المنشورات

الحارث المتنبي الكذاب

روى عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قَالَ: حدثنا محمد بن المبارك، قَالَ:
حدثنا الوليد بْن مسلم، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حسان، قال [3] :
كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالحولة، فعرض له إبليس، وكان متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه زهادة، وكان إذا أخذ في التحميد لم يسمع السامعون بأحسن من كلامه. قال: فكتب إلى أبيه:
يا أبتاه، أعجل علي فإني قد رأيت شيئا أتخوف أن يكون من الشيطان. قال: فزاده أبوه غيا، فكتب إليه: يا بني، أقبل على ما أمرت به إن الله يقول: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 26: 221- 222 [1] ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلا رجلا، فيذاكرهم أمره. ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو رأى ما يرضي قبل، وإلا كتم عليه، وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي إلى رخامة [في] المسجد فينقرها بيده فتسبح. وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرجهم إلى دير المران، فيريهم رجالا على خيل. فتبعه بشر كثير، وفشا الأمر وكثر أصحابه حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة [2] [فعرض على القاسم، وأخذ عليه العهد والميثاق إن رضي أمرا قبله، وإن كره كتم عليه] [3] فقال له: إني نبي، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، فقال له أبو إدريس: بئس ما صنعت، إذ لم تلين له حتى نأخذه، الآن يفر وقام [القاسم] [4] من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمره، فبعث عبد الملك [5] في طلبه فلم يقدر عليه، وخرج عبد الملك حتى نزل الصبيرة [6] واتهم عامة عسكره بالحارث أن يكونوا يرون رأيه، وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس فاختفى فيه، وكان أصحابه يخرجون فيلتمسون الرجال، فيدخلونهم عليه، وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فدخل على الحارث فأخذ في التحميد، ثم أخبره بأمره وأنه نبي مبعوث/ مرسل، فقال له: إن كلامك لحسن ولكن في هذا نظر. قال: فانظر. فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه، فقال: إن كلامك لحسن، قد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا الدين المستقيم، فأمر ألا يحجب، فأقبل البصري يتردد إليه ويعرف مداخله ومخارجه وأين يهرب حتى إذا صار أخص الناس به. ثم قال له: ائذن لي، قال:
إلى أين؟ قال: إلى البصرة أكون أول داعية لك بها، فأذن له.
فخرج مسرعا إلى عبد الملك وهو بالصبيرة [1] ، فلما دنا من سرادقه صاح:
النصيحة النصيحة، فقال أهل العسكر: وما نصيحتك؟ قال: نصيحة لأمير المؤمنين، قالوا: قل، قال [2] : حتى أدنو [3] من أمير المؤمنين، فأمر عبد الملك أن يأذنوا له، فدخل وعنده أصحابه. قال: فصاح: النصيحة النصيحة النصيحة، قال: اخلني لا يكن عندك أحد، فأخرج من في البيت، ثم قال له: ادنني، قال: أدن، فدنا من عبد الملك على السرير، قال: ما عندك؟ قال: الحارث، فلما ذكر الحارث رمى بنفسه عن السرير ثم قال: وأين هو؟ قال: يا أمير المؤمنين هو بيت المقدس، عرفت مداخله ومخارجه، فقص عليه قصته وكيف صنع به، فقال: أنت صاحبه، وأنت أمير بيت المقدس وأمير ها هنا فمرني بما شئت، فقال: يا أمير المؤمنين، ابعث معي قوما لا يفهمون [4] الكلام، فأمر أربعين رجلا من فرغانة، فقال: انطلقوا مع هذا فما أمركم من شيء فأطيعوه. وكتب إلى صاحب بيت المقدس: إن فلانا الأمير عليك حتى تخرج فأطعه فيما أمرك به.
فلما قدم بيت المقدس أعطاه الكتاب، فقال: مرني بما شئت، فقال: اجمع لي كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس، وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس، وزواياها فإذا قلت: أسرجوا أسرجوا جميعا. فرتبهم في أزقة بيت المقدس وزواياها [5] بالشمع وتقدم البصري وحده إلى منزل الحارث، فأتى الباب، فقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله، قال: في هذه الساعة ما يقدرون عليه وما يؤذن عليه حتى يصبح، قال: أعلمه أني إنما رجعت شغفا [6] إليه قبل أن أصل/ فدخل عليه فأعلمه بكلامه، فأمره ففتح، قال: ثم صاح البصري: أسرجوا، فأسرجت الشموع حتى كانت كأنها النهار [7] . ثم قال: من مر بكم فاضبطوه، ودخل هو إلى الموضع الّذي يعرفه فطلبه فلم يجده، فقال أصحابه: هيهات تريدون أن تقتلوا نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال: فطلبه في شق كان قد هيأه سربا، فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا هو بثوبه، فاجتره فأخرجه إلى خارج، ثم قال للفرغانيين: اربطوه، فربطوه. فبينا هم يسيرون على البريد إذ قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فقال أهل فرغانة أولئك العجم: هذا كراننا فهات كرانك أنت، فساروا به حتى أتي به عبد الملك، فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه، وأمر بحربة وأمر رجلا فطعنه فأصاب ضلعا من أضلاعه فكفت [1] الحربة، فجعل الناس يصيحون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى إليه، ثم أقبل يتحسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذه فقتله.
وروى أبو الربيع عن شيخ أدرك القدماء، قال: لما حمل الحارث على البريد، وجعلت في عنقه جامعة من حديد فجمعت يده إلى عنقه، فأشرف على عقبة بيت المقدس تلى هذه الآية: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي 34: 50. فتقلقلت الجامعه ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض، فوثب الحرس فأعادوها، ثم ساروا به فأشرف على عقبة أخرى فقرأ آية فسقطت من رقبته فأعادوها، فلما قدموا على عبد الملك حبسه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويخوفوه ويعلموه أن هذا من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم. فصلب وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت، فتكلم الناس وقالوا: ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل. ثم أتاه حرسي برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه فأنفده.
قال مؤلف الكتاب [2] : وسمعت من قال: قال/ عبد الملك للذي ضربه بالحربة فانثنت: أذكرت الله حين طعنته؟ قال: نسيت، قال: فاذكر الله. ثم اطعنه، وطعنه فأنفذها.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید