المنشورات

عَبْد اللَّهِ بْن المقفع

كَانَ فصيح العبارة، جيد الكلام، وله: «اليتيمة» كتاب فيه آداب حسان.
فمن ذلك/ أنه قَالَ [فِيهِ] [1] : يا طالب العلم والأدب اعرف الأصول والفصول، 25/ أفإن من الناس من يطلب الفصول مَعَ إضاعة الأصول، فلا تكون دركهم دركا، ومن أحرز الأصول اكتفى بها من الفصول، فإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل، وأفضل الأمر أن تعقد على الإيمان، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة، فإن قدرت أن تجاوز إِلَى الفقه والعبادة، فهو أفضل، وأصل الأمر فِي إصلاح البدن أن لا يحمل عليه من المآكل والمشارب والباءة إلا خفا، ثُمَّ إن قدرت أن تعلم عَنْ جميع منافع الجسد ومضاره فهو أفضل. وأصل الأمر فِي المعيشة أن لا تني عَنْ طلب الحلال، وتحسن التقدير لما تفيد وتنفق، ولا تغرنك سعة تكون فِيهَا، فإن أعظم الناس خطرا أحوجهم إِلَى التقدير، والملوك أحوج الناس إِلَيْهِ من السوقة، فإن السوقة قَدْ يعيشون بغير مال، والملوك لا قوام لهم إلا بالمال.
وإن ابتليت بالسلطان فتغوث بالعلماء، واعلم أن قائل المدح كمادح نفسه، والراد لَهُ ممدوح، والقائل لَهُ معيب، إنك إن تلتمس رضا الناس تلتمس مَا لا يدرك، فعليك بالتماس رضا الأخيار ذوي العقول، احرص الحرص كله على أن تكون خابرا بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن يصيبه وقعك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك، تعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك، إنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
واعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء، فدعه للمهم، فإن مالك لا يغني الناس كلهم، فاخصص به أهل الحق، وكرامتك لا تطيق العامة، فتوخ بها أَهْل الفضل.
واعلم [2] إنما شغلت من رأيك فِي غير [3] المهم أزرى بك فِي المهم، ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته، ولا/ أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد عَلَى استكراهه 25/ ب على مَا لا يريد، ولا أن يبخل، لأنه أول النّاس عذرا فِي خوف الفقر، ولا أن يكون حقودا، لأن خطره قَدْ جل عَنِ المجازاة، وليتفقد الوالي حاجة الأحرار فيسد بها طغيان السفلة فيقمعه [4] وليتق حرم الكريم الجائع، واللئيم الشبعان، فإنما يصول الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع [1] . وأحوج الناس إِلَى التثبيت الملوك، واللئام [2] أصبر أجسادا والكرام أصبر قلوبا.
اعلم أن من أوقع الأمور فِي الدين، وأنهكها للجسم، وأتلفها للمال، وأفسدها للعقل، وأذهبها للوقار الإغلام بالنساء. ومن البلاء على الحر الغرم بهن، إنه لا ينفك يسأم مَا عنده، وتطمح عيناه إِلَى مَا ليس عنده [3] ، ومجهولاتهن خدع، وربما هجم على مَا يظنه حسنا، وهو قبيح حَتَّى لو لم يبق فِي الأرض إلا امرأة ظن أن لها شأنا غير شأن مَا ذاق، وهذا من الحمق. ومن أتخم نفسه الطعام والشراب والنساء كَانَ مما يصيبه انقطاع تلك اللذات عنه لخمود نار شهوته، فإن استطعت أن تضع نفسك دون غايتك بربوة فافعل، لا تجالس أميرا بغير طريقته، فإنك إن لاقيت الجاهل بالعلم، والغني بالبيان، ضيعت عقلك، وآذيت جليسك بحملك [4] عليه مَا لا يعرف، كمخاطبة الأعجمي [5] بما لا يفقه، إذا نزل بك مهم، فإن كَانَ مما له حيلة فلا يعجز، وإن كَانَ مما [6] لا حيلة لَهُ فلا يجزع.
وقيل لَهُ: من أدبك؟ قَالَ: نفسي، إذا رأيت شيئا أذمه من غيري اجتنبته.
وَكَانَ ابْن المقفع مَعَ هَذِهِ الفصاحة والأدب كريما.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي قَالَ: أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن مسعدة الإسماعيلي قَالَ: حَدَّثَنَا حمزة بْن يوسف السهمي [7] قَالَ: أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ قال: أَخْبَرَنَا ابْن مكرم قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: / سمعت أبا عاصم يَقُول: حَدَّثَنَا محمد بن عمارة قال: لما ولي ابن شبرمة القضاء كتب إِلَيْهِ إسماعيل بْن مسلم المكي: إنه قَدْ أصابتني حاجة. فكتب إِلَيْهِ: الحق بنا نواسك. فخرج إسماعيل [1] ، [فلما قدم تلقاه ابْن المقفع. فَقَالَ: ما جاء بك بعد هذا السن؟] [2] قَالَ:
أصابتني حاجة فكتبت إِلَى ابْن شبرمة، فكتب إلي: الحق بْنا نواسك. قَالَ: استخف والله بك، لأنك من العجم، ولو كنت من العرب لبعث إليك فِي مصرك تملك على نفسك ثلاثة أيام لا تأتيه. قال: فانطلق بي إِلَى منزله، فلما كَانَ فِي اليوم الثالث أتاني بسبعة آلاف درهم تنقص دريهمات، وأتمهما بخلخال، وَقَالَ: خذها الآن إن شئت، فأقم عندي، وإن شئت فأته، وإن شئت فارجع إِلَى مصرك. قلت: لا والله، لا آتيه ولا أقيم عندك. ورجعت إِلَى بلدي.
وروى شبيب بْن شيبة قَالَ: كنا وقوفا بالمربد- وَكَانَ مواقف الأشراف- إذ أقبل ابْن المقفع فتشبثنا به، وبادأناه بالسلام، فرد علينا، وَقَالَ: لو ملتم إِلَى داري، فودعتم أبدانكم، وأرحتم دوابكم. فملنا، فلما استقر بْنا المكان قَالَ لنا: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إِلَى بعض وقلنا: لعله أراد أصله من فارس [3] . فقلنا: فارس. فَقَالَ: ليسوا كذلك، إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، وحووا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا حكما فِي أنفسهم. قلنا: فالروم. قَالَ: أصحاب صبغة [4] . قُلْنَا: فالصين. قَالَ: أصحاب طرفة [5] . قلنا: فالهند. قَالَ: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان. قَالَ: شر خلق الله.
قلنا: الترك. قَالَ: كلاب مختلسة. قلنا: الخزر. قَالَ: بقر سائمة. قلنا: فقل. قَالَ:
العرب. فضحكنا. قَالَ: إني مَا أردت موافقتكم، ولكني إذ فاتني حظي من النسبة [6] فلا يفوتني حظي من المعرفة، إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، [ولا آثار] [7] أثرت/، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل 26/ ب بمجهوده، ويشارك فِي ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن مَا يشاء فيحسن، ويقبح مَا يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلمتهم قلوبهم وألسنتهم، فرفع اللَّه لهم أكرم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملك الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته منهم إِلَى الحشر، فمن دفع حقهم [1] خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.
واجتمع ابْن المقفع بالخليل بْن أَحْمَد فَقَالَ الخليل: علمه أكثر من عقله.
وَكَانَ ابْن المقفع مَعَ هَذَا يتهم فِي دينه، فروي عَنِ المهدي أنه قَالَ: مَا وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابْن المقفع.
وقد حكى المرتضى عَنِ الجاحظ أنه قَالَ: كَانَ ابْن المقفع ومطيع بْن إياس ومنقذ بْن زياد يتهمون فِي دينهم.
قَالَ المرتضى: ومر ابْن المقفع ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فتلمحه [2] ثُمَّ قَالَ:
يا بيت عاتكة الَّذِي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما ... إليك مَعَ الصدود لأميل
وَكَانَ ابْن المقفع قَدْ كتب كتاب أمير المؤمنين لعَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وكتب فِيهِ: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عَبْد اللَّه فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور، فكتب إِلَى سفيان بْن معاوية- وَهُوَ أمير البصرة- فقتله.
وروى أَبُو بكر الصولي: أن الربيع الحاجب قَالَ: لما قرأ المنصور الأيمان الَّذِي كتبه ابن المقفع قَالَ: من كتب هَذَا؟ فقيل: رجل يقال لَهُ عَبْد اللَّه بْن المقفع يكتب 27/ ألعمّيك سليمان/ وعيسى ابْني علي بالبصرة، فكتب إِلَى عامله بالبصرة: لا يفلتنك ابْن المقفع حَتَّى تقتله. فاستأذن يوما عليه مَعَ وجوه أَهْل البصرة، فأخر سفيان إذنه وأذن لمن كَانَ معه قبله، ثُمَّ أذن لَهُ، فلما صار فِي الدهليز عدل به [3] إِلَى حجرة، فقتل فيها،وخرج القوم فرأوا غلمانه فسألوهم عنه، فقيل: دخل بعدكم، فخاصم سليمان وعيسى ابْنا عَلِيّ سفيان بْن معاوية المهلبي وأشخصاه إِلَى المنصور، وقامت البينة العادلة بأن ابْن المقفع دخل دار سفيان سليما ولم يخرج منها. فَقَالَ المنصور: أنا أنظر فِي هَذَا، وأقيده به. ووعدهم الغد، فجاء سفيان ليلا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اتق اللَّه فِي صنيعك ومتبع أمرك أن تجري [1] قتله علي. قَالَ: لا ترع واحضر. فحضر [2] وقامت [3] البينة. فَقَالَ المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان بن معاوية بابْن المقفع، ثُمَّ خرج ابْن المقفع عليكم من هَذَا الباب- وأومأ إِلَى باب خلفه- من ينصب لي نفسه حَتَّى أقتله مكان سفيان؟
فرجعوا كلهم عَنِ الشهادة واندفع الأمر.
وروى أَبُو الحسن المدائني: أن ابْن المقفع [4] كَانَ يعبث بسفيان بْن معاوية بْن يزيد بْن المهلب [5] بالحيرة، ويضحك منه، فغضب سفيان يوما وافترى عليه، فَقَالَ لَهُ ابْن المقفع: يا ابْن المغتلمة، والله مَا اكتفت أمك برجال العراق حَتَّى نكحها رجال أَهْل الشام؟ وكانت أم سُفْيَان: ميسون بْنت المغيرة بْن المهلب. فاضطغن عليه سفيان، فقدم سليمان بْن عَلِيّ، وعيسى بْن عَلِيّ ليكتبوا لعَبْد اللَّه بْن عَلِيّ أمانا. وَكَانَ ابْن المقفع يكتب لعيسى بْن عَلِيّ، وَكَانَ يتنوق فِي الشرط، فكتب فيما اشترط: إن قتله أمير المؤمنين فلا بيعة [6] لَهُ. فَقَالَ المنصور: من يتوثق لهم؟ قالوا: ابْن المقفع. قَالَ: فما أحد يكفيني ابْن المقفع. فكتب أَبُو الخصيب إِلَى سفيان بْن معاوية يحكي لَهُ هَذَا الكلام عَنْ أمير المؤمنين، / فاعتزم على قتله إن أمكنه ذلك فاستدعاه فقال: أتذكر ما 27/ ب كنت تقول؟ قَالَ: أنشدك اللَّه أيها الأمير. فَقَالَ: أمي مغتلمة كما قلت إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد. فأمر بتنور فسجر حَتَّى إذا حمي أمر أن تقطع أعضاؤه، فكلما قطعوا عضوا قَالَ: ألقوه فِي النار. فيلقونه وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، حَتَّى أتى على جميع جسده، ثُمَّ أطبق التنور وَقَالَ: ليس علي فِي المثلة بك حرج، لأنك زنديق قد أفسدت الناس،واختفى أثره، فَقَالَ عيسى لغلامه: قل لسفيان: إن لم تكن قتلته فخله، وإن كنت قتلته فو الله لأطالبْنك بدية. قَالَ سفيان: مَا أدري أين هو. فمضى عيسى إِلَى المنصور وَقَالَ:
قتله سُفْيَان فجيء بسفيان مقيدا، وجعل عيسى يطلب الشهود ويخاطب المنصور، ودخل الشهود فشهدوا، فَقَالَ لهم المنصور: قَدْ شهدتم، فإن أتيتكم بابْن المقفع حَتَّى يخاطبكم، مَا تروني صانعا بكم؟ فقام الشهود، وضرب عيسى بْن عَلِيّ عَنْ ذلك الحديث.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید