المنشورات

قتل مروان بن محمد

وذلك أنه لما هرب من الزاب مر بقنسرين وعبد الله بن علي يتبعه، ثم مضى إلى حمص، فتلقاه أهلها بالسمع والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها، فلما رأوا قلة عدده طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم، فاتبعوه بعد ما رحل، فلحقوه على أميال، فلما رأى غبره خيولهم كمن لهم كمينين، ثم صافهم وناشدهم فأبوا إلا قتاله، فنشب القتال بينهم، وثار الكمينان من خلفهم فهزموا أصحاب مروان، ومر مروان إلى دمشق، ثم مر بالأردن وفلسطين، واتبعه عبد الله بن علي.
فأنفذ أبو العباس السفاح عمه صالح بن علي في جموع كثيرة إلى الشام على طريق السماوة حتى لحق بأخيه عبد الله بن علي وسار إلى دمشق وبها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم خليفة مروان بن محمد، فحصرها وفتحها عنوة، وقتل الوليد وأنهب البلد ثلاثة أيام، وقلع سورها حجرا حجرا، وبعث بيزيد بن معاوية بن مروان، وعبد الله بن عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك مروان إلى أبي العباس، فقتلهما وصلبهما.
وهرب مروان إلى مصر فدخلها في رمضان وبها عبيد الله [1] ابنه قد سبقه، ونزل عبد الله بن علي نهر أبي فرطس، وجمع بني أمية وأظهر أنه يريد [أن] [2] يفرض لهم العطاء، فلما اجتمعوا وهم نيف وثمانون إنسانا خرجوا عليهم فقتلوهم، وجاء كتاب أبي العباس بأن ينفذ صالح بن علي لطلب مروان، ويجعل على مقدمته أبا عون عبد الملك بن يزيد فمضى معه أبو عون والحسين بن قحطبة، وعامر بن إسماعيل التميمي، ومنهال بن قنان، فبلغوا إلى العريش، وبلغ مروان الخبر، فأحرق ما حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ومن معه في طلبه إلى الصعيد، وقدم أبا عون أمامه وعامر بن إسماعيل، وسعيد بن عثمان المازني، فلقوا خيلا لمروان، فهزموهم وأسروهم وسألوهم عن مروان على أن يؤمنوهم، فعرفوهم خبره ومكانه، وساروا حتى أدركوه بقرية من قرى الصعيد تسمى بوصير من آخر الليل، وقد نزل الكنيسة ومعه حرمه وولده وثقله.
قال عامر [3] : لما وصلنا كنا في جمع يسير، فلو علم قلتنا شد علينا، فلجأنا إلى شجر [4] ونخل، فقلت لأصحابي: إن أصبحنا ورأوا قلتنا أهلكونا، وخرج مروان فقاتل وهو يقول: كانت للَّه علينا حقوق ضيعناها ولم نقم بما يلزمنا فيها، فحلم عنا ثم انتقم منا.
قال علماء السير [5] : كان مروان قد عرض جيشه بالرقة فمر به ثمانون ألف عربي على ثمانين ألف فرس عربي، ففكر ساعة ثم قال: إذا انقضت المدة لم تنفع العداة، إلا أنه في ذلك الوقت بالغ في القتال، فقتل ثلاثمائة رجل، وأثخنته الجراح وحمل عليه رجل فقتله واحتز رأسه رجل من أهل البصرة كان يبيع الرمان. فقال الحسن بن قحطبة:
أخرجوا إلي أكبر بنات مروان، فأخرجوها وهي ترعد، فقال لها: لا بأس عليك، فقالت: أي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة من حيث لم أر رجلا قط، فأجلسها ووضع الرأس في حجرها، فصرخت واضطربت، فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: كفعلهم بزيد بن علي حين قتلوه، فإنهم جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي.
وبعث برأس مروان إلى صالح بن علي، فنصب على باب مسجد دمشق، وبعث به إلى السفاح فخر ساجدا وتصدق بعشرة آلاف دينار.
وأوغل أولاد مروان إلى بلاد النوبة، فقاتلهم الحبشة، فقتل بعضهم وأفلت بعضهم، وكان فيهم بكر بن معاوية الباهلي فسلم حتى كان في خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الكلوذاني، قال:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري، قال: حدثنا المعافى بْن زكريا، قَالَ:
حَدَّثَنَا الحسين بْن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا الفضل بن العباس الربعي، قال:
حدثني إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، قال: سمعت عمي سليمان بن أبي جعفر يقول:
كنت واقفا على رأس المنصور ليلة وعنده إسماعيل بن علي وصالح بن علي وعيسى بن علي، فتذاكروا زوال ملك بني أمية وما صنع بهم عبد الله وقتل من قتل منهم بنهر أبي فرطس، فقال المنصور: ألا من عليهم ليروا من دولتنا ما رأينا من دولتهم، ويرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، فلقد لعمري عاشوا سعداء، وماتوا فقداء. فقال له إسماعيل بن علي: يا أمير المؤمنين، إن في حبسك عبيد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك النوبة فابعث إليه فاسأله عنها، فقال: يا مسيب، علي به، فأخرج فتى مقيد بقيد ثقيل وغل ثقيل، فمثل بين يديه، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا عبيد الله، رد السلام أمن ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن أقعدوه، فجاءوا بوسادة فثنيت فقعد عليها، فقال له: قد بلغني أنه كان لك مع ملك النوبة قصة عجيبة، فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا والذي أكرمك بالخلافة ما أقدر على النفس من ثقل الحديد، ولقد صدئ قيدي مما أرشق عليه من البول وأصب عليه من الماء في أوقات الصلوات، فقال: يا مسيب أطلق عنه حديدة.
ثم قال: نعم يا أمير المؤمنين، لما قصد عبد الله بن علي إلينا كنت [1] المطلوب من بين الجماعة لأني كنت ولي عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار، ثم دعوت عشرة من غلماني، كل واحد على دابة، ودفعت إلى كل غلام ألف دينار، وأوقرت خمسة أبغل فرشا، وشددت في وسطي جوهرا له قيمة مع ألف دينار، وخرجت هاربا إلى بلد النوبة، فسرت فيها ثلاثا فوقعت إلى مدينة خراب، فأمرت الغلمان فعدلوا إليها فكسحوا منها ما كان قذرا، ثم فرشوا بعض تلك الفرش، ودعوت غلاما لي كنت أثق بعقله، فقلت: انطلق إلى الملك، فأقرئه مني السلام، وخذ منه الأمان وابتع لي ميرة.
قال: فمضى ثم أنه أبطأ علي [حتى] [2] سؤت ظنا، ثم أقبل ومعه رجل آخر، فلما دخل كفر لي ثم قعد بين يدي، فقال لي: الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: من أنت وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب لي؟ أم راغب إلي؟ أم مستجير بي؟ قلت له: رد على الملك السلام وقل له: أما محارب لك فمعاذ الله، أما راغب في دينك فما كنت لأبغي بديني بدلا، وأما مستجير بك فلعمري.
قال: فذهب ثم رجع إلي فقال: إن الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: أنا صائر إليك غدا، فلا تحدثن في نفسك حدثا ولا تتخذ شيئا من ميرة فإنها تأتيك وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة فأمرت غلماني ففرشوا ذلك الفرش كله، وأمرت بفرش لي، فنصب لي وله مثله، وارتقبت في غد مجيئه [3] ، فبينا أنا كذلك أقبل غلماني يخطرون [4] ، وقالوا: إن الملك قد أقبل، فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر إليه، فإذا أنا برجل قد لبس بردتين ائتزر بإحداهما وارتدى بالأخرى، حاف راجل، وإذا عشرة معهم الحراب ثلاثة يقدمونه، وسبعة خلفه، وإذا الرجل الموجه إلى جنبه [5] ،فاستصغرت أمره وهان علي لما رأيته في تلك الحال، وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب من الدار إذا بسواد عظيم، فقلت: ما هذا السواد؟ فقيل: الخيل فوافى يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف عنان، فكانت موافاة الخيل إلى الدار وقت دخوله، فأحدقوا بها، ثم دخل إلي فلما نظر إلي [1] قال لترجمانه: أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إلي، فلما نظر إلي وثبت إليه، فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره، وجعل يدفع ما على الفسطاط برجله فشوش الفرش، فظننت أن ذلك شيء يجلونه أن يطأ على مثله، حتى انتهى إلى الأرض، فقلت لترجمانه: سبحان الله، لم لا يصعد على الموضع الذي وطئ له؟ فقال: قل له إني ملك وكل ملك حقه أن يكون متواضعا لعظمة الله سبحانه إذ رفعه الله، ثم أقبل ينكث بإصبعه الأرض طويلا، ثم رفع رأسه فقال لي: كيف سلبتم هذا الملك وأخذ منكم وأنتم أقرب إلى نبيكم؟ فقلت: جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فسلبنا وطردنا، فخرجت إليك مستجيرا باللَّه عز وجل ثم بك، قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: فعل ذلك عبيد وأتباع دخلوا في ملكنا من غير رأينا، قال: فلم كنتم تركبون وعلى دوابكم الذهب والفضة، وتلبسون الديباج وقد حرم ذلك عليكم؟ قلت: عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا في مملكتنا [من غير رأينا] [2] قال: فلم كنتم أنتم إذا خرجتم إلى صيدكم عبرتم [3] على القرى وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تموشوا زروعهم فتفسدوها في طلب دراج قيمته درهم أو في عصفور قيمته لا شيء، والفساد محرم عليكم في دينكم؟
قلت: عبيد وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم، وأتيتم ما نهاكم عنه، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل، وللَّه فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوف أن تنزل بك النقمة من الظلمة فتشملني معك، وإن النقمة إذا نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث فإنني إن أخذتك بعدها أخذت جميع ما معك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب فخرج.
فأقمت ثلاثا وخرجت إلى مصر فأخذني وليك فبعث بي إليك، وها أنا ذا والموت أحب إلي من الحياة. فهم أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: يترك في دار من دورنا ويجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فو الله ما أدري أمات في حبسه أم أطلقه المهدي.
وروى الحسن بن جعفر عن أبيه، قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفى رجال من بني أمية، وكان فيمن اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، حتى أخذ له داود بن علي بن عبد الله أمانا من أبي العباس، فقال له أبو العباس يوما: حدثني عما مر بك في اختفائك فقال: كنت يا أمير المؤمنين مختفيا بالحيرة في منزل شارع على الصحراء [1] . فبينا أنا ذات يوم على ظهر بيت نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعي أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكرا حتى دخلت الكوفة ولا أعرف بها أحدا أختفي عنده، فدخلت متلددا، فإذا أنا بباب كبير ورحبة واسعة، فدخلت الرحبة، فجلست فيها، فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة مع جماعة من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت: رجل مختف يخاف على دمه واستجار بمنزلك، قال: فأدخلني منزله ثم سيرني في حجرة تلي حرمه، فمكثت عنده حولا في كل ما أحب من مطعم ومشرب وملبس، لا يسألني عن شيء من حالي، ويركب في كل يوم ركبة، فقلت له يوما: أراك تدمن الركوب، ففيم ذاك؟ قال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا، وقد بلغني أنه مختف، فأنا أطلبه لأدرك ثأري فكثر تعجبي من إدبارنا إذ ساقني القدر إلى الاختفاء في منزل من يطلب دمي وكرهت الحياة، وسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه، فأخبرني بهما، فعلمت أني قتلت أباه، فقلت: يا هذا، قد وجب علي حقك، ومن حقك أن أقرب عليك الخطوة، قال:
وما ذاك؟ فقلت: أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثأرك، فقال: أحسب أنك رجل قد مضه الاختفاء فأحب الموت، فقلت: بل الحق، قلت: قتلته يوم كذا وكذا بسبب كذا وكذا، فلما عرف أني صادق تربد وجهه واحمرت عيناه، وأطرق مليا ثم قال: أما أنت فستلقى أبي فيأخذ حقه منك، وأما أنا فغير مخفر ذمتي فاخرج عني فلست آمن نفسي عليك، وأعطاني ألف دينار، فلم أقبلها وخرجت من عنده، فهذا أكرم رجل رأيته.

وقد روينا أن مرية [1] زوجة مروان بن محمد استأذنت على الخيزران، وعندها زينب [بنت] [2] سليمان بن علي الهاشمي، فلما دخلت قالت زينب: الحمد للَّه الذي أزال نعمتك وصيرك عبرة، تذكرين يا عدوة الله حين أتاك أهل بيتي يسألونك أن تكلمي أصحابك في أموال إبراهيم بن محمد فلقيتيهن ذلك اللقاء، وأخرجتيهن ذلك المخرج، فضحكت، وقالت: أي بنت عم، أي شيء أعجبك من حسن صنيع الله بي على ذلك حتى أردت أن تتأسي بي فيه، ثم ولت خارجة.
وفي هذه السنة [3] : خلع أبو الورد، واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي، وهو من أصحاب مروان وفرسانه وقواده، خلعه أبو العباس السفاح. وذلك أنه لما هزموا بقنسرين جاء إلى عبد الله بن علي فبايعه، ودخل فيما دخل فيه جنده من الطاعة، فجاء قائد من قواد عبد الله بن علي، فعبث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم، وكانوا مجاورين لأبي الورد، فخرج حتى هجم على ذلك القائد فقتله ومن معه، وأظهر الخلع وبيض، ودعا أهل قنسرين إلى ذلك فأجابوه وأبو العباس يومئذ بالحيرة، فلما بلغ عبد الله بن علي ذلك خرج متوجها إلى قنسرين للقاء أبي الورد، فلما قدم حمص إذا أهل قنسرين قد بيضوا ونهضوا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة، وانتهبوا ما كان عبد الله بن علي خلفه من ثقل ومتاع، واجتمع مع أبي الورد جماعة من أهل قنسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف وعليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وقالوا [4] : هو السفياني الذي كان يذكر وهم في نحو من أربعين ألفا- فلما دنا منهم عبد الله بن علي، وأبو محمد معسكر في جماعتهم، وأبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبر له، وهو صاحب الحرب- وجه عبد الله بن علي عبد الصمد في عشرة آلاف، فناهضهم أبو الورد واستحر القتل في الفريقين، وثبت القوم وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم يومئذ ألوف، وجاء عبد الصمد إلى عبد الله بن علي، فنهض إليهم عبد الله ومعه حميد بن قحطبة وجماعة من القواد، فالتقوا ثانية فاقتتلوا قتالا شديدا، وانكشف جماعة ممن كان مع عبد الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بن قحطبة، فهزموهم وثبت أبو الورد في نحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا وذلك في ذي الحجة، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين، وسودوا وبايعوا، ودخلوا في طاعته، ثم مضى إلى أهل دمشق فهرب الناس وتفرقوا، فلم يكن [بينهم] [1] وقعة، وآمن أهلها فبايعوه، ولم يؤاخذهم بما كانوا فعلوا.
فأما أبو محمد فلحق بأهل الحجاز، فوجه إليه زياد بن عبيد الحارثي عامل أبي جعفر على المدينة خيلا، فقاتلوه حتى قتل.
وفي هذه السنة: خلع حبيب بن مرة، وبيض هو ومن معه من أهل الشام، وكان تبيض هذا قبل تبيض أبي الورد، وإنما بيض أبو الورد وعبد الله مشتغل بقتال حبيب، وإنما بيض حبيب خوفا على نفسه وقومه، فبايعته قيس وغيرهم من أهل ذلك الكور، البثنية وحوران. فلما بلغ عبد الله بن علي تبييض أهل قنسرين، دعا حبيبا إلى الصلح، فصالحه وآمنه، ثم خرج متوجها للقاء أبي الورد، وفعل به ما فعل.
وفي هذه السنة: بيض أهل الجزيرة [2] ، وخلعوا أبا العباس. وإنما فعلوا هذا حين بلغهم خروج أبي الورد ونقض أهل قنسرين، ثم استقام أهل الجزيرة وأهل الشام.
وولى أبو العباس أبا جعفر [المنصور] [3] الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل على ذلك حتى استخلف.
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي نصر الحميدي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة القاضي القضاعي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن، عن أبيه، قال: أخبرني بعض الهاشميين قال:
كنت جالسا عند المنصور بأرمينية وهو أميرها لأخيه أبي العباس وقد جلس للمظالم، فدخل عليه رجل فقال: إن لي مظلمة، وإني أسألك أن تسمع مني مثلا أضربه قبل أن أذكر مظلمتي، قال: قل، قال: إني وجدت الله تبارك وتعالى اسمه خلق الخلق على طبقات، فالصبي إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلب غيرها فإن فزع من شيء لجأ إليها، ثم يرتفع عن ذلك طبقة فيعرف أن أباه أعز من أمه، فإن أفزعه شيء لجأ إلى أبيه، ثم يبلغ فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به منه، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه فاستنصره، وقد كنت في هذه الطبقات، وقد ظلمني ابن نهيك في ضيعة لي في ولايته، فإن نصرتني عليه وأخذت لي بمظلمتي وإلا استنصرت الله عز وجل ولجأت إليه، فانظر لنفسك أيها الأمير أودع، فتضاءل أبو جعفر وقال: أعد علي الكلام، فأعادة، فقال: أما أول شيء فقد عزلت ابن نهيك من ناحيته، وأمر برد ضيعته.
وفي هذه السنة [1] : شخص أبو جعفر المنصور إلى أبي مسلم بخراسان لاستطلاع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان. وذلك أن أبا سلمة ستر حال أبي العباس حين قدم الكوفة.
وقد ذكرنا أن قوما يذكرون ويقولون: إنما أراد أن يجعل الأمر في آل أبي طالب، فصار عند القوم بهذا متهما، فتذاكروا بعد ظهور السفاح ما فعله أبو سلمة، فقال قائل منهم: فما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم، فقال أبو العباس:
لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا بعرض بلاء، إلا أن يدفعه الله عنا. ثم تفرقوا، فأرسل أبو العباس إلى أبي جعفر فقال: ما ترى؟ فقال: الرأي رأيك، قال: فاخرج إلى أبي مسلم حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفي عليك لو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا [2] لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت نفوسنا.
قال أبو جعفر: فخرجت على وجل، فلما انتهيت إلى الري إذا صاحب الري قد أتاه كتاب أبي مسلم: أنه بلغني أن عبد الله بن محمد توجه إليك فإذا قدم فأشخصه ساعة يقدم عليك. فلما قدمت أتاني عامل الري، فأخبرني بكتاب أبي مسلم وأمرني بالرحيل، فازددت وجلا وخرجت وأنا خائف، فسرت فلما كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه يقيم فإن الأرض أرض خوارج ولا آمن عليه، فطابت نفسي وقلت: أراه يعني بأمري. فسرت فلما كنت من مرو على فرسخين تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا مني أقبل يمشي إلي حتى قبل يدي، فقلت: اركب، فركب. فدخلت مرو فنزلت دارا، فمكثت ثلاثة أيام لا يسألني عن شيء، ثم قال لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو سلمة أنا أكفيكموه. ثم دعا مرار بن أنس الضبي، فقال له: انطلق إلى الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته وانته في ذلك إلى رأي الإمام، فقدم مرار الكوفة، وكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد له في طريقه فلما خرج قتله، وقالوا: قتلته الخوارج.
وقال سليمان بن المهاجر [1] :
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وكان أبو مسلم إذا جاء إلى أبي جعفر وهو بالري ينزل على باب الدار ثم يجلس في الدهليز ويقول للحاجب: استأذن لي، فغضب أبو جعفر على حاجبه، وقال له:
ويلك إذا رأيته فافتح له الباب وقل له يدخل على دابته. وانصرف أبو جعفر إلى أبي العباس، فقال له: لست خليفة ولا آمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قال:
وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما يريد، فقال أبو العباس: اسكت واكتمها.
وفي هذه السنة: وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة.
وقد سبق ذكرنا حال يزيد بن عمر بن هبيرة مع الجيش الذين لقوه من [أهل] [2] خراسان مع قحطبة، ثم ابنه الحسن إلى أن انهزم ولحق بواسط وتحصن بها. ولما انهزم تفرق عنه الناس، وخلف على الأثقال قوما، فذهبوا بتلك الأموال، فقيل له: لو لحقت بمروان فإنه ليس بعد الحصار إلا القتل، وكان يخاف من مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه، فخافه إن قدم عليه أن يقتله فسرح أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق وخرج ابن هبيرة للقتال واقتتلوا ثم تحاجزوا ثم اقتتلوا بعد أيام، فهزم أهل الشام هزيمة قبيحة، فدخلوا المدينة فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رميا من وراء الفصيل، ومكثوا على القتال أحد عشر شهرا، فلما طال عليهم وجاءهم قتل مروان طلبوا الصلح. وكان أصحاب ابن هبيرة قد تقاعدوا به حتى هم أن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن، وكتب إليه فأبطأ جوابه، وجرت السفراء بين أبي جعفر وبين ابن هبيرة حتى جعل له أمانا، وكتب بذلك ابن هبيرة كتابا مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أرسله إلى أبي جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه، وكان رأى أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه.
وكان أبو العباس لا يقطع أمرا دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عينا لأبي مسلم على أبي العباس [1] ، يكتب إليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله لا يصلح [2] طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تم الكتاب الذي كتبه ابن هبيرة لنفسه خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة، فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب سلام بن سليم، فقال: مرحبا بك أبا خالد، انزل راشدا، وقد طاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة فجلس عليها، ثم دعا بالقواد فدخلوا ثم قال سلام: ادخل أبا خالد، فقال: أنا ومن معي؟ فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل فحادثه ساعة ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه، ثم مكث يقيم عنه يوما ويأتيه يوما في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل، فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيها الأمير، إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر، وما نقص من سلطانه شيء، فقال أبو جعفر لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في حاشيته، قال: فلما سمع ذلك تغير وجهه وجاء في حاشيته نحو من ثلاثين، ثم كان بعد ذلك يأتي في ثلاثة، ثم ألح أبو العباس على أبي جعفر [يأمره] [1] بقتله، وهو يراجعه، حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله. فأزمع على قتله، فأخذ جماعة من أصحابه فقتلهم، ثم بعث إليه من قتله.
وفيها: بعث أبو مسلم [2] محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.
وفيها: عزل أبو العباس عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها، وولاه مكة، والمدينة، واليمن واليمامة، وولى ما كان إليه عيسى بن موسى، واستقضى عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وفيها: وجه أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله واليا على الموصل.
وفيها: حج بالناس داود بن علي، وكان العامل على مكة والمدينة واليمن، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى كور الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد، وكان على البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطأة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.







مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید