المنشورات

قتل أَبُو مسلم.

وَكَانَ سبب ذلك أن أبا مسلم كَانَ قَدْ كتب إِلَى أبي الْعَبَّاس يستأذنه فِي الحج فِي سنة ست وثلاثين، وإنما أراد أن يصلي بالناس فأذن لَهُ، وكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أبي جعفر وَهُوَ على الجزيرة: أن أبا مسلم سألني الحج فاكتب إلي تستأذنني فِي ذلك، فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك، فكتب إِلَيْهِ، فأذن لَهُ. فَقَالَ أَبُو مسلم: أما وجد أَبُو 3/ أجعفر عاما يحج فِيهِ/ غير هَذَا!! واضطغنها عليه، فخرجا فكان أَبُو مسلم يصلح العقاب، ويكسو الأعراب فِي كل منزل، ويصل كل من سأله، وحفر الآبار، وسهل الطريق، وَكَانَ الصيت له.
فلما صدر الناس عَنِ الموسم نفر أَبُو مسلم قبل [1] أبي جعفر فتقدمه، فأتاه كتاب بوفاة أبي الْعَبَّاس واستخلاف أبي جعفر، فكتب إِلَى أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة، ولم يقم لَهُ حَتَّى يلحقه، فغضب أَبُو جعفر فَقَالَ لأبي أيوب: اكتب إِلَيْهِ كتابا غليظا. فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إِلَيْهِ يهنئه بالخلافة. فَقَالَ يزيد بْن أبي أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه فِي الطريق والناس لَهُ أطوع، وليس معك أحد فأخذ برأيه، فكان يتأخر ويتقدم أَبُو مسلم، وما كَانَ فِي عسكر أبي جعفر غير ستة أدرع، فمضى أَبُو مسلم إِلَى الأنبار، ودعا عيسى بْن موسى أن يبايع لَهُ، فأبى عيسى، فقدم أَبُو جعفر فنزل الكوفة، فأتاه خروج عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ إِلَى الأنبار، وعقده لأبي مسلم وَقَالَ:
سر إِلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو مسلم: إن عَبْد الجبار بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، وصالح بْن الهيثم يعيبانني فاحبسهما. فَقَالَ أَبُو جعفر: إن عَبْد الجبار على شرطي. وَكَانَ على شرط [2] أبي الْعَبَّاس وصالح بْن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما. فَقَالَ: أراهما آثر عندك مني. فغضب أَبُو جعفر. فَقَالَ أَبُو مسلم: لم أرد كل هَذَا.
وَقَالَ رجل لأبي أيوب: إني قَدِ ارتبت بأبي مسلم، يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه، ثُمَّ يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إِلَى أبي نصر مالك بْن الهيثم فيقرأه ويضحك [3] استهزاء!؟ فَقَالَ أَبُو أيوب: نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعَبْد الله بن علي، إلا أنا نعلم أن أَهْل خراسان لا يحبون عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وقد قتل منهم من قتل.
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ أصاب من عسكر عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ متاعا كثيرا وجوهرا كثيرا، فبعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب/ ليحصي ذلك، فغضب وافترى عليه، وهمّ بقتله، 3/ ب فقيل لَهُ: إنما هو رَسُول. فلما قدم به أَبُو الخصيب على أبي جعفر أخبره [4] .
وقيل: إنما بعث إِلَيْهِ يقطين بْن موسى بذلك، فَقَالَ أَبُو مسلم: يا يقطين، أمين على الدماء جائر فِي الأموال. وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين، فكتب إِلَى أبي مسلم مَعَ يقطين: إني قَدْ وليتك مصر والشام، وهي خير من خراسان، فوجّه إلى مصر من أحببت،وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قرب. فلما أتاه الكتاب غضب وَقَالَ: هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي! وعزم على المضي إِلَى خراسان مجمعا على ذلك، فكتب بذلك يقطين إِلَى أبي جعفر.
وخرج أَبُو جعفر من الأنبار إِلَى المدائن، وكتب إِلَى أبي مسلم فِي المصير إِلَيْهِ، فكتب أَبُو مسلم، وقد نزل الزاب وَهُوَ على الرواح إِلَى طريق حلوان: قَدْ كنا نروي عَنْ ملك آل ساسان أن أخوف مَا يكون من الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عَبْد لك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت مَا أبرمت من عهدك، ضنا بْنفسي.
فلما وصل الكتاب إِلَى المنصور كتب [إِلَى أبي مسلم: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم] [1] الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم فِي انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم، وأنت [في] [2] طاعتك ومنا صحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء [3] هَذَا الأمر على مَا أنت به! وقد حمل إليك أمير المؤمنين عيسى بْن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، وأسأل اللَّه أن يحول بين السلطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه [4] من الباب الَّذِي فتحه عَلَيْك.
ثُمَّ إن أبا جعفر وجه إِلَى أبي مسلم جرير بْن يزيد بْن جرير بن عبد الله البجلي، 4/ أوكان واحد أَهْل زمانه/، فخدعه ورده.
قَالَ جرير: نزلت معه جسر النهروان فتغدينا، فَقَالَ: أين أمير المؤمنين؟ قلت:
بالمدائن. قَالَ: فِي أي المواضع؟ قلت: فِي صحراء. قَالَ: فما اسم الموضع؟ قلت:
رومية. فأطرق طويلا ثُمَّ قَالَ: سر ولا حول [5] ولا قوة إلا باللَّه.
قَالَ جرير: وقد كَانَ قيل لَهُ إنك تقتل أو تموت برومية. فظنها بلاد الروم. ثُمَّ قَالَ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [1] ذهبت والله نفسي بيدي. ثُمَّ جعل يخاطب نفسه ويقول:
يا أبا مُسْلِم، فتح لك من باب المكايد فِي عدوك وصديقك مَا لم يفتح لأحد حَتَّى إذا دان لك من بالمشرق والمغرب، خدعك عَنْ نفسك من كَانَ يهاب بالأمس من ينظر إليك إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [2] .
ثُمَّ تمثل:
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت عند الناس عار [3]
فأقبل وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه، وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ عيسى بن موسى، فحلف له بعتق كل مملوك لَهُ، وصدقة كل مَا يملك، وطلاق نسائه، وَقَالَ: لو خير المنصور بين موت أبيه وموتك لاختار موت أبيه، فإنه لا يجد منك خلفا.
فأقبل معه، فلما دخل أَبُو مسلم المدائن قَالَ لعيسى بْن موسى: تدري مَا مثلي ومثلك ومثل عمك؟ مثل ثلاثة نفر كانوا فِي سفر فأتوا على عظام نخرة، فَقَالَ أحدهم:
عندي طب إذا رأيت عظاما متفرقة ألفتها. فَقَالَ الثاني: وأنا إذا رأيت عظاما موصولة كسوتها لحما. فَقَالَ الثالث: وأنا إذا رأيت عظاما مكسوة لحما أجريت فِيهَا الروح.
ففعلوا ذلك، فإذا الَّذِي أحيوه أسد، فَقَالَ الأسد فِي نفسه: مَا أحياني هؤلاء إلا وهم على أن يميتوني أقدر. فوثب عليهم فأكلهم، والله ليقتلني وليقتلن عمك، وليخلعنك أو ليقتلنك.
وفي رواية: أن أبا مسلم كتب إِلَى أبي جعفر: أما بعد، فإني اتخذت رجلا إماما، فحرف القرآن عَنْ مواضعه طمعا فِي قليل قَدْ بغاه اللَّه عز وجل/ إلى خلقه، فكان كالذي 4/ ب ولي بغرور، فأمرني أن أجرد السيف، وأن أرفع الرحمة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطئة لسلطانك حَتَّى عرفكم من كَانَ يجهلكم، ثُمَّ استنقذني اللَّه بالتوبة، فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إِلَيْهِ، وإن يعاقبْني فبما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال [1] : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حدثنا المعافى بن زكريا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيى الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا المغيرة بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الوهاب قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن المعافى [2] قَالَ: كتب أَبُو مسلم إِلَى المنصور حين استوحش منه:
أما بعد، فقد كنت اتخذت أخاك إماما وجعلته على الدين دليلا وللوصية التي زعم أنها صارت إِلَيْهِ، فأوطأني عشوة الضلالة، وأوثقني موثقة الفتنة [3] ، وأمرني أن آخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم اللَّه صونها، وسفكت دماء فرض اللَّه حقنها، وزويت الأمر عَنْ أهله، ووضعته منه فِي غير محله، فإن يعف اللَّه عني فبفضل منه، وإن يعاقب فبما كسبت يداي، وما اللَّه بظلام للعبيد. ثُمَّ أنساه اللَّه هَذَا- يعني أبا مُسْلِم- حَتَّى جاءه فقتله.
وفي رواية: أن أبا مسلم خرج يريد خراسان، مراغما مشاقا [4] ، فلما دخل أرض العراق وارتحل المَنْصُور من الأنبار، فأقبل حَتَّى نزل المدائن، وأخذ أَبُو مسلم طريق حلوان، فقيل لأبي جَعْفَر أخذ طريق حلوان، فَقَالَ: رب أمر للَّه دون حلوان [5] .
وَقَالَ أَبُو جعفر لعيسى بْن عَلِيّ وعيسى بْن موسى ومن حضره من بْني هاشم [6] :
اكتبوا إِلَى أبي مسلم. فكتبوا إِلَيْهِ يعظمون أمره ويشكرونه على مَا كَانَ منه من الطاعة، ويحذرونه عاقبة الأمر، ويأمرونه بالرجوع إِلَى أمير المؤمنين، وأن يلتمس رضاه، / 5/ أوبعث أَبُو جعفر بذلك مَعَ أبي حميد المروزي وَقَالَ لَهُ: كلم أبا مسلم بألين مَا يكلم به أحد، ومنه، وأعلمه إني رافعه وصانع به مَا لم يصنعه به أحد إن هو صلح [7] وراجع ما أحب، فإن أبى أن يرجع فقل لَهُ: يَقُول لك أمير المؤمنين لست للعباس، وأنا بريء من مُحَمَّد، إن مضيت مشاقا ولم تأتني، إن وكلت أمرك إِلَى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بْنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حَتَّى أقتلك أو أموت قبل ذلك، ولا تقولن لَهُ هَذَا الكلام حَتَّى تيأس من رجوعه، ولا تطمع منه فِي خير.
فسار أَبُو حميد فِي مأمن من أصحابه ممن يثق بهم، حَتَّى قدموا على أبي مسلم بحلوان، فدخل عليه أَبُو حميد، فدفع إِلَيْهِ الكتاب وَقَالَ لَهُ: إن الناس يبلغونك عَنْ أمير المؤمنين مَا لم يقله، وخلاف مَا عليه رأيه فيك، حسدا وبغيا، يريدون إزالة هَذِهِ النعمة وتغييرها، فلا تفسد مَا كَانَ منك، وإنك لم تزل أمين آل مُحَمَّد، يعرفك بذلك الناس، وما ذخر اللَّه لك من الأجر عنده أعظم مما أنت فِيهِ من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان.
فَقَالَ لَهُ أَبُو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا؟ فَقَالَ: لأنك دعوتنا إِلَى هَذَا وإلى طاعة أَهْل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، وقلت: إن خالفتكم فاقتلوني.
فعند ذلك أقبل [1] أَبُو مسلم على أبي نصر فَقَالَ: يا مالك، أما تسمع مَا يَقُول لي هَذَا، مَا هَذَا بكلامه. فَقَالَ: لا تسمع قوله، فما هَذَا بكلامه، وما بعد هَذَا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع فِي نفسه منك شيء لا يأمنك [2] أبدا. فَقَالَ أَبُو مسلم: قوموا. وأرسل إِلَى نيزك فَقَالَ: مَا ترى؟ فَقَالَ: مَا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتي الري، فتقيم بها، فيصير مَا بين خراسان والري لك، وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت لَهُ، وإن/ أبي كنت في جندك، وكانت 5/ ب خراسان من ورائك، فرأيت رأيك.
فدعا أبا حميد فَقَالَ: ارجع إِلَى صاحبك، فليس من رأي أن آتيه. فَقَالَ: قَدِ اعتزمت على خلافه. قَالَ: لا تفعل. قَالَ: مَا أريد أن ألقاه. فلما آيسه من الرجوع قَالَ لَهُ: مَا أمره أَبُو جعفر أن يقوله. فوجم طويلا ثُمَّ قَالَ: قم. فكسره ذلك القول وأرعبه.
وَكَانَ أَبُو جعفر قَدْ كتب إِلَى أبي داود وَهُوَ خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا مُسْلِم: إن لك إمرة خراسان مَا بقيت. فكتب أَبُو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج بمعصية خلفاء اللَّه وأهل بيت نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال فزاده رعبا وهما، فأرسل إِلَى أبي حميد وإلى مالك فَقَالَ لهما:
إني قد كنت عازما على المضي إِلَى خراسان، ثُمَّ رأيت أن أوجه أبا إسحاق إِلَى أمير المؤمنين، فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به، وَكَانَ صاحب حرس أبي مسلم، فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل مَا يحب، وَقَالَ لَهُ أَبُو جعفر: اصرفه عَنْ وجهه، ولك ولاية خراسان، وأجازه.
فرجع أَبُو إسحاق إِلَى أبي مسلم فَقَالَ لَهُ: مَا أنكرت شيئا، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك مَا يرون لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إِلَى أمير المؤمنين فيعتذر إِلَيْهِ مما كَانَ منه، فاجمع على ذلك، فَقَالَ لَهُ نيزك: قَدْ أجمعت على الرجوع؟ قَالَ: نعم.
وتمثل:
مَا للرجال مَعَ القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام
فَقَالَ: أما إذا اعتزمت على هَذَا فخار اللَّه لك، احفظ عني واحدة: إذا دخلت عليه فأقتله ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك.
فكتب أَبُو مسلم إِلَى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إِلَيْهِ، فبينا كتاب أبي مسلم بين 6/ أيدي أبي جعفر إذ دخل عليه أَبُو أيوب، فرمى أَبُو جعفر إِلَيْهِ بالكتاب، فقرأه فَقَالَ/ والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. فاغتم أَبُو أيوب وَقَالَ فِي نفسه: لئن قتله لا يترك أصحابه أحدا ممن يتعلق بأبي جعفر حيا.
وَقَالَ إسحاق الموصلي: لما عزم المنصور على الفتك بأبي مسلم هاب ذلك عمه عيسى بْن عَلِيّ، فكتب إِلَيْهِ يَقُول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
فوقع المنصور فِي كتابه:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تهمل الأعداء يوما بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
قَالَ أَبُو إسحاق: والشعر للمنصور.
ثُمَّ سار أَبُو مسلم، فلما دنا من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه، فدخل أَبُو جَعْفَر: أَخْبَرَنِي عَنْ نصلين أصبتهما فِي متاع عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ. فَقَالَ: هَذَا أحدهما الَّذِي علي. قَالَ: أرنيه. فانتضاه وناوله إياه، فهزه أَبُو جعفر ثُمَّ وضعه تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه. فَقَالَ لَهُ: اخترناك وأنت لا تدري أية بيضة انفقأت عَنْ رأسك، ولا من أي وكر نهضت، خامل ابْن خامل، فل ابْن فل، ذل ابْن ذل، عشت أيام حداثتك، وخير يوميك، يوم تشتري فيه لعاصم بن يونس إزار قدره. ومكشحة داره، فرقأنا بك المنابر، ووطئنا أعناق العرب والعجم عقبيك، أَخْبَرَنِي عَنْ كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن 7/ أالموات، أردت أن تعلمنا الدين. قَالَ: ظننت أخذه/ لا يحل، فكتب إلي، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم. قَالَ: فأخبرني عَنْ تقدمك إياي فِي الطريق؟ قَالَ: كرهت اجتماعنا على الماء، فيضر ذلك بالناس، فتقدمت التماس الرفق. قَالَ: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي الْعَبَّاس لمن أشار عَلَيْك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى رأينا، ومضيت، فلا أنت أقمت حَتَّى ألحقك ولا أنت رجعت إلي؟
قَالَ: منعني مَا أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت: نقدم الكوفة. قَالَ: فجارية عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، أردت أن تتخذها؟ قَالَ: لا، ولكن خفت أن تضيع فحملتها فِي قبة ووكلت بها من يحفظها. قَالَ: فمراغمتك وخروجك إِلَى خراسان؟ قَالَ: خفت أن يكون قَدْ دخلك مني [شيء] [1] ، فقلت: آتي خراسان، فأكتب إليك بعذري، ولو رأينا ذهب مَا فِي نفسك علي؟ قَالَ: تاللَّه مَا رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبا. قَالَ: ليس يقال لي هَذَا بعد بلائي، وما كَانَ مني؟ قَالَ: يا ابْن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت مَا عملت فِي دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، ألست الكاتب إلي تبدأ بْنفسك!؟ ألست تخطب أمينة بْنت علي، وتزعم أنك ابْن سليط بْن عَبْد اللَّه بْن عباس، لقد ارتقيت- لا أم لك- مرتقى صعبا.
وأخذ يعتذر وأبو جعفر يعاتبه، إِلَى أن قَالَ أَبُو مسلم: دع هَذَا، فما أصبحت أخاف أحدا إلا اللَّه. فغضب وشتمه وضربه بعمود، وصفق بيديه، فخرجوا عليه، فضربه عثمان فلم يصنع شيئا، لم يزد على قطع حمائل سيفه، وضربه آخر فقطع رجله، فصاح المنصور: اضربوا قطع اللَّه أيديكم. فَقَالَ أَبُو مسلم فِي أول ضربة: استبقني لعدوك.
7/ ب فَقَالَ: وأي عدو أعدى إلي منك!؟ فصاح: العفو. / فقال المنصور: يا ابن اللخناء،العفو والسيوف قَدِ اعتورتك [1] ؟! ثُمَّ قَالَ: اذبحوه، فذبحوه، وجاء عيسى بْن موسى فَقَالَ: أين أَبُو مسلم؟ فَقَالَ: مدرج فِي الكساء. فَقَالَ: إنا للَّه، وجعل يلطم ويقول:
أحنثتني فِي أيماني، وأهلكتني. فَقَالَ لَهُ: علي لكل شيء تخرجه ضعفاه، ويحك اسكت، فما تم سلطانك ولا أمرك إلّا اليوم. ثُمَّ رمى به فِي دجلة. وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة [2] .
وَقَالَ المنصور:
زعمت أن الَّذِي لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقي بها ... أمر فِي الحلق من العلقم
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ قتل في دولته ستمائة ألف صبرا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حَدَّثَنَا المعافى قَالَ: حَدَّثَنَا الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا الغلابي قال:
حدّثنا يعقوب، عَنْ أبيه قَالَ [3] : خطب المنصور بالناس بعد قتل أبي مسلم فَقَالَ: أيها الناس، لا تنفروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة، فإن أحدا لا يسر منكرا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه، [وطوالع نظره] [4] وإنا لن نجهل حقوقكم مَا عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم مَا ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص [5] أوطأنا أمّ رأسه خبئ هَذَا الغمد، وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا، أو أضمر غشا لنا فقد أبحنا دمه [6] ، ومكث وغدر وفجر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا.
قَالَ علماء السير: ثُمَّ إن أبا جعفر هم بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم، وبقتل نصر بن مالك- وَكَانَ على شرط أبي مسلم [7]- فكلمه أبو الجهم وقال: يا أمير خراسان فَقَالَ: نعم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كانت لَهُ عندي أياد وصنائع، فاستشارني/ 8/ ب فنصحته، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك [1] وشكرت. فعفا عنه [2] .
وفي رواية: أن المنصور كتب إِلَى عامل أصبهان: للَّه دمك إن فاتك- يعني أبا نصر فأخذه وأوثقه وبعثه إِلَيْهِ فصفح عنه [3] .
وقد كَانَ أَبُو الجهم بْن عطية أحد النقباء، وَكَانَ عينا لأبي مسلم على المنصور، فلما اتهمه المنصور طاوله يوما بالحديث حَتَّى عطش، فاستسقى ماء فدعي لَهُ بسويق لوز ممزوج بالسكر، وفيه سم، فشربه، فلما استقر فِي جوفه أحس بالموت، فوثب مسرعا فَقَالَ لَهُ: إِلَى أين؟ قَالَ: إِلَى حيث أرسلتني. فرجع إِلَى رحله فمات. فَقَالَ الشاعر:
تجنب سويق اللوز لا تقربْنه ... فشرب سويق اللوز أودى أبا الجهم
وذهبت «شربة أبي الجهم» مثلا للشيء الطيب الطعم الخبيث العاقبة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَلِيّ بْن أَحْمَد بْن سعيد الحافظ: إن المنصور كَانَ يَقُول: ثلاث كن فِي صدري شفى اللَّه منها: كتاب أبي مسلم إلي وأنا خليفة: عافانا اللَّه وإياك من السوء، ودخول رسوله علينا وقوله: أيكم ابْن الحارثية؟ وضرب سليمان بْن حبيب ظهري بالسياط.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: كَانَ سليمان قَدِ استعمل المنصور على بعض كور فارس قبل أن تصير الخلافة إِلَى بْني الْعَبَّاس، فاحتجز المال لنفسه، فضربه سليمان بالسياط ضربا شديدا وأغرمه المال، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید