المنشورات

يزيد بن عبد الملك بن مروان:

توفي بالبلقاء من أرض دمشق وهو ابن ثمان وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وكانت وفاته يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان هذه السنة، وصلى عليه نساء الوليد، وكان هشام بن عبد الملك يومئذ بحمص، وكانت خلافته أربع سنين وشهرا.
وكان سبب موته أنه كانت له جارية اسمها حبابة، وكان يحبها حبا شديدا، فماتت فتغير وبقي أياما لا يظهر للناس، ثم مات.
وروى أبو بكر بن دريد، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، قال:
حج يزيد بن عبد الملك في خلافة أخيه سليمان بن عبد الملك، فعرضت عليه جارية مغنية جميلة، فأعجب بها غاية الإعجاب فاشتراها بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها الغالية فسماها حبابة، وكان يهواها الحارث بن خالد المخزومي، فقال لما بلغه خروج يزيد بها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدا بليل مطلع الشرق
وبلغ سليمان خبرها فقال: لهممت أن أحجر على يزيد يبتاع جارية بأربعة آلاف دينار، وكان يزيد يهابه ويتقيه، فتأدى إليه قوله فردها على مولاها واسترجع منه المال، وباعها مولاها من رجل من أهل مصر بهذا الثمن، ومكث يزيد آسفا متحسرا عليها، فلم تمض إلا مديدة حتى تقلد يزيد الأمر.
فبينا هو [في] [1] بعض الأيام مع امرأته سعدى بنت عمرو بن عثمان إذ قالت له:
بقي في قلبك شيء [2] من أمور الدنيا لم تنله؟ قال: نعم حبابة، فأمسكت حتى إذا كان من الغد أرسلت بعض ثقاتها إلى مصر، ودفعت إليه مالا وأمرته بابتياع حبابة، فمضى فما كان بأسرع من أن ورد وهي معه قد اشتراها، فأمرت سعدى قيمة جواريها أن تصنعها، وكستها من أحسن الثياب، وصاغت لها من أفخر الحليّ، ثم قالت لها: أمير المؤمنين متحسر عليك وله اشتريتك، فسرت ودعت لها، ولبثت أياما تصنعها تلك القيمة حتى إذا ذهب عنها وعث السفر قالت سعدى [1] ليزيد: إني أحب أن تمضي معي إلى بستانك بالغوطة لنتنزه فيه، قال: أفعل فتقدميني، فمضت وضربت، فيه قبة وشي ونجدتها بالفرش وجعلت داخلها كله قصب وأجلست فيها حبابة، وجاء يزيد فأكلوا وجلسوا على شرابهم، فأعادت سعدى عليه: هل بقي في قلبك من الدنيا شيء لم تبلغه؟ قال: نعم حبابة، قالت: فإني قد اشتريت جارية ذكرت أنها علمتها غناءها كله، فهي تغني مثلها فتنشط لاستماعها، قال: أي والله، فجاءت به إلى القبة وجلسا قدامها وقالت: غني يا جارية، فغنت الصوت الذي غنته ليزيد لما اشتراها وهو من شعر كثير:
وبين التراقي والفؤاد حرارة ... مكان الشجى لا تستقل فتبرد
قال يزيد: حبابة والله، فقالت: سعدى: حبابة، والله لك اشتريتها وقد أهديتها لك فسر سرورا عظيما وشكرها غاية الشكر وانصرفت وتركته مع حبابة، فلما كان بالعشي صعد معها إلى مستشرف في البستان وقال لها: غني
وبين التراقي والفؤاد حرارة ... مكان الشجى لا تستقل فتبرد
فغنته فأهوى ليرمي بنفسه وقال: أطير والله، فتعلقت به وقالت له: الله الله يا أمير المؤمنين، فأقام معها ثلاثة أيام ثم انصرفا، فأقامت أياما ثم مرضت وماتت فحزن عليها حزنا شديدا وامتنع من الطعام والشراب ومرض فمات.
أخبرنا المبارك بن علي، قال: أخبرنا ابن العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن الأعرابي، قال: حدثنا علي بن عمروس:
أن يزيد بن عبد الملك دخل يوما بعد موت حبابة إلى خزائنها ومقاصيرها، فطاف فيها ومعه جارية من جواريها فتمثلت الجارية بهذا البيت:
كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى [2] معطلة قفرا فصاح صيحة وخر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى من الليل [هوي] [1] فلم يزل بقية ليلته باكيا، فلما كان اليوم الثاني وقد انفرد في بيت يبكي عليها جاءوا إليه فوجدوه ميتا.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، [قالت: أَخْبَرَنَا ابن السراج] [2] بإسناده عن موسى بن جعفر:
أن يزيد بن عبد الملك بينا هو مع حبابة أسر الناس بها حذفها بحبة رمان أو بعنبة وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت فماتت، فأقامت عنده في البيت حتى جيفت أو كادت تجيف، ثم خرج فدفنها وأقام أياما ثم خرج حتى وقف على قبرها وقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا ... فبالنفس أسلو عنك لا بالتجلد
ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج نعشه.
وقال يحيى بن أسقوط الكندي [3] : ماتت حبابة فأحزنت يزيد بن عبد الملك، فخرج في جنازتها فلم تقله رجلاه، فأقام وأمر مسلمة فصلى عليها ثم لم يلبث بعدها إلا يسيرا حتى مات.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید