهو حق، دعاني مولاي فقَالَ لي وهذا الفتى عنده على بابه، معه هذه القطعة الأديم: اكتب، فكتبت بإملائه هذا الحق، فقَالَ عمرو للفتى: وما سبب مالك هذا؟
قَالَ: رأيته يمشي وحده فقمت مشيت حتى بلغ باب منزله، ثم وقفت، فقَالَ: هل من حاجة؟ فقلت: لا، إلا أني رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك، فقَالَ:
وصلتك رحم يا ابن أخي، ابغني قطعة أديم، فأتيت خرازا عند باب داره فأخذت منه 122/ أهذه القطعة، فدعا مولاه هذا فقَالَ: اكتب، فكتب عن أبيك هذا الكتاب وكتب فيه شهادته/ على نفسه ثم دفعه إلي وقَالَ: يا ابن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب فإذا أتانا شيء فاتنا به إن شاء الله، فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء. قال عمرو: لا جرم، لا تأخذها إلا وافية، فدفعها إليه.
وروى الزبير من طريق آخر: أن معاوية اشترى العرصة بألف ألف درهم، وكان دين سعيد ثلاثة آلاف درهم، فاشترى معاوية العرصة من ابن سعيد بألف ألف، والنخل بألف ألف، والمزارع بألف ألف. 
وتوفي سعيد فِي هذه السنة، وكان عمرو بن سعيد يدعي أن مروان بن الحكم جعل إليه ولاية العهد بعد عبد الملك، ثم نقض ذلك وجعله إلى عبد العزيز، فلما خرج عبد الملك إلى حرب مصعب غلق عمرو أبواب دمشق فأعطاه عبد الملك الأمان ثم غدر به فقتله.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید