المنشورات

عابد علوي مديني.

أَخْبَرَنَا المحمدان: ابْن عَبْد الملك وابْن ناصر قالا: أخبرنا أَحْمَد بْن خيرون قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ المفيد قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْد الْوَاحِدِ الكتاني قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الأنصاري قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العلاء قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: سمعت أبا عامر الواعظ يَقُول: بينا أنا جالس في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءني غلام أسود برقعة فقرأتها، فإذا فِيهَا مكتوب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. متعك اللَّه بمسامرة الفكرة، ونعمك بمؤانسة العبرة، وأفردك بحب الخلوة، يا أبا عامر، أنا رجل من إخوانك بلغني قدومك المدينة فسررت بذلك، وأحببت زيارتك وبي من الشوق إِلَى مجالستك والاستماع لمحادثتك [1] ، مَا لو كَانَ فوقي لأظلني، ولو كَانَ تحتي لأقلني، سألتك بالذي حباك بالبلاغة لما ألحقتني جناح التوصل [2] من زيارتك. والسلام.
قَالَ أَبُو عامر: فقمت مَعَ الرسول حَتَّى أتى بي إِلَى فناء فأدخلني منزلا رحبا خربا.
فَقَالَ لي: قف ها هنا حَتَّى أستأذن لك. فوقف، فخرج إلي فَقَالَ لي: لج. فدخلت، 57/ ب فإذا بيت مفرد فِي الخربة، لَهُ باب/ من جريد النخل، وإذا بكهل قاعد مستقبل القبلة، تخاله من الوله مكروبا، ومن الخشية محزونا، قَدْ ظهرت فِي وجهه أحزانه، وذهبت من البكاء عيناه، ومرضت أجفانه، فسلّمت عليه، فرد علي السلام، ثُمَّ تحرك، فإذا هو أعمى أعرج مسقام. فَقَالَ لي: يا أبا عامر، غسل اللَّه من درن الذنوب قلبك، لم يزل قلبي إليك تواقا، وإلى سماع الموعظة منك مشتاقا، وبي جرح بعد [1] ، قَدْ أعيا الواعظين دواه، وأعجز المتطببين شفاؤه، وقد بلغني نفع مراهمك للجراح والآلام، فلا تألو- رحمك اللَّه- فِي إيقاع الترياق، وإن كَانَ مر المذاق، فإني ممن يصبر عَلَى ألم الدواء رجاء الشفاء. قَالَ أَبُو عامر: فنظرت إِلَى منظر بهرني، وسمعت كلاما قطعني، فأفكرت طويلا، ثُمَّ تأتى من كلامي مَا تأتى، وسهل من صعوبته مَا منه يرق لي. فقلت:
يا شيخ، ارم ببصر قلبك فِي ملكوت السماء، وأجل سمع معرفتك فِي سكان الأرجاء، وتنقل بحقيقة إيمانك إِلَى جنة المأوى فترى مَا أعد اللَّه فِيهَا للأولياء، ثُمَّ تشرف عَلَى نار لظى فترى مَا أعد فِيهَا للأشقياء، فشتان مَا بين الدارين، أليس الفريقان فِي الموت سواء؟ قَالَ أبو عامر: فأن أنة، وصاح صيحة، وزفر والتوى، وَقَالَ: يا أبا عامر، وقع والله دواؤك عَلَى دائي، وأرجو أن يكون عندك شفائي، زدني رحمك اللَّه. فقلت لَهُ: يا شيخ، إن الله عالم بسريرتك، مطلع عَلَى خفيتك، شاهدك فِي خلوتك بعينه، [أين] [2] كنت عند استتارك من خلقه ومبارزته. فصاح صيحة كصيحته الأولى. ثُمَّ قَالَ:
من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من لخطيئتي؟ أنت يا مولاي، وإليك منقلبي. ثُمَّ خر ميتا رحمه اللَّه. قَالَ أَبُو عامر: فأسقط فِي يدي وقلت: ما جنيت عَلَى نفسي.
فخرجت إِلَى جارية عَلَيْهَا مدرعة صوف، وخمار من صوف، قَدْ ذهب/ السجود بجبينها 58/ أوأنفها، وأصفر لطول القيام لونها، وتورمت قدماها، فقالت: أحسنت والله يا حادي قلوب العارفين، ومثير أشجان غليل المحزونين، لا نسي لك هَذَا المقام رب العالمين، يا أبا عامر، هَذَا الشيخ والدي، مبتلى بالسقم منذ عشر سنين، صلى حتى أقعد، وبكى حَتَّى عمي، وَكَانَ يتمناك عَلَى اللَّه ويقول: حضرت مجلس أبي عامر الْبُنَانِيّ، فأحيا موات قلبي، وطرد وسن نومي، فإن سمعته ثانية قتلني، فجزاك اللَّه من واعظ خيرا، ومتعك من كلمك بما أعطاك، ثُمَّ أكبت عَلَى أبيها تقبل عينيه وهي تبكي وتقول: يا أبي، يا أبتاه، يا من أعماه البكاء، يا أبي، يا أبتاه، يا من قتله ذكر وعيد ربه ثُمَّ علا البكاء والنحيب والاستغفار والدعاء، وجعلت تقول: يا أبي، يا أبتاه، يا حليف الحرقة والبكاء. يا أبي يا أبتاه، يا جليس الابتهال والدعاء، يا أبي، يا أبتاه، يا صريخ المذكرين والخطباء، يا أبي يا أبتاه، يا قتيل الوعاظ والحكماء. قَالَ أَبُو عامر: فأجبتها: أيتها الباكية الجرباء، والنادبة الثكلى، إن أباك نحبه قَدْ قضي، وورد دار الجزاء، وعاين كل مَا عمل، وعليه يحصى فِي كتاب عند ربي، لا ينسى لمحسن فله الزلفى، أو مسيء فوارد دار من أساء. فصاحت الجارية كصيحة أبيها، ثُمَّ جعلت ترشح عرقا، وخرجت مبادرا إلى مسجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وفرغت إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والتضرع والبكاء حَتَّى إذا كَانَ عند صلاة العصر، فجاءني الغلام الأسود فأذنني بجنازتيهما وَقَالَ: احضر الصلاة عليهما ودفنتهما. وسألت عنهما فقيل لي من ولد الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّه عنهم.
قَالَ أَبُو عامر: فما زلت جزعا حذرا مما جنيت، حَتَّى رأيتهما في المنام عليهما حلتان خضراوتان، فقلت: مرحبا بكما وأهلا، فما زلت حذرا بما ووعظتكما به، ماذا/ 58/ ب صنع الله بكما؟ فقال الشيخ:
أنت شريكي فِي الَّذِي نلته ... مستأهلا ذاك يا أبا عامر
وكل من أيقظ ذا غفلة ... فنصف مَا يعطاه للآمر
من رد عبدا آبقا مذنبا ... كَانَ كمن قَدْ راقب القاهر
واجتمعا فِي دار عدل وفي ... جوار رب سيد غافر




مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید