المنشورات

جرول بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس

وهو الحطيئة، لقب بذلك لقصره وقربه من الأرض، ويكنى أبا مليكة. وهو جاهلي إسلامي، والظاهر أنه أسلم بعد موت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا ذكر له فِي الصحابة ولا فِي الوفود.
وكان خبيث اللسان كثير الهجاء، هجا أباه وأمه وعمه وخاله ونفسه، فقَالَ [لأمه] [5] :
تنحي فاقعدي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا لدى المتحدثينا
جزاك الله شرا من عجوز ... ولقّاك العقوق من البنينا
وقَالَ لأبيه وعمه وخاله:
لحاك الله ثم لحاك حقا ... أبا ولحاك من عم وخال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وقَالَ لنفسه:
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله
قَالَ أبو عبيدة معمر بن المثنى: قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فِي الردة الزبرقان، فساق صدقات عوف والأبناء، فلما كان ببعض الطريق رأى الحطيئة- وكان الحطيئة أسود اللسان وداخل الفم وملتقي الشفتين- وهو يتبختر فِي هدم له، أشعث أغبر، وقد كان بين الزبرقان وبين بني قريع مقارضة ومهاجاة، فأراد أن 126/ أيستظهر/ بالحطيئة عليهم، فقَالَ له: ويلك إنك بمضيعة وأراك شاعرا، فهل لك إلى خير مواساة؟ قَالَ: وددت، قَالَ: فالحق ببني سعد حتى آتيك فإنما أؤدي هذه الصدقة إلى أبي بكر ثم ألحق بك، قَالَ: عمن أسأل؟ قَالَ: أم مطلع الشمس ثم سل عن الزبرقان بن بدر ثم ائت أم سدرة فقل لها: يقول لك بعلك الزبرقان بن بدر أحسني إلى قومك، فإنها ستفعل.
ففعل الحطيئة ذلك، فلما رأته بنو قريع قالوا: داهية، وإنما يريد أن يستظهر به علينا، فأتاه نقيض بن شماس فقَالَ: يا أبا مليكة جئت من بلادك ولا أرى فِي يدك شيئا، هل لك إلى خصلة هي خير لك مما أنت فيه، قَالَ: ما هي؟ قَالَ: مائة بعير وتتحول إلينا ونحن ضامنون لأهلك من عيالك أن يدبروا من حالك أن تخلفه، فتحول إليهم فقدم الزبرقان، فقَالَ: أين جاري؟ قالت امرأته: خبث عليك، ثم أخذ يهجو الزبرقان بن بدر، فقَالَ فِي أبيات:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدى عليه عمر فقَالَ له: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟
قَالَ:
كيف تراني كيسا مكيسا أبيت بعد نافع مخيسا.
قَالَ: إنه لا يكون فِي الهجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله فقَالَ: ما هجاه ولكن سلح عليه فحبسه [فِي قعر بئر] [1] ولم تكن السجون مبنية، وأول من بناها علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بنى بالكوفة سجنا سماه مخيسا، فقَالَ عمر للحطيئة: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين فقَالَ:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... [زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم فِي قعر مظلمة ... فارفق عليك سلام الله يا عمر] [2]
الأبيات.
فرق له عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأطلقه وأخذ عليه أن لا يهجو مسلما.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى النَّحْوِيُّ، وَأَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَيَّاطُ، / قَالا: حدّثنا الزبير بن بكار، 126/ ب قال: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الْحِزَامِيُّ، عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُصْعَبٍ، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِإِخْرَاجِ الْحُطَيْئَةِ مِنَ الْحَبْسِ وَقَدْ كلمه فيه عمرو بن العاص، وغيره، فأخرج وَأَنَا حَاضِرٌ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُ لأَفْرَاخٍ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شَجَرٌ
غَادَرْتُ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مَظْلَمَةٍ [3] ... فَارْحَمْ هَدَاكَ مَلِيكُ النَّاسِ يَا عُمَرُ
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ ... أَلْقَى إِلَيْكَ مَقَالِيدَ النهى البشر
لم يؤثروك بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا ... لَكِنَّ لأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِكَ الأَثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ ... بَيْنَ الأَبَاطِحِ يَغْشَاهُمْ بِهَا الْقَدَرُ
نَفْسِي فِدَاؤُكَ كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ... مِنْ عَرْضِ دَاوِيَةٍ تَعْمَى بها الخبر
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ الْحُطَيْئَةُ: مَاذَا تَقُولُ لأَفْرَاخٍ، بَكَى عُمَرُ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَعْدَلَ مِنْ رَجُلٍ يَبْكِي عَلَى تَرْكِهِ الْحُطَيْئَةَ. قَالَ عُمَرُ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الشَّاعِرِ فَإِنَّهُ يَقُولُ الْهَجْوَ وَيُشَبِّبُ بِالْحَرَمِ وَيَمْدَحُ النَّاسَ وَيَذُمُّهُمْ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، مَا أَرَانِي إِلا قَاطِعًا لِسَانَهُ عَلَيَّ بِكُرْسِيٍّ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِالْمِخْصَفِ عَلَيَّ بِالسِّكِّينِ لا بَلْ عَلَيَّ بالْمُوسَى فَإِنَّهُ أَوْجَى، فَقَالُوا: لا يَعُودُ يِا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشَارُوا إِلَيْهِ قُلْ لا أَعُودُ، فَقَالَ: لا أَعُودُ، فَقَالَ: النَّجَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: ارْجِعْ يَا حُطَيْئَةُ، فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي بِكَ عِنْدَ شَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَسَرَ لَكَ نِمْرِقَةً وَبَسَطَ لَكَ أُخْرَى، [وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ غَنِّنَا] [1] فَانْدَفَعْتَ تُغَنِّيهِ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ، قَالَ أَسْلَمُ: فَرَأَيْتُ الْحُطَيْئَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَدْ كَسَرَ لَهُ نِمْرِقَةً وَبَسَطَ لَهُ أُخْرَى وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ غَنِّنَا، فَانْدَفَعَ يُغَنِّيهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا حُطَيْئَةُ أَتَذكر يَوْمَ عُمَرَ حِينَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ، فَفَزَعَ وقال: رحم 127/ أالله ذَلِكَ الْمَرْءَ لَوْ كَانَ حَيًّا مَا فَعَلْنَا هَذَا، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنِّي سَمِعْتُ/ أَبَاكَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، وَكُنْتَ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ.
وَبِالإِسْنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ قال: أمر عمر بن الخطاب بإخراج الحطيئة مِنَ السِّجْنِ فَأُخْرِجَ، فَقَالَ لَهُ: دَعْ قَوْلَ الشِّعْرِ. فَقَالَ لا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ هُوَ مَأْكَلَةُ عِيَالِي، وَنَمْلَةٌ عَلَى لِسَانِي. قَالَ: فَدَعِ الْمِدْحَةَ الْمُجْحِفَةَ. قَالَ وَمَا الْمِدْحَةُ الْمُجْحِفَةُ؟ قَالَ: لا تَقُولُ بَنُو فُلانٍ [2] أَفْضَلُ مِنْ بَنِي فُلانٍ، امْدَحْ وَلا تُفَضِّلْ. قَالَ: أَنْتَ أَشْعَرُ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: ضَرَبَ النَّمْلَةَ مَثَلا لِمَا يَتَرَدَّدُ مِنَ قَوْلِ الشَّعْرِ فِي قَلْبِهِ، وَيُطَالِبُ بِهِ لِسَانُهُ.
وَمِنْ مَدَائِحِهِ قَوْلُهُ:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أَبًا لأَبِيكُمْ ... مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا الْمَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبُنَا ... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِنْ كَانَتِ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا [3] ... وَإِنْ أَنْعَمُوا لا كدّروها ولا كدّوا
وَلَمَّا احْتَضَرَ الْحُطَيْئَةُ قِيلَ لَهُ: أَوْصِ. فَقَالَ الْمَالُ لِلذُّكْرَانِ دُونَ الإِنَاثِ. فَقِيلَ لَهُ:
أَوْصِ. فقال أوصيكم بالشعر، ثم قَالَ:
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهُ ... إِذَا ارْتَقَى فيه الّذي لا يعمله
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهُ ... وَالشِّعْرُ لا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهُ
أَرَادَ [1] أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمَهُ




مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید