المنشورات

سعيد بن جبير و ذكر مقتله

كان سعيد قد خرج مع القراء الذين خرجوا على الحجاج، وشهد دير الجماجم، فلما انهزم أصحاب ابن الأشعث هرب فلحق بمكة، فبقي زمانا طويلا. ثم إن خالد بن عبد الله القسري- وكان واليا للوليد بن عبد الملك على مكة- أخذه فبعثه إلى الحجاج مع إسماعيل بن أوسط البجلي، فقال له: ما الذي أخرجك؟ قال: كانت لابن الأشعث بيعة في عنقي، وعزم علي، فقال: رأيت لعدو الله عزمة لم ترها للَّه ولا لأمير المؤمنين، والله لا أرفع قدمي [2] حتى أقتلك فأعجلك إلى النار سيف رعيب، فقام مسلم الأعور ومعه سيف فضرب عنقه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ بن سلمان، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنَا واصل بن عبد الأعلى، قال: حدثنا أبو بكر بن عباس، عن أبي حصين، قال:
أتيت سعيد بن جبير بمكة، فقلت: إن هذا الرجل قادم- يعني خالد بن عبد الله- ولا آمنه عليك فأطعني واخرج، فقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، قلت:
والله إني لأراك كما سمتك أمك سعيدا.
قال: فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه. قال: فأخبرني يزيد بن عبد الله قال: أتينا سعيد بن جبير حين جيء به، فإذا هو طيب النفس وبنية له في حجره فنظرت إلى القيد فبكت، قال: فشيعناه إلى باب الجسر، فقال له الحرس: أعطنا كفيك فإنا نخاف أن تغرق نفسك، قال: يزيد: فكنت فيمن كفل به.
قال محمد بن إسحاق: وحدثنا محمد بن عبد العزيز الجزري [3] ، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن داود بن أبي هند، قال:
لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولا وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة، فكلا صاحبي رزقها [1] ، وأنا أنتظرها، قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.
أخبرنا إسماعيل بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَخْبَرَنَا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفراء، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن إسحاق بن عتبة الرازي، قال:
حدثنا هارون بن عيسى، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري [2] ، قال: حدثنا حرملة بن عمران، قال: حدثنا ابن ذكوان:
أن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة، فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله، فقال له الرسول: والله إني لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك فاذهب أي الطرق شئت [3] ، فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني فإن خليت عني خفت أن يقتلك، ولكن اذهب بي إليه.
قال: فذهب به إليه، فلما أدخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: بل شقي بن كسير، قال: أمي سمتني [سعيدا] [4] ، قال: شقيت أنت وأمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك نارا تلظى، قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلها غيرك، ثم قال له الحجاج: ما تقول فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نبي مصطفى خير الباقين وخير الماضين، قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار، أعز به الدين وجمع به بعد الفرقة، قال: وما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: فاروق الله وخيرته من خلقه [5] ، أحب الله أن يعز الدين بأحد الرجلين، فكان أحقهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان؟ قال: مجهز جيش العسرة، والمشتري بيتا في الجنة، والمقتول ظلما، قال:فما تقول في علي [بن أبي طالب] [1] ؟ قال: أولهم إسلاما، تزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أحب بناته، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فما تقول في الخلفاء منذ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآن؟ قال: سيجزون بأعمالهم فمسرور ومثبور لست عليهم بوكيل، قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسنا فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن مسيئا فلن يعجز الله، قال: فما تقول في؟
قال: أنت أعلم بنفسك، قال: بث في علمك، قال: إذن أسوؤك ولا أسرك، قال: بث، قال: نعم ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله، قال: والله لأقطعنك قطعا، ولأفرقن أعضاءك عضوا عضوا، قال: إذن تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك، قال: الويل لك من الله، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه، قال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أستحفظكها [2] حتى ألقاك يوم القيامة. ولما ذهبوا به ليقتل تبسم، فقال له الحجاج: مم ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل، فقال الحجاج: أضجعوه للذبح، فأضجع فقال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) 6: 79 [3] فقال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة، فقرأ سعيد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) 2: 115 [4] فقال: كبوه على وجهه، فقرأ سعيد: (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) 20: 55 [5] فذبح من قفاه.
قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري، فقال: اللَّهمّ يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثا حتى وقع الدود في بطنه فمات.
وفي رواية أخرى: أنه عاش بعده خمسة عشر يوما.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد [6] بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أخبرنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق،قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، قال: حدثنا سنيد [1] ، عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال:
شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قال الثالثة [2] فلم يتمها.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: أخبرنا القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دريد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عثمان، قال:
حدثنا عبد الله [3] ، قال: حدثنا غسان بن مضر، قال: حدثنا سعيد بن يزيد، قال:
كنا عند الحسن وهو متوار في بيت أبي خليفة، فجاءه رجل فقال له: يا أبا سعيد، قتل الحجاج سعيد بن جبير، فقال الحسن: لعنة الله على الفاسق بن يوسف، ثم قال:
والله لو أن أهل المشرق والمغرب اجتمعوا على قتل سعيد لأدخلهم الله النار.
وفي مقدار عمر سعيد بن جبير ثلاثة أقوال: أحدها سبع وخمسون، والثاني تسع وأربعون، والثالث اثنان وأربعون.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید