المنشورات

نصيب بن رباح، وقيل أبو محجن الشاعر، مولى عبد العزيز بن مروان

وكان أسود شديد السواد، جيد الشعر، عفيف الفرج، كريما يفضل بماله وطعامه. وكان أهل البادية يدعونه النصيب تفخما لما يرون من جودة شعره، ولم يهج أحدا تدينا، وكان في أول أمره عبدا لبني كعب راعيا لهم، فباعوه من قلاص بن محرز الكناني وكان يرعى [2] إبله.
وزعم ابن الكلبي أن نصيبا من بني الحاف بن قضاعة، وكانت أمه أمة فوثب عليها سيدها فجاءت بنصيب، فوثب عليه عمه فباعه من رجل، فاشتراه عبد العزيز بن مروان من الرجل.
وقال غيره: إنما كان يتولع بالشعر، فلما جاء قوله استأذن مولاه في إتيان بني مروان فلم يأذن له، فهرب على ناقة بالليل ودخل على عبد العزيز بن مروان فمدحه، فقال: حاجتك، قال: أنا مملوك، فقال للحاجب: اخرج فأبلغ في قيمته، فجمع له المقومين فقال: قوموا غلاما أسود ليس به عيب، قالوا: مائة دينار، قال: إنه راعي إبل يبصرها ويحسن القيام عليها، قالوا [3] : مائتا دينار، قال: إنه يبري النبل ويريشها ويبري القسي [4] ، قالوا: أربعمائة دينار، قالوا: إنه راوية للشرع، قالوا: ستمائة دينار، قال: إنه شاعر، قالوا: ألف دينار، فقال نصيب: أصلح الله الأمير جائزتي عن مدحتي، قال: أعطوه ألف دينار، فعاد فاشترى أمه وأخته وأهله وأعتقهم.
وقد مدح عبد العزيز بن مروان وأخاه عبد الملك بن مروان وأولاده وعمر بن عبد العزيز، وحصل منهم مالا كثيرا.
وقال أيوب بن عباية [1] : بلغني أن النصيب كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي بني أمية، فإذا أنشده بكى وبكى معه، فأنشده يوما قصيدة مدحه [بها يقول] [2] فيها:
إذا استبق الناس العلا سبقتهم ... يمينك عفوا ثم ضلت شمالها
فقال له هشام: يا أسود بلغت غاية المدح فسلني، فقال: يدك بالعطية أجود وأبسط من لساني بمسألتك، فقال: [هذا] [3] والله أحسن من الشعر. وأحسن جائزته.
ومن شعر نصيب يمدح نفسه [4] :
ليس السواد بناقصي ما دام لي ... هذا اللسان إلى فؤاد ثابت
من كان ترفعه منابت أصله ... فبيوت أشعاري جعلن منابتي
كم بين أسود ناطق ببيانه ... ماضي الجنان وبين أبيض صامت
إني ليحسدني الرفيع بناؤه ... من فضل ذاك وليس بي من شامت
وكان نصيب تشبب بزينب، والمشهور عنها أنها كانت بيضاء مستحسنة. وقد روي أيضا أنها كانت سوداء.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عمر البرمكي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الحسين الزينبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن عمرو، وأحمد بن حرب، قالا: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بكار، قَالَ: حدثني محمد بن المؤمل بن طالوت، قال: حدثني أبي، عن الضحاك بن عثمان الحزامي، قال:
خرجت في آخر الحج فنزلت بالأبواء على امرأة فأعجبني ما رأيت من حسنها وأطربني، فتمثلت قول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
خليلي من كعب إلى ما هديتما ... بزينب لا يقعد كما أبدا كعب
وقولا لها ما في البعاد لذي الهوى ... بعاد وما فيه لصدع النوى شعب
فمن شاء رام الصرم أو قال ظالما ... لصاحبه ذنب وليس له ذنب
فلما سمعتني أتمثل بهذه الأبيات قالت لي: يا فتى العرب، أتعرف قائل هذا الشعر [1] ؟ قلت: نعم ذاك نصيب، قالت: نعم هو ذاك، فتعرف زينب؟ قلت: لا، قالت: أنا والله زينب، قلت: فحياك الله، قالت: أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين، خرج إليه عام أول ووعدني هذا اليوم، ولعلك لا تبرح حتى تراه. قال: فما برحت من مجلسي حتى إذا أنا بركب يزول مع السراب، فقالت: ترى خبب ذلك الفارس- أو ذاك الراكب- إني لأحسبه إياه، قال: وأقبل الراكب فأمنا حتى أناخ قريبا من الخيمة، فإذا هو نصيب، ثم ثنى رجله عن راحلته فنزل ثم أقبل فسلم علي وجلس منها ناحية وسلم عليها وساءلها وساءلته فأخفيا ثم أنها سألته أن ينشدها ما أحدث من الشعر بعدها، فجعل ينشدها، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقمت إلى راحلتي أشد عليها، فقال لي: على رسلك أنا معك، فجلست حتى نهض ونهضت معه، فتسايرنا ساعة ثم التفت فقال: قلت [في نفسك] [2] : محبان التقيا بعد طول تناء لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة؟
قلت: نعم قد كان ذلك، قال: فلا ورب هذه البنية التي إليها نعمد، ما جلست منها مجلسا قط أقرب من مجلسي الذي رأيت ولا كان شيء مكروه قط.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قَالَ: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا محمد بن معاذ، عن إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثني رجل من قريش عمن حدثه قال:
كنت حاجا ومعي رجل من القافلة لا أعرفه ولم أره قبل ذلك ومعه هوادج وأثقال وصبية وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلا، فإذا فرش ممهدة وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها هودجا امرأة زنجية فجلست على تلك الفرش الممهدة، ثم جاء زنجي فجلس إلى جنبها على الفراش فبقيت متعجبا منهما، فبينا أنا أنظر إليهما إذ مر بنا مار وهو يقود إبلا، فجعل يتغنى ويقول:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
قال: فوثبت الزنجية إلى الزنجي فخبطته وضربته وهي تقول: شهرتني في الناس شهرك الله، فقلت: من هذا؟ قالوا: نصيب الشاعر وهذه زينب.
قال محمد بن خلف: وحدثني أبو بكر بن شداد، قَالَ: حدثني أَبُو عبد الله بْن أبي بكر، قال: حدثني إبراهيم بن زيد بن عبد الله السعدي، قال: حدثتني جدتي، عن أبيها، عن جدها، قال [1] :
رأيت رجلا أسود ومعه امرأة بيضاء، فجعلت أتعجب من سواده وبياضها، فدنوت منه، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا الذي أقول:
ألا ليت شعري ما الذي تحدثين لي ... إذا ما غدا النأي المفرق [2] والبعد
أتصرمني عند الألى فهم العدا [3] ... فتشمتهم بي أم تدوم على العهد
قال: فصاحت: بلى والله تدوم على العهد، فسألت عنها فقيل: هذا نصيب وهذه أم بكر.
قال ابن خلف: وأخبرني جعفر بن اليشكري، قال: حدثني الرياشي، قال:
أخبرني العتبي، قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان فقال له: هل عشقت يا نصيب؟ قال: نعم جعلني الله فداك، قال: من؟ قال: جارية لبني مدلج فأحدق بها الواشون فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة، وأجلس لها على الطريق حتى تمر بي فأراها، وفي ذلك أقول [4] :
جلست [5] لها كيما تمر لعلني ... أخالسها التسليم إن لم تسلّم
الله؟ قلت: بلى، قال: ولكني رأيت الناس رجلين، رجلا لم أسأله فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه، ورجلا سألته فمنعني فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أنبأنا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر البرمكي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرو بْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن محمد بن إسحاق المكي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أيوب بن عباية، قال: حدثني خلف بن نوفل بن عبد مناف، قال:
لما أصاب نصيب من المال ما أصاب، وكانت عنده أم محجن [- وكانت سوداء- تزوج امرأة بيضاء، فغضبت أم محجن] [1] وغارت، فقال: يا أم محجن والله ما مثلي يغار عليه إني لشيخ كبير وما مثلك من يغار إنك لعجوز كبيرة، وما أجد أكرم علي منك ولا أوجب حقا فجوزي هذا الأمر ولا تكدريه علي، فرضيت وقرت، ثم قال لها بعد ذلك: هل لك أن أجمع إليك زوجتي الجديدة فهو أصلح لذات البين وألم للشعث وأبعد للشماتة، فقالت: افعل فأعطاها دينارا وقال لها: إني أكره أن ترى بك خصاصة وأن تفضل عليك، فاعملي لها إذا أصبحت عندك غدا نزلا بهذا الدينار ثم أتى زوجته الجديدة، فقال لها: إني قد أردت أن أجمعك إلى أم محجن غدا وهي مكرمتك وأكره أن تفضل عليك، فخذي هذا الدينار فاهدي لها به إذا أصبحت عندها غدا لئلا ترى بك خصاصة ولا تذكري الدينار لها، ثم أتى صاحبا له يستنصحه، فقال: إني أريد أن أجمع زوجتي الجديدة إلى أم محجن غدا فأتني مسلما فإني سأستجلسك للغداء فإذا تغديت فسلني عن أحبهما إلي فإني سأنفر وأعظم ذلك وآبى أن أخبرك، فإذا أبيت ذلك فاحلف علي، فلما كان الغد زارت زوجته الجديدة أم محجن، ومر به صديقه فاستجلسه، فلما تغديا أقبل الرجل عليه، فقال: يا أبا محجن، أحب أن تخبرني عن أحب زوجتيك إليك، قال: سبحان الله، تسألني [2] عن هذا وهما يسمعان، ما سأل عن مثل هذا أحد، قال: فإنّي أقسم عليك لتخبرني فو الله إني لا أعذرك، ولا أقبل إلا ذاك، قال: أما إذ فعلت فأحبهما إلي صاحبة الدينار، والله لا أزيدك على هذا شيئا، فأعرضت كل واحدة منهما تضحك ونفسها مسرورة وهي تظن أنه عناها بذلك القول.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید