المنشورات

سكينة بْنت الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب

واسمها: آمنة، وقيل: أميمة. وسكينة لقب عرفت به، وأمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبي. كان نصرانيا فجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأسلم، فدعا له برمح، فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة، فتولى قبل أن يصلي صلاة، وما أمسى المساء حتى خطب إليه الحسين بن علي ابنته الرباب، فزوجه إياها، فأولد عبد الله وسكينة، وكان الحسين عليه السلام يقول:
لعمرك إنني لأحب دارا ... تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس بعاتب عندي عتاب
ولست لهم وإن عابوا مطيعا ... حياتي أو يغيبني الركاب
وكانت سكينة من الجمال والأدب والفصاحة بمنزلة عظيمة، كان منزلها مألف الأدباء والشعراء، وتزوجت عبد الله بن الحسن بن علي فقتل بالطائف قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها مصعب بن الزبير ومهرها ألف ألف درهم، وحملها إليه أخوها علي بن الحسين، فأعطاه أربعين ألف دينار، فولدت له الرباب، فكانت تلبسها اللؤلؤ وتقول: ما ألبسها إياه إلا لتفضحه. وخطبها عبد الملك بن مروان فقالت أمها: لا والله، لا تتزوجه أبدا، وقد قتل ابن أخي مصعبا، فتزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، وكان يتولى مصر، فنفس بها عليه عبد الملك، وكتب إليه: اختر مصر أو سكينة. فطلقها قبل أن يدخل بها، ومتعها بعشرين ألف دينار، وخلف عليها بعد مصعب: عبد الله بن عثمان ابن عبد الله بن الحكم، فولدت له حكيما، وعثمان، وزبيحة، وكانت عنده قبلها فاطمة بنت عبد الله بن الزبير، فلما خطب سكينة أحلفته بطلاقها أن لا يؤثر عليها فاطمة. ثم اتهمته أن يكون آثرها، فاستعدت عليه هشام بن إسماعيل والي المدينة، فاستحلفه ثم أمر برد سكينة عليه، فبعث إليها: أمرك الآن بيدك. فبعثت إليه: إنا ما ظننا أنا قد هنا عليك هذا الهوان، إنما يلجلج في نفسي شيء، وخفت المأثم فأما إذ برئت من ذلك فما أوثر عليك شيئا.
ثم خلف على سكينة زيد بن عمر بن عثمان، ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وكانت ولية نفسها، فلم تنفذ نكاحه.
وقيل: حملت إليه إلى مصر فوجدته قد مات.
وروى علي بن الحسين الأصبهاني أن المدائني قال: حدثني أبو يعقوب الثقفي، عن الشعبي [1] :
أن الفرزدق خرج حاجا، فلما قضى حجه عدل إلى المدينة، فدخل إلى سكينة بنت الحسين فسلم، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال: والله لو أذنت لي لأسمعنك أحسن منه. قالت: أقيموه. فأخرج ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... كتم الحديث وعفت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
فقال: والله إن أذنت أسمعتك أحسن منه. فأمرت به فأخرج، ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات لها كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وبهت ينظر إليها، فقالت له سكينة: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت:
كذبت، صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في لحظها [1] مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتم مقلة إنسانها غرق ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا [2]
فقال: والله لئن تركتيني لأسمعنك أحسن منه. فأمرت بإخراجه، فالتفت إليها وقال: يا بنت رسول الله إن لي عليك حقا عظيما، صرت من مكة إرادة التسليم عليك، فكان جزائي من ذلك تكذيبي وطردي وتفضيل جرير علي، ومنعك إياي أن أنشدك شيئا من شعري، وبي ما قد عيل منه صبري، وهذه المنايا تغدو وتروح، ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإذا مت فمري بي أن أدرج في كفني وأدفن في حر [3] هذه الجارية- يعني التي أعجبته- فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية. فخرج بها، وأمرت بالجواري، فدفعن في أقفيتهما، ونادته: يا فرزدق، احتفظ بها وأحسن صحبتها، فإني آثرتك بها على نفسي.
قال علي بن الحسين: وأخبرني ابن أبي الأزهر، قَالَ: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن محمد بن سلام قال:
اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين: جرير، والفرزدق، وكثير، وجميل، ونصيب، فمكثوا أياما، ثم أذنت لهم فدخلوا عليها، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم، ثم أخرجت وصيفة لها وضية قد روت الأشعار والأحاديث. فقالت:
أيكم الفرزدق؟ قال لها: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أحي فيرجى أم قتيل نحاذره [1]
قال: نعم. قالت: فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك، هلا سترتها وسترت نفسك، خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت، فقالت: أيكم جرير؟ فقال: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
قال: نعم. قالت: فهلا رحبت بها! خذ هذه الألف وانصرف. ثم دخلت وخرجت فقالت: أفيكم كثير؟ قال: ها أنا ذا. قالت: أنت القائل:
فأعجبني يا عز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يطمع الطالب الصبا ... ورفعك أسباب الهوى حين يطمع
فو الله ما يدري لريم مماطل ... أينساك إذ باعدت أم يتضرع
قال: نعم. قالت: ملحت وشكلت، خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت فقالت: أيكم نصيب؟. قال: ها أنا ذا. قالت: أنت القائل:
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النساء الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار
قال: نعم. قالت: رثيتنا صغارا ومدحتنا كبارا، خذ هذه الأربعة آلاف والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت فقالت: يا جميل، مولاتي تقرئك السلام وتقول: والله ما زلت مشتاقة إلى رؤيتك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد

جعلت حديثنا بشاشة، وقتلانا شهداء، خذ هذه ألف دينار والحق بأهلك.
وعن حماد، عن أبيه، عن أبي عبيد الله الزبيري قال:
اجتمع رواية جرير، ورواية كثير، وراوية جميل، ورواية الأحوص، وراوية نصيب، فافتخر كل واحد منهم بصاحبه وقال: صاحبي أشعر. فحكموا سكينة بنت الحسين لما يعرفون من عقلها وبصرها بالشعر، فاستأذنوا عليها فأذنت، فذكر لها الذي كان من أمرهم فقالت لراوية جرير: أليس صاحبك يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
فأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق قبح الله صاحبك وقبح شعره، ألا قال:
فادخلي بسلام!؟
ثم قالت لراوية كثير: أليس صاحبك الذي يقول:
تقر بعيني ما تقر بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرت
وليس بعينها أقر من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح، قبح الله صاحبك وقبح شعره.
ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
فما أرى صاحبك هوي، إنما يطلب عقله، قبح [الله] [1] صاحبك وقبح شعره.
ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي
فما أرى له همة إلا من يتعشقها بعده، قبحه الله وقبح شعره، ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي حيلة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين تواعدا وتراسلا ... حتى إذا نجم الثريا حلقا
باتا بأنعم ليلة وألذها ... حتى إذا وضح الصباح تفرقا
قال: نعم. قالت: قبحه الله وقبح شعره، ألا قال: «تعانقا» .
فلم تثن على أحد يومئذ ولم تقدمه.
وفي رواية أخرى: قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فيا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى علي كلامها
قال: نعم. قالت: رحم الله صاحبك، فإنه كان صادقا في شعره، وكان كاسمه.
فحكمت له.
توفيت سكينة بمكة يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول من هذه السنة، وصلى عليها شيبة بن نصاح المقرئ.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید