المنشورات

أسست مدينة بغداد:

وَكَانَ سبب ذلك: أن أبا جعفر بْنى- حين أفضي الأمر إِلَيْهِ- الهاشمية قبالة مدينة ابْن هبيرة إِلَى جنب الكوفة، وبْنى أَبُو جعفر أيضا مدينة بظهر الكوفة سمّاها: الرصافة.
فلما ثارت الروندية بأبي جعفر فِي مدينته الَّتِي يقال لها: الهاشمية كره سكناها لاضطراب من اضطرب عليه من الروندية، ولم يأمن على نفسه. فخرج يرتاد موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده، ويبْني به مدينة، فانحدر إِلَى جرجرايا، ثُمَّ صار إِلَى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إِلَى بغداد فَقَالَ: هَذَا موضع صالح، وَهَذِهِ دجلة ليس بيننا وبين 34/ أالصين شيء، يأتينا فِيهَا كل مَا فِي البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وَهَذِهِ الفرات يجيء فِيهَا كل شيء بالشام والرقة، وضرب عسكره على الصراة، وخط المدينة، ووكل بكلّ ربع قائدا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن عَلِيّ الوراق وأحمد بْن عَلِيّ المحتسب قالا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن جعفر بن هارون الكوفي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف قَالَ: زعم عَبْد الله بن أبي سعيد قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن حميد بْن جبلة قَالَ:
حَدَّثَنِي أبي، عَنْ جدي جبلة قَالَ: كانت مدينة أبي جعفر قبل بْنائها مزرعة البغداديين يقال لها: المباركة، وكانت لستين نفسا من البغداديين، فعوضهم عنها عوضا أرضاهم فأخذ جدي جبلة قسمه فيهم.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة، وأن الهند رسمتها فجعلت صفة الأقاليم كأنها حلقة، فالإقليم الأول منها: إقليم بلاد الهند، والإقليم الثاني إقليم الحجاز، والإقليم الثالث إقليم مصر، والإقليم الرابع إقليم بابل، وَهُوَ أوسط الأقاليم وأعمرها، وفيه جزيرة العرب، وفيه العراق الّذي هو سرة الدنيا، وبغداد فِي وسط هَذَا الإقليم. والإقليم الخامس بلاد الروم، والإقليم السادس بلاد الترك، والإقليم السابع بلاد الصين. والإقليم الرابع الَّذِي فِيهِ العراق- وفي العراق بغداد- هو صفوة الأرض ووسطها لا يلحق من فِيهِ عيب سرف ولا تقصير، فكذلك اعتدلت ألوان أهله، وامتدت أجسامهم، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان، ومن غلظ الترك، ومن جفاء أَهْل الجبال وخراسان، ومن دمامة أَهْل الصين ومن جانسهم، واجتمعت فِي أَهْل هَذَا القسم 34/ ب من الأرض محاسن جميع أَهْل الأقطار، وكما اعتدلوا/ فِي الخلقة، كذلك لطفوا فِي الفطنة [1] والتمسك بالعلم والآداب، وهم أهل العراق ومن جاورهم [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ التَّمِيمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد الجلوذي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى كَعْبِ الأَحْبَارِ اخْتَرْ لِي الْمَنَازِلَ. قَالَ [3] : فكتب: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ الأَشْيَاءَ اجْتَمَعَتْ فَقَالَ السَّخَاءُ: أُرِيدُ الْيَمَنَ. فَقَالَ حُسْنُ الْخُلُقِ:
أَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْجَفَاءُ: أُرِيدُ الْحِجَازَ فَقَالَ الْفَقْرُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْبَأْسُ: أُرِيدُ الشَّامَ.
فَقَالَ السَّيْفُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْعِلْمُ: أُرِيدُ الْعِرَاقَ. فَقَالَ الْعَقْلُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْغِنَى: أُرِيدُ مِصْرَ. فَقَالَ الذُّلُّ: وَأَنَا مَعَكَ. فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ، فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَى عُمَرَ قَالَ: فَالْعِرَاقُ إِذَنْ، فَالْعِرَاقُ إِذَنْ [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على أبي بكر أَحْمَد بْن مُحَمَّد اليزدي، عَنْ أبي شيخ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن حيان قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن البغدادي قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه: جئت إِلَى الجاحظ فَقَالَ: الأمصار عشرة: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والخير ببغداد، والغدر بالري، والحسد بهراة، والجفاء بنيسابور، والبخل بمرو، والطرمذة بسمرقند، والمروءة ببلخ، والتجارة بمصر [2] .
وَقَالَ سليمان بْن مجالد: خرج المنصور يرتاد منزلا، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، وأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب أين يريد أمير المؤمنين؟ قَالَ: يرتاد منزلا قَالَ: فإنا نجد فِي كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبْني مدينة بين دجلة والصراة تدعى: الزوراء، فإذا أسسها وبْنى عرقا منها أتاه فتق من الحجاز فقطع بْناءها وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر منه، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثُمَّ يعود إِلَى بْنائها فيتمه، ثُمَّ يعمر طويلا، ويبقى الملك فِي عقبه/. قَالَ سليمان: فإن أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد 35/ أمنزل إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر، فأخبرت به أمير المؤمنين. فدعا الرجل فحدثه الحديث، فكرّ راجعا عوده على بدئه وَقَالَ: والله أنا ذلك لقد سميت مقلاصا وأنا صبي، ثُمَّ انقطعت عني، ثم شاور في ذلك، فاتفق رأي القوم على بغداد، وقالوا [3] لَهُ: تجيئك الميرة من العرب فِي الفرات وطرائف مصر والشام، وتجيئك الميره فِي السفن من الصين والهند والبصرة وواسط فِي دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها فِي تامرا حَتَّى تصل إِلَى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل فِي دجلة [1] ، وأنت بين أنهار لا يصل إليك [عدوك] [2] إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدو وأنت بين دجلة والفرات، لا يجيئك أحد من المشرق أو المغرب إلا احتاج إِلَى العبور بدجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين.
فوجه فِي حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة فأحضروا، وأمر باختيار قوم من أَهْل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، وَكَانَ ممن أحضر الحجاج بْن أرطأة وأبو حنيفة والنعمان بْن ثَابِت.
وأمر بخط المدينة، وحفر الأساسات، وضرب اللبْن، وحرق الآجر، وكان أول ما ابتدأ به في عملها سنة خمس وأربعين [ومائة] [3] ، وأحب أن ينظر إليها، فأمر أن تخط بالرماد، وأقبل يدخل من كل باب، ويمر في فضلاتها وطاقتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، وأمر أن يحفر أساس ذلك على ذلك الرسم.
قَالَ ابْن عياش: فوضع أول لبْنة بيده وَقَالَ: بسم اللَّه وباللَّه، والْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 7: 128 [4] . ثُمَّ قَالَ: ابْنوا على بركة اللَّه وعونه.
وَقَالَ حماد التركي: لما وقع اختيارهم على موضع بغداد، وَكَانَ فِي موضع الخلد/ دير وفي فرات الصراة قرية، وكانت القرية تسمى العتيقة، وهي التي افتتحها المثنى بن حارثة، وجاء المنصور فنزل الدير فِي موضع الخلد على الصراة، فوجده قليل البق، فَقَالَ: هَذَا موضع ارضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة. فبْناه، وَكَانَ موضع قرى ومزارع.
ولما احتاج المنصور فِي بْنائه إِلَى الأنقاض قَالَ لخالد بْن برمك: ما ترى في نقض بناء كسرى بالمدائن وحمل نقضه إِلَى مدينتي هَذِهِ. فَقَالَ: لا أرى ذلك. قال:
ولم؟ قَالَ: لأنه علم من [أعلام] [1] الإسلام يستدل به الناظر إِلَيْهِ على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو بأمر دين. فَقَالَ: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم. وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر فِي مقدار مَا يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد، فرفع ذلك إِلَى المنصور، فدعا خالدا فأخبره وَقَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: قَدْ كنت أرى أن لا تفعل، فأما إذ فعلت فأرى أن تهدم الآن حَتَّى تلحق بقواعده لئلا يقال إنك عجزت عَنْ هدمه. فأعرض المنصور عَنْ ذلك وأمر أن لا يهدم.
أَخْبَرَنَا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين عَبْد الواحد بْن مُحَمَّد الحصيني قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو علي أَحْمَد بْن إسماعيل قَالَ: لما صارت الخلافة إِلَى المنصور أمر بْنقض إيوان المدائن فاستشار جماعة من أصحابه، وكلهم أشار عليه بمثل مَا هم، وَكَانَ معه كاتب من الفرس فاستشاره [2] فِي ذلك فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنت تعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من تلك القرية- يعني المدينة- وكان له بها مثل ذلك المنزل، ولأصحابه مثل تلك الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى جاءوا مَعَ ضعفهم إِلَى صاحب هَذَا الإيوان مَعَ عزته وصعوبة أمره/، حَتَّى غلبوه وأخذوه من يديه قسرا 36/ أوقهرا، ثُمَّ قتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأراضي فينظر إِلَى تلك المدينة وإلى هَذَا الإيوان، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هَذَا الإيوان، فلا يشك أنه بأمر اللَّه عز وجل، وأنه هو الَّذِي أيده، وَكَانَ معه ومع أصحابه، وفي تركه فخر لكم، فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم، ثُمَّ بعث فِي بعض الإيوان فنقض منه الشيء اليسير، ثُمَّ كتب إِلَيْهِ أنه يغرم [3] فِي نقضه أكثر مما يسترجع، وأن هَذَا تلف للأموال وذهابها. فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كنت أشرت بشيء لم يقبل مني، وأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه والصواب أن تبلغ به الماء. ففكر المنصور فعلم أنه قَدْ صدق، ثُمَّ نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه.
وقيل إن أبا جَعْفَر لما أمر بحفر الخنادق وأنشأ بْناء الأساس أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا، وقدر أعلاه عشرين ذراعا، فلما بلغ البْناء قامة أتاه خروج مُحَمَّد فقطع البْناء، وخرج إِلَى الكوفة، فلما فرغ من حرب مُحَمَّد رجع إِلَى بغداد.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بْن أبي طالب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عروة قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الصولي قال: قال رجل من ولد الربيع.
لما أراد أَبُو جَعْفَر أن يبْني لنفسه كَانَ يؤتى من كل مدينة بتراب فيعفنه فيصير عقارب وهوام، حَتَّى أتى بتربة بغداد، فخرج صرارات، وأتى الخلد فنظر إِلَى دجلة والفرات فأعجبه، فرآه راهب كَانَ هُنَاكَ وَهُوَ يقدر بْناءها. فَقَالَ: لا يتم، فبلغه فأتاه.
فقال: نعم!. نجد في كتبنا أن الَّذِي يبْنيها ملك يقال لَهُ: مقلاص. قَالَ أَبُو جَعْفَر: كانت والله أمي تلقبْني فِي صغري مقلاصا [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الخطيب قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي علي المعلى قَالَ: أَخْبَرَنَا طلحة بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْن جرير/ إجازة:
أن أبا جَعْفَر ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة، واستتم البْناء سنة ست وأربعين ومائة وسمّاها مدينة السلام [2] .
قَالَ الخطيب: وبلغني أنه لما عزم على بْنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبْناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرض، فمثل لهم صفتها الَّتِي فِي نفسه، ثُمَّ أحضر الفعلة والصناع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، وأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إِلَى كل بلد فِي حمل من فِيهِ ممن يفهم شيئا من أمر البْناء، ولم يبتدئ فِي البْناء حَتَّى تكامل بحضرته من أَهْل الصناعات ألوف كثيرة، ثُمَّ اختطها وجعلها مدورة. ويقال: لا يعرف في أقطار الأرض كلها مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها فِي وقت اختاره نوبخت المنجّم [3] .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان بن الفلو قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد بْن الحكم قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الفضل الْعَبَّاس بْن أَحْمَد الحداد قَالَ: سمعت أَحْمَد البربري [1] يَقُول: مدينة أبي جَعْفَر ثَلاثُونَ ومائة جريب، خنادقها وسورها ثَلاثُونَ جريبا، وأنفق عَلَيْهَا ثمانية عشر ألف ألف [2] .
قَالَ الخطيب: ورأيت فِي بعض الكتب أن المنصور أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إِلَى أن فرغ من بْنائها أربعة آلاف وثلاثة وثمانين درهما، مبلغها من الفلوس مائة ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقيراط إِلَى خمس حبات، والروزداري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات، وهذا خلاف مَا تقدم ذكره، وبين القولين تفاوت كثير [3] .
أخبرنا عبد الرحمن قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر النحوي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد السكوني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف قَالَ: قَالَ يحيى بْن الْحَسَن بْن عَبْد الخالق: خط المدينة ميل فِي ميل [4] ، / ولبْنها ذراع في ذراع [5] .
قَالَ ابْن خلف: قَالَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد الشروي: وهدمنا من السور الَّذِي على باب المحول قطعة، فوجدنا فِيهَا لبْنة مكتوب عَلَيْهَا بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك [6] قَالَ الخطيب: وبلغني عَنْ مُحَمَّد بْن خلف أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان يتولى القيام بضرب لبْن المدينة وعدده حَتَّى فرغ من استتمام بْناء حائط المدينة مما يلي الخندق. وَكَانَ أَبُو حنيفة يعد اللبْن بالقصب، وَهُوَ أول من فعل ذلك، فاستفاده الناس منه [7] .
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [1] : وقد روي فِي حديث آخر أن المنصور أراد أبا حنيفة على القضاء فامتنع، فحلف لا بد أن يتولى لَهُ، فولاه القيام ببْناء المدينة وضرب اللبن ليخرج من يمينه. فتولى ذلك.
قَالَ الخطيب: وذكر مُحَمَّد بْن إسحاق البغوي أن رياحا البْناء حدثه- وكان ممن كان يتولى بناء سور مدينة المنصور- قَالَ: كَانَ بين كل باب من أبواب المدينة إِلَى الباب الآخر ميل في كل ساف من أسواف البْناء مائة ألف لبْنة واثنتان وستون [2] ألف لبْنة، فلما بْنينا الثلث من السور [3] لقطناه، فصيرنا فِي الساف مائة ألف لبنة وخمسين ألف لبنة، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه فصيرنا فِي البْناء مائة ألف [لبْنة] [4] وأربعين ألفا إِلَى أعلاه [5] وذكر أَبُو بكر بْن ثَابِت أن ارتفاع هَذَا السور خمسة وَثَلاثُونَ ذراعا، وعرضه من أرضه [6] نحو من عشرين ذراعا، وجعل لها أربعة أبواب، فإذا جاء أحد من الحجاز دخل من باب الكوفة، وإذا جاء أحد من المغرب [7] دخل من باب الشام، فإذا جاء أحد من الأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين دخل من باب البصرة، وإذا جاء من المشرق دخل من باب خراسان، فمن باب خراسان إِلَى باب الكوفة ألفا ذراع ومائتا ذراع، ومن باب البصرة إِلَى باب الشام ألفا ذراع ومائتا ذراع، وعلى كل أزج من أزاج هَذِهِ الأبواب مجلس ودرجة، وعليه قبة عظيمة، وعليها تمثال تديره الريح. وكان 37/ ب المنصور يجلس إذا أحب أن/ ينظر إِلَى [من يقبل من باب خراسان فِي القبة الَّتِي تليه، وإذا أحب أن ينظر إِلَى] [8] الأرباض [9] وما والاها جلس فِي قبة باب الشام،وَإِذَا أحب النظر إِلَى الكرخ جلس فِي قبة باب البصرة، وإذا أحب النظر إِلَى البساتين [1] جلس فِي القبة الَّتِي على باب الكوفة، وعلى كل باب من أبواب المدينة باب حديد [2] ، نقل تلك الأبواب من واسط وهي أبواب الحجاج، وأن الحجاج نقلها من مدينة بْناها سليمان بْن داود عليهما السلام، وَكَانَ على أبواب المدينة مما يلي الرحاب سور وحجاب، وعلى كل باب قائد، فكان على باب الشام سليمان بْن مجالد فِي ألف، وعلى باب البصرة أَبُو الأزهر التَّمِيمِيّ فِي ألف، وعلى باب الكوفة خالد العكي فِي ألف، وعلى باب خراسان مسلمة بْن صهيب الغساني، وجعل بين كل ثمانية وعشرين برجا، إلا بين باب البصرة وباب الكوفة، فإنه يزيد واحدا وعمل عَلَيْهَا الخنادق، وجعل لها سورين وفيصلين، وَكَانَ لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من هَذِهِ الأبواب إلا راجلا، إلا عمه داود، فإنه كَانَ منقرسا، وَكَانَ يحمل فِي محفة. ومحمد المهدي ابْنه، وكانت تكنس الرحاب فِي كل يوم يكنسها الفراشون، ويحمل التراب إِلَى خارج المدينة. وَقَالَ لَهُ عمه عَبْد الصمد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنا شيخ كبير، فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن لَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إِلَى الرحاب. فَقَالَ: يا ربيع، بغال الروايا تصل إِلَى رحابي، فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: تتخذ الساعة قنى بالساج من باب خراسان حَتَّى تجيء إِلَى قصري.
وكانت الأبْنية متصلة بالمدينة من شاطئ دجلة إِلَى الكبش والأسد [3] ، وهما موضعان قريب من قبر إِبْرَاهِيم الحربي.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ [بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن] [4] علي قال: قال لي هلال بن المحسن: حَدَّثَنِي بِشْر بْن عَلِيّ بْن عبيد الكاتب قَالَ: كنت أجتاز بالكبش والأسد فلا أتخلص في أسواقها من كثرة الزحمة [5] ، ثُمَّ بْنى القصر والجامع، وكانت مساحة قصره أربعمائة ذراع في أربعمائة ذراع، ومساحة المسجد الأول/ مائتين في 38/ أ مائتين، وأساطين الخشب فِي المسجد كل أسطوانة قطعتين معقبة بالعقب والغراء وضباب الحديد إلا خمسا أو ستا عند المنارة [، فإن كل أسطوانة قطع ملفقة] [1] ، وَكَانَ فِي صدر قصره القبة الخضراء، من الأرض إِلَى رأس القبة الخضراء ثمانون ذراعا، وعلى رأس القبة تمثال فرس عليه فارس.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم التنوخي [2] قَالَ: سمعت جماعة من مشايخنا يذكرون أن القبة الخضراء كَانَ على رأسها صنم على صورة فارس فِي يده رمح، فكان السلطان إذا رأى ذلك الصنم قَدِ استقبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حَتَّى ترد عليه الأخبار بأن خارجيا قَدْ نجم من تلك الجهة [3] .
قَالَ التنوخي: وحدثني أَبُو الْحَسَن بْن عبيد الزجاج الشاهد قَالَ: أذكر فِي سنة سبع وثلاثمائة وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور، فأفلت من كان فيها، وكانت الأبواب الحديد الَّتِي للمدينة باقية فغلقت، وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعهم حَتَّى لم يفتهم منهم أحد.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين بن مُحَمَّد المؤدب قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم بجرجان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إسحاق الهجيمي قَالَ: قَالَ أَبُو العيناء: بلغني أن المنصور جلس يوما فَقَالَ للربيع: انظر من بالباب من وفود الملوك فأدخله. فَقَالَ: وافد من قبل ملك الروم. فَقَالَ: أدخله. فدخل فبينا هو جالس عند أمير المؤمنين إذ سمع المنصور صرخة كادت تقلع القصر. فَقَالَ: يا ربيع، ينظر مَا هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ سمع صرخة هي أشد من الأولي. فَقَالَ: يا ربيع، ينظر مَا هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ سمع صرخة هي أشد من الأوليين، فَقَالَ: يا ربيع، اخرج بْنفسك فخرج، ثُمَّ دخل فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بقرة قربت لتذبح فغلبت الجازر وخرجت تدور فِي الأسواق. فأصغى الرومي إِلَى الربيع يتفهم مَا قَالَ، ففطن المنصور لإصغاء الرومي، فَقَالَ: يا ربيع، أفهمه،فأفهمه. فَقَالَ الرومي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك بْنيت بْناء لم يبْنه/ أحد كَانَ قبلك، 38/ ب وفيه ثلاثة عيوب، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: أول عيب فِيهِ بعده عَنِ الماء، ولا بد للناس من الماء لشفاههم. [وأما العيب الثاني: فإنها ليس فِيهَا بساتين يتنزه فِيهَا] [1] . وأما العيب [2] الثالث [3] : فإن رعيتك معك فِي بْنيانك إذا كانت الرعية مَعَ الملك فِي بْنيانه فشا سره. قَالَ: فتجلد عليه المنصور فَقَالَ: أما قولك فِي الماء فحسبْنا من الماء ما بلّ شفاهنا. وأما العيب الثاني فإنا لم نخلق للهو واللعب، وأما العيب الثالث فِي سري فما لي سر دون رعيتي. ثم عرف وجه الصواب. فَقَالَ: مدوا لي قناتين من دجلة واغرسوا لي العباسية، وانقلوا الناس إلى الكرخ.
قَالَ الخطيب: مد المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة، وقناة من نهر كرخايا الأخذ من الفرات وجرهما إِلَى مدينته فِي عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ فِي الشوارع والدروب والأرباض، وتجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها، وجر لأهل الكرخ وما يتصل بها أنهارا.
وأما الجامع فقد ذكرنا أن المنصور جعل مساحته مائتين فِي مائتين، ولما جاء الرشيد أمر بْنقضه وإعادة بْنائه بالآجر والجص، ففعل ذلك وكتب عليه اسم الرشيد، وتسمية البْناء والنجار، وذلك ظاهر الجدران [4] إِلَى الآن، وكانت الصلاة فِي الصحن العتيق الَّذِي هو الجامع، حَتَّى زيد فِيهِ الدار المعروفة بالقطان، وكانت قديما ديوانا للمنصور، فأمر مفلح التركي ببْنائها على يد صاحبه القطان، فنسب إِلَيْهِ، ثُمَّ زاد المعتضد الصحن الأول- وهو قصر المنصور- ووصله بالجامع، وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور السفطات المعروفة بالبدرية.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ لي هلال بْن المحسن قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين مُحَمَّد بن الحسن بن محفوظ قال: / كنت 39/ أ أمضي مَعَ والدي إِلَى الجامع بالمدينة لصلاة الجمعة، فربما وصلنا إِلَى باب خراسان فِي دجلة وقد قامت الصلاة، وامتدت الصفوف إِلَى الشاطئ، فنصعد ونفرش إِلَى السميرية ونصلي.
قَالَ هلال: وأذكر الصفوف ممتدة من جامع الرصافة إِلَى الباب الجديد من شارع الرصافة.
أما جسور بغداد فإن المنصور أمر أن تعقد ثلاثة جسور، أحدها للنساء، ثم عقد لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان، فكان بالزندورد جسران قَدْ عقدهما المهدي، وَكَانَ الرشيد قَدْ عقد عند باب الشماسية جسرين، وَكَانَ للمنصور جسر عند [1] سويقة قطوطا، فلم تزل هَذِهِ الجسور إِلَى أن قتل الأمين فعطلت، وبقي منها ثلاثة إِلَى أيام المأمون ثُمَّ عطل واحد [2] .
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: سمعت أبا عَلِيّ بْن شَاذَان يَقُول: أدركت ببغداد ثلاثة جسور أحدها محاذي سوق الثلاثاء، وآخر بباب الطاق، والثالث فِي أعلى البلد عند الدار المعزية [3] . وذكر لي غير ابْن شَاذَان [4] : أن الجسر الَّذِي كَانَ عند الدار المعزية نقل إِلَى باب الطاق فصار هُنَاكَ جسران يمضي الناس على أحدهما ويرجعون على الآخر [5] .
قَالَ الخطيب: ولم يبق ببغداد غير جسر واحد بباب الطاق إِلَى دخول سنة ثمان وأربعين.
قَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ: وأخبرنا أَحْمَد قَالَ [6] : حَدَّثَنِي هلال بْن المحسن قَالَ: ذكر أنه أحصيت السميرات المعبرات بدجلة أيام الموفق أبي أَحْمَد فكملت ثلاثين ألفا، فقدر من كسب ملاحتها كل يوم تسعين ألف درهم.
وأما الأنهار، فإن نهري بغداد دجلة والفرات، وكانت الأنهار الَّتِي تجري بمدينة المنصور والكرخ، وتخترق بين المحال تأخذ من نهر عيسى بْن عَلِيّ، وَكَانَ عند فوهته [قنطرة] [1] دمما، وَكَانَ على الياسرية قنطرة، / وعلى الرومية قنطرة، وعلى الزيّاتين 39/ ب قنطرة، وبعدها قنطرة عند باعة الأشنان، ثُمَّ قنطرة الشوك، ثُمَّ قنطرة عند باعة الرمان، ثُمَّ قنطرة عند الأرحاء] ، ثُمَّ قنطرة البستان، ثُمَّ قنطرة المعبدي، ثُمَّ قنطرة بْني زريق، ثُمَّ يصب فِي دجلة [2] .
والأنهار الَّتِي تجري فِي المحال كالكرخ وغيرها من نهر عيسى، وكان على الصراة قناطر يتفرع منها أنهار، وفي الجانب الشرقي نهر موسى يأخذ من [3] نهر بين ينقسم ثلاثة: نهر يمضي إلى الزاهر، والثاني باب بييرز [4] ، ويدخل [5] البلد من هناك ويسمّى نهر المعلى، ويمر بين الدور إِلَى سوق الثلاثاء، ثُمَّ يدخل دار الخلافة، ويجري إِلَى دجلة. والثالث يمر [إِلَى] [6] دار الخلافة أيضا، ونهر من الخالص يقال لَهُ: نهر الفضل، إِلَى أن ينتهي إِلَى باب الشماسية، فيأخذ [7] منه نهر يقال لَهُ: نهر المهدي ويدخل المدينة فِي شارع المهدي، ثُمَّ يجيء إِلَى قنطرة البردان، ويخرج إِلَى سويقة نصر بْن مالك، ثُمَّ يدخل الرصافة، ويمر فِي الجامع [8] أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن عمران قَالَ: أخبرنا أبو بكر مُحَمَّد بْن يحيى النديم قَالَ: ذكر أَحْمَد بْن أبي طاهر أن ذرع بغداد الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا، منها الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا. والغربي سبعة وعشرون ألف جريب. وأن عدد الحمامات كانت فِي ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام. قَالَ: أقل مَا يكون فِي كل حمام خمسة نفر: حمامي، وقيم، وزبال، ووقّاد، وسقّاء، يكون ذلك ثلاثمائة ألف رجل. وذكر أنه يكون بإزاء كل حمّام خمسة مساجد يكون ذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وتقدير ذلك أن أقل مَا يكون فِي كل مسجد خمسة أنفس، يكون ذلك ألف ألف 40/ أوخمسمائة ألف إنسان، يحتاج كل إنسان فِي ليلة العيد إلى رطل صابون، / فيكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف رطل صابون، يكون [ذلك] [1]- حساب الجرة مائة وثلاثين رطلا-: ألف جرة ومائة جرة وخمسين جرة وثمانية جرار ونصفا [2] ، يكون ذلك زيتا- حساب الجرة ستين رطلا- ستمائة ألف رطل وتسعة آلاف رطل وخمسمائة وعشرة أرطال [3] .
وقد روي أن الحمامات كانت فِي عهد [4] معز الدولة بضعة عشر ألف حمام، وفي زمان عضد الدولة خمسة آلاف وكسر [5] .
وقد اتفق الناس أن بغداد لا نظير لها، وأحسن مَا كانت فِي أيام الرشيد، فحدثت بها الفتن، وتتابعت المحن، وانتقل قطانها [6] .
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القاسم التنوخي قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلاثمائة قَالَ: أَخْبَرَنِي رجل يبيع سويق الحمص- منفردا به-: أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة، فكان مائة وأربعين كرا، يكون حمصا مائتين وثمانين كرا، يخرج كل سنة حَتَّى لا يبقى منه شيء، ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى [7] .
قَالَ هلال بْن المحسن: عبرت إِلَى الجانب الشرقي من مدينة السلام بعد الأحداث الطارئة فرأيت مَا بين سوق السلاح والرصافة وسوق العطش ومربعة الحرسي والزاهر، وما فِي دواخل ذلك ورواضعه قَدْ خرب خرابا فاحشا، ولم يترك النقض فِيهِ جدارا قائما- ولا مسجدا باقيا، وأما مَا بين باب البصرة والعتابين والخلد وشارع الرقيق من الجانب الغربي فقد اندرس اندراسا كليا، وصار الجامعان بالمدينة والرصافة متوسطين الصحراء بعد أن كانا فِي وسط العمارة.
وعرفني بعض العارفين بأمر الحمامات فِي جانبي البلد عدد مَا بقي منها في هذا الوقت وهي سنة عشرين وأربعمائة نحو مائة وسبعين حماما.
وأنني لأذكر وقد حضر/ عند جدي إِبْرَاهِيم بْن هلال فِي سنة اثنتين وثمانين 40/ ب وثلاثمائة أحد ممن كَانَ يغشاه، وجرى ذكر مدينة السلام فِي كبرها، فَقَالَ الرجل: لعل هَذِهِ الحال كانت قديما، فأما الآن فحدثني فلان- وله- معرفة بالحمامات- أن جميع مَا بقي منها نحو ثلاثة آلاف، فَقَالَ جدي: لا إله إلا اللَّه، كذا يكون الانقراض!؟ فإنها أحصيت فِي زمان المقتدر، وقد فشا الخراب، فكانت تسعا وعشرين ألف حمام.
ولقد ورد كتاب ركن الدولة على أبي مُحَمَّد المهلبي يَقُول فيه: بلغنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد، فيذكر لنا الموجود اليوم فكانت المساجد تتجاوز حد الإحصاء، وأما الحمامات سبعة عشر ألفا.
وَقَالَ ابْن هلال: كنت أركب من داري فِي باب المراتب إِلَى دار معز الدولة بالشماسية فِي الأسواق وتحت الظلال والمحال والدروب. وكذلك الجانب الغربي والدور على دجلة وبساتينها متناهية وأقطارها [1] متباعدة وما فِيهَا دار يخلو من الأغاني والدعوات، وجميع ما بقي من الحمامات فِي بغداد نيف وتسعون حماما.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخراز قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خليفة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سلام قَالَ: سمعت أبا الوليد يَقُول: قَالَ لي شعبة:
أدخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك لم تر الدنيا [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا عبد العزيز بن علي الوراق قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن يعقوب الجرجاني يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن يوسف بْن موسى يَقُول: سمعت يونس بْن عَبْد الأعلى يَقُول: قَالَ لي مُحَمَّد بْن إدريس: دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: يا يونس مَا رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا الجوهري قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بن إسماعيل قال:
41/ أحدّثنا أبو محلم قَالَ: سمعت أبا بكر بن عياش يَقُولُ: الإسلام/ ببغداد وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها فلم ير الدنيا [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد العزيز بْن عَلِيّ قَالَ:
سمعت عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه الهمداني يَقُول: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد القاضي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين المالكي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد التَّمِيمِيّ قَالَ: سمعت ذا النون يَقُول: من أراد أن يتعلم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: وكيف؟
قَالَ: لما حملت إِلَى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيدا، فمر بي رجل مؤتزر بمنديل مصري، معتم بمنديل ديبقي، بيده كيزان وخزف رقاق، وزجاج مخروط، فسألت: هَذَا ساقي السلطان؟ فقيل لي: هَذَا ساقي العامة. فأومأت إِلَيْهِ: اسقني.
فسقاني، فشممت من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارا. فأعطاه الدينار. فأبى. وَقَالَ: ليس آخذ شيئا. فقلت لَهُ: ولم؟ فَقَالَ: أنت أسير، وليس من المروءة أن آخذ منك شيئا. فقلت: كمل الظرف فِي هَذَا [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أحمد بن علي [4] الحافظ قال:
أخبرني [5] أبو القاسم القاضي قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن المحسن التنوخي قَالَ: قَالَ لي أَبُو القاسم بزياش بْن الْحَسَن الديلميّ- وَهُوَ شيخ يتعلق بعلوم فصيح العربية- قَالَ:
سافرت الآفاق، ودخلت البلدان من حدّ سمرقند إلى القيروان، ومن سر نديب إِلَى بلد الروم، فما وجدت بلدا أفضل ولا أطيب من بغداد. قَالَ: وَكَانَ سبكتكين حاجب معز الدولة من جملة أنسائي. فَقَالَ لي يوما: قَدْ سافرت الأسفار الطويلة، فأي بلد وجدت أفضل وأطيب؟ فقلت لَهُ: أيها الحاجب، إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق [1] .
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القاسم عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ الرقي قَالَ: أخذ أَبُو العلاء المعري يوما يدي فغمزها- وَهُوَ ببغداد- ثُمَّ قَالَ لي: يا أبا القاسم، هَذَا بلد عظيم لا يأتي زمان عَلَيْك وأنت به إلا رأيت فيه من/ 41/ ب أَهْل الفضل من لم تره فيمن تقدم [2] .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: أنشدني التنوخي قَالَ:
أنشدنا أَبُو سعيد مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن خلف الهمذاني لنفسه يَقُول:
فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض حَتَّى خطتي وبلاديا [3]
فقد طفت فِي شرق البلاد وغربها ... وسيرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فِيهَا مثل بغداد منزلا ... ولم أر فِيهَا مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا ... وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا
وكم قائل لو كَانَ ودك صادقا ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا [4]
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن محمد بن عبيد قال: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد يَقُول:
طيب الهواء ببغداد يصرفني ... قدما إليها وإن عاقت معاذير
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور [5]
[قَالَ المصنف] [6] : وقد كَانَ أَبُو الوفاء بْن عقيل يصف مَا شاهد من بغداد، وهذا عند خرابها وذهاب أهلها، فيذكر العجائب، وقد ذكرت ذلك فِي «مناقب بغداد» . 
وَفِيهَا: ظهر إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بالبصرة فحارب المنصور.
وَفِيهَا: قتل أيضا، وَكَانَ من قضيته [1] أنه لما أخذ المنصور عَبْد اللَّه بْن حسن أشفق مُحَمَّد وإبراهيم فخرجا إِلَى عدن، فخافا بها، فركبا البحر حَتَّى سارا إِلَى السند، فسعي بهما، فقدما الكوفة، وكانت أم ولد إِبْرَاهِيم تقول: مَا أقرتنا الأرض منذ خمس 42/ أسنين، مرة بفارس، ومرة بكرمان، ومرة بالجبل، ومرة/ بالحجاز. ووضع المنصور على إِبْرَاهِيم الرصد، وكانت له مرآة- قد سبق ذكرها- ينظر فِيهَا فيرى عدوه من صديقه، فنظر فِيهَا فَقَالَ للمسيب: يا مسيب، قَدْ رأيت واللَّهِ إِبْرَاهِيم فِي عسكري، فانظر مَا أنت صانع.
وأمر المنصور ببْناء قنطرة الصراة العتيقة، ثُمَّ خرج ينظر إليها فوقعت عينه على إِبْرَاهِيم، وجلس إِبْرَاهِيم، فذهب فِي الناس، فأتى مأمنا فلجأ إِلَيْهِ، فأصعده غرفة لَهُ، وجد المنصور فِي طلبه، فَقَالَ سفيان العمي لإبراهيم: قَدْ ترى مَا نزل بْنا، ولا بد من المخاطرة. قَالَ: فأنت وذاك. فأقبل إِلَى الربيع فسأله الإذن. قَالَ: ومن أنت؟ قَالَ:
سفيان العمي. فأدخله على أبي جَعْفَر، فلما رآه شتمه فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنا أَهْل لما تقول، غير أني أتيتك تائبا، ولك عندي كل مَا تحب إن أعطيتني مَا أسألك. قَالَ: وما لي عندك؟ قَالَ: تأتيني بإبراهيم. قَالَ: فما لي عندك إن فعلت؟ قَالَ: كل مَا تسأل، فأين إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: قَدْ دخل بغداد، وَهُوَ داخلها عَنْ قريب، فاكتب لي جوازا ولغلام لي ولفرانق [2] ، واحملني على البريد، ووجه معي جندا، آتيك به. قَالَ: فكتب إِلَيْهِ جوازا، ودفع إِلَيْهِ جندا وَقَالَ: هَذِهِ ألف دينار فاستعن بها. قَالَ: لا حاجة لي إليها كلها.
فأخذ معه ثلاثمائة دينار، وأقبل حَتَّى أتى إِبْرَاهِيم وَهُوَ فِي بيت عليه مدرعة صوف- وقيل:
بل قباء كأقبية العبيد- فصاح به: قم. فوثب كالفزع، فجعل يأمره وينهاه حَتَّى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع إِلَيْهِ جوازه. قَالَ: فأين غلامك؟ قَالَ: هَذَا.
فلما نظر فِي وجهه قَالَ: والله مَا هَذَا بغلامك، وإنه لإبراهيم، فاذهب راشدا فأطلقهما، فركبا البريد، ثُمَّ ركبا سفينة إِلَى البصرة فاختفيا فيها.
وقيل: إنه قدم البصرة، فجعل يأتي بالجند الدار- ولها بابان- فيقعد العشرة/ 42/ ب منهم على أحد البابين ويقول: لا تبرحوا حَتَّى آتيكم. ثُمَّ يدخل الدار فيخرج من الجانب الآخر [1] ويتركهم حَتَّى فرق الجند وبقي وحده واختفى، فبلغ الخبر سفيان بْن معاوية، فأرسل إليهم، وطلب العمي، فأعجزه، ونزل إِبْرَاهِيم على أبي [2] فروة، فاختفى وأرسل إِلَى الناس يندبهم إِلَى الخروج، فلما بلغ الخبر أبا جَعْفَر شاور، فقيل لَهُ: إن الكوفة لَهُ شيعة، والكوفة قَدْ رافقوا، وأنت طبقتها. فاخرج حَتَّى ينزلها. ففعل.
وخرج إِبْرَاهِيم ليلة الاثنين لغرة شهر رَمَضَان من سنة خمس وأربعين، فصار إِلَى مقبرة بْني يشكر فِي بضعة عشر فارسا، فكان أول شيء أصاب دوابّ لجماعة من الجند، وأسلحة، وصلى بالناس الغداة بالمسجد الجامع، وتحصن سفيان بْن معاوية فِي الدار، ثُمَّ طلب الأمان فأجيب لَهُ، ففتح الباب ودخل إِبْرَاهِيم الدار، فألقي لَهُ حصير، فهبت ريح فقلبت الحصير [3] ظهرا لبطن، فتطير الناس لذلك، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: لا تتطيروا. ثُمَّ جلس عليه مقلوبا والكراهة ترى فِي وجهه، وحبس سفيان بْن معاوية فِي القصر وقيده قيدا خفيفا. ووجد ببيت المال ستمائة ألف، فغدا بذلك، وفرض لكل رجل خمسين، ووجه رجلا إِلَى الأهواز فبايعوا لَهُ، وخرج عاملها فخاصم أصحاب إِبْرَاهِيم فهزموه.
وبلغ جعفرا ومحمدا ابْني سليمان بْن عَلِيّ- وكانا بالبصرة- مصير إِبْرَاهِيم إِلَى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا في ستمائة، فوجه إليهما [4] إِبْرَاهِيم المضاء بْن جَعْفَر [5] فِي ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء، وصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إِبْرَاهِيم، ولم يزل إِبْرَاهِيم مقيما بالبصرة بعد ظهوره بها يفرق العمال فِي النواحي، ويوجه الجيوش إِلَى البلدان حَتَّى أتاه نعي أخيه محمد، فأخبر الناس بذلك، فازدادوا بصيرة فِي قتال أبي جَعْفَر، وأصبح إِبْرَاهِيم من الغد فعسكر.
وأبلغ الخبر إِلَى أبي جَعْفَر فَقَالَ: والله مَا أدري مَا أصنع، مَا فِي عسكري سوى ألفي رجل، فرقت جندي مَعَ المهدي/ بالري ثَلاثُونَ ألفا، ومع محمد بن الأشعث 43/ أ عيسى بْن موسى، ووالي البصرة/ سالم بْن قتيبة الباهلي، وَكَانَ على قضائها عباد بْن 43/ ب منصور، وعلى مصر يزيد بْن حاتم [1] .











مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید