المنشورات

خلع المنصور عيسى بْن موسى وبايع لابْنه المهدي، فجعله ولي عهده:

وَكَانَ سبب خلعه بعد أن بايع لَهُ السفاح بعد المنصور أقره عَلَى مَا كَانَ عليه من الولاية الكوفة وسوادها فِي زمن السفاح، فكان يكرمه ويجلسه عَنْ يمينه والمهدي عَنْ يساره، إِلَى أن عزم المنصور عَلَى تقديم المهدي فِي الخلافة عليه، فلما عزم عَلَى ذلك كلم عيسى بْن موسى فِي ذلك برقيق من الكلام. فَقَالَ عيسى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فكيف بالأيمان والمواثيق الَّتِي علي وعلى المسلمين فِي العتق والطلاق وغير ذلك، ليس إِلَى ذلك سبيل، فلما رأى امتناعه تغير لَهُ [1] وباعده بعض التباعد، وأمر بالإذن للمهدي قبله، فكان يدخل فيجلس فِي مجلس عيسى، ثُمَّ يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون 50/ ب المهدي عَنْ يمين المنصور/ أيضا، ولا يجلس عَنْ يساره فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فكان يأمر بالإذن للمهدي، ثُمَّ لعيسى بْن عَلِيّ، ثُمَّ عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، ثُمَّ عيسى بْن موسى.
ثُمَّ صار الأمر إِلَى أوحش من ذلك بأن كَانَ يكون فِي المجلس فيسمع الحفر فِي أصل الحائط، فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إِلَى الخشبة من سقف المجلس قَدْ حفر عند طرفيها لتقلع فيسقط التراب عَلَى قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحول، ويقوم هو فيصلي، ويأتيه الإذن فيدخل عَلَى حالته والتراب عليه.
وقيل: إنه دس لعيسى بعض مَا يتلفه، ونهض وخرج، فَقَالَ لَهُ بختيشوع: مَا أجترئ عَلَى معالجتك بالحضرة، فاستأذن فِي الكوفة، فأذن لَهُ، وبلغت العلة من عيسى كل مبلغ حَتَّى تمعط شعره [2] .
وقد اختلفوا فِي نزول عيسى عَنِ الخلافة للمهدي عَلَى خمسة أقوال:
أحدها: أنه قيل للمنصور: إنما يحب عيسى الخلافة لولده، فلو أوهمته قتله لنزل عَنِ الخلافة فأخذ ولده بحضرته وَقَالَ للربيع: اختقه فلف [3] حمائل سيفه عَلَى حلقه توهم أنه يخنقه. فلما رأى عيسى الجد قَالَ: أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وكل مَا أملك في سبيل اللَّه، وَهَذِهِ يدي بالبيعة للمهدي.
والثاني: أن الجند كانوا يؤذون عيسى إذا ركب ويسبونه، فشكاهم إلى المنصور، فقال إنهم قَدْ أشربوا حب هَذَا الفتى، فبايع حينئذ للمهدي.
والثالث: أنه ذهب إِلَيْهِ ثَلاثُونَ نفسا، فسألوه أن ينزل عَنِ الخلافة، فلم يفعل، فخرجوا فأخبروا المنصور أنه قَدْ نزل وشهدوا عليه بذلك، فكتب بذلك إلى الأنبار، فلما أنكر شهدوا عليه.
والرابع: أن سالم بْن قتيبة أشار عليه بذلك فقبل منه.
والخامس: أنه بذل لَهُ مال فخرج إِلَى الناس، فَقَالَ: / قَدْ بعت نصيبي من مقدمة ولاية العهد من أمير المؤمنين لابْنه المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاثمائة ألف بين يدي ولدي فلان وفلان وسبعمائة ألف من فلانة- امرأة من نسائه- بطيب نفس مني، لأنه أولى بها مني وأحق، فما أدعيه بعد يومي هَذَا فإني فِيهِ مبطل. وكساه أَبُو جَعْفَر وكسا أولاده بقيمة ألف ألف درهم ومائتي ألف درهم، وَكَانَ ولاية عيسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة، حتى عزل مُحَمَّد بْن سليمان حين امتنع من تقديم المهدي عَلَى نفسه.
وَقَالَ المنصور للمهدي لما عهد إِلَيْهِ: يا أبا عَبْد اللَّه، استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع، ولا تبرم أمرا حَتَّى تفكر فِيهِ، فإن فكر العاقل مرآته تريه حسنه وسيئه. واعلم أنه لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا يصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تدوم نعمة السلطان وطاعته إلّا بالمال، وأقدر الناس عَلَى العفو أقدرهم عَلَى العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره، ومن أحب الحمد أحسن السيرة، وليس العاقل الّذي يحتال للأمر الَّذِي وقع فِيهِ حَتَّى يخرج منه، ولكن هو الَّذِي يحتال للأمر الَّذِي غشيه حَتَّى لا يقع فِيهِ.
وَقَالَ لَهُ يوما: كم دابة عندك؟ قَالَ: لا أدري. قَالَ: هذا والله التضييع، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا.
وفي هذه السنة: ولى أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس ابْن أخيه البصرة، فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمات بها. واستخلف عَلَى البصرة عقبة بْن مسلم، وأقره أَبُو جَعْفَر عَلَيْهَا.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید