المنشورات

صفة العقد الَّذِي عقد للمهدي بالخلافة

روى عَلِيّ بْن مُحَمَّد النوفلي، عَنْ أبيه، قَالَ [4] : خرجت فِي السنة الَّتِي مات فِيهَا أَبُو جَعْفَر من طريق البصرة، وَكَانَ أَبُو جَعْفَر قَدْ خرج عَلَى طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق [5] ، فسرت معه، فلما صار ببئر ميمون نزل بها ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي ثُمَّ كنت أختلف إِلَى مضربه فأقيم فيه إلى قرب الزوال ثُمَّ أنصرف.
وأقبلت علته تزداد، فلما كانت الليلة الَّتِي مات فِيهَا ولم نعلم صليت الصبح فِي المسجد الحرام مَعَ طلوع الفجر، ثُمَّ ركبت وأنا أساير مُحَمَّد بْن عون الحارثي، فلقينا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد، ومحمد بْن سليمان فِي خيل ورجال يدخلان مكة فَقَالَ لي مُحَمَّد بْن عون: مَا ترى هذين ودخولهما مكة، قلت: أحسب الرجل قد مات، فأرادا أن يحصنا مكة، فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير إذا رجل يخفي صوته فِي طريق ونحن بعد فِي غلس قَدْ جاء، فدخل بين أعناق دابتينا، ثُمَّ أقبل علينا فَقَالَ: والله مات الرجل ثُمَّ خفي عنا، فمضينا حتى دخلنا العسكر، فدخلنا إِلَى السرادق فسمعنا همسا من بكاء، فَقَالَ لي الْحَسَن بْن زائدة: أتراه قَدْ مات؟ فقلت: لعله ثقل أو أصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور قد خرج علينا مشقوق الأقبية، من بين يديه ومن خلفه وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه. ثُمَّ خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إِلَى من يخلف بعده من بْني هاشم وشيعته من أَهْل خراسان وعامة المسلمين- ثُمَّ ألقى القرطاس من يده وبكى وبكى النّاس. فأخذ القرطاس وَقَالَ: قَدْ أمكنكم البكاء ولكن هَذَا عهد أمير لا بد من أن أقرأه عليكم فأنصتوا رحمكم اللَّه، فسكت الناس ثُمَّ رجع إِلَى القراءة- أما بعد، فإني كتبت كتابي هذا/ وأنا فِي آخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ من أيام الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل اللَّه ألا يفتنكم ولا يلبسكم [شيعا] [1] ، ولا يذيق بعضكم بأس بعض، يا بْني هاشم ويا أَهْل خراسان، ثُمَّ أخذ فِي وصيتهم بالمهدي وإذكارهم البيعة له وحضهم على القيام بدولته والوفاء بعهده إِلَى آخر الكتاب.
وَكَانَ ذلك شيء قَدْ وضعه الربيع ثُمَّ نظر فِي وجوه الهاشميين [2] ، وتناول الْحَسَن بْن زيد، فَقَالَ: يا أبا مُحَمَّد، قم فبايع، فقام الْحَسَن وانتهى به الربيع إِلَى [موسى بْن المهدي فأجلسه بين يديه، فتناول الْحَسَن] [3] يد موسى فبايعه للمهدي، ثُمَّ جاء الربيع إِلَى مُحَمَّد بْن عون، فأنهضه فبايع وبايع الناس، ثُمَّ قَالَ للهاشميين: انهضوا، فنهضوا فدخلوا فإذا المنصور عَلَى سريره فِي أكفانه مكشوف الوجه، فحملناه حَتَّى أتينا به مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر إِلَيْهِ حين أدنو من قائمة سريره حَتَّى أحمله والريح تطير شعر صدغيه، وَكَانَ قَدْ وفر شعره للحلاق، وقد نصل خضابه حَتَّى أتينا به حفرته فدليناه فِيهَا.
وبعث موسى بْن المهدي والربيع مولى المنصور منارة البربري مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي، وبعثا بعده بقضيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبردته الَّتِي يتوارثها الخلفاء مَعَ الْحَسَن السروي، وبعث أَبُو الْعَبَّاس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة أيضا.

وفي رواية عَنِ الربيع، أنه قَالَ [1] : رأى المنصور فِي طريق الحج رؤيا ففزع منها وَقَالَ:
يا ربيع مَا أحسبْني إلا ميتا فِي وجهي هَذَا [وأنك تؤكد البيعة للمهدي] [2] . وثقل وَهُوَ يَقُول: بادر بي إِلَى حرم اللَّه وأمنه [يأمن ذنوبي وإسرافي عَلَى نفسي] [3] ، فلما وصل إِلَى بئر ميمون قلت: قَدْ دخلت الحرم، فَقَالَ: الحمد للَّه وقضى من يومه.
وَقَالَ الربيع: وأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إِلَى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة وأسندته وألقيت عَلَى وجهه كله [رقيقة] [4] يرى منها شخصه ولا يفهم أمره، ثُمَّ دخلت فوقفت بالموضع الَّذِي أوهمهم أنه يخاطبْني ثم 94/ ب خرجت، فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن اللَّه، وَهُوَ/ يقرأ عليكم السلام ويقول:
إني أحب أن يؤكد اللَّه أمركم، ويكبت عدوكم ويسر وليكم وقد أحببت أن تجددوا البيعة لأبي عَبْد اللَّه المهدي كيلا يطمع فيكم عدو ولا باغ، فَقَالَ القوم كلهم: وفق اللَّه أمير المؤمنين، نحن إِلَى ذلك أسرع، فدخل فوقف ثُمَّ رجع إليهم، فَقَالَ: هلم للبيعة، فبايع القوم كلهم ثُمَّ دخل، وخرج باكيا مشقوق الجيب لاطما عَلَى رأسه، فَقَالَ بعض من حضر: ويلي عَلَيْك يا ابْن الشاة- يريد الربيع- كانت أمه ماتت وَهُوَ رضيع فأرضع عَلَى شاة.
وحفر للمنصور مائة قبر لئلا يعرف موضع قبره، ودفن في غيرها للخوف، عليه، وبويع للمهدي بمكة صبيحة الليلة الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا المنصور.
قَالَ أَبُو بكر الصولي: وَكَانَ الربيع بْن أنس وزير المنصور، فلما تُوُفِّيَ أخذ البيعة للمهدي، فشكر لَهُ المهدي ذلك إلا أنه لم يوله الوزارة لغلبة أبي عبيدة معاوية بْن عَبْد اللَّه عليه، فولى أبا عبيدة الوزارة، والربيع الحجبة، ثُمَّ وزر لَهُ يعقوب بْن داود، ثُمَّ الفيض بْن أبي صالح.
وبعثوا منارة فوصل يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فكتم الخبر يومين، ثُمَّ خطب المهدي يوم الخميس ونعى إليهم المنصور، وَقَالَ: إن أمير المؤمنين عبد الله دعي فأجاب، وأغر ورقت عيناه فَقَالَ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيما وقلدت جسيما، وعند اللَّه أحتسب أمير المؤمنين، وبه عز وجل أستعين عَلَى خلافة المسلمين، ثُمَّ بايعه الناس.
وحكى أَبُو بكر الصولي أنه لما جلس المهدي للتعزية والتهنئة دخل عليه أَبُو دلامة فأنشده [1] :
عينان واحدة ترى مسرورة ... بإمامها جذلى وأخرى تذرف [2]
تبكي وتضحك مرة ويسوءها ... مَا أنكرت ويسرها ما تعرف
/ فيسوؤها موت الخليفة محرما ... ويسرها أن قام هَذَا الأرأف [3]
95/ أفكان أول من وصله.
وفي هذه السنة: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ، وَكَانَ المنصور أوصى بذلك، وَكَانَ هو العامل عَلَى مكة والطائف، وعلى المدينة عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، وعلى الكوفة عَمْرو بْن زهير الضبي، وقيل: كَانَ العامل عَلَيْهَا إِسْمَاعِيل بْن أبي إِسْمَاعِيل الثقفي، وعلى قضائها شريك بْن عَبْد اللَّه النخعي وضمت إِلَيْهِ بغداد. وقيل: كَانَ القاضي عَلَى بغداد يوم مات المنصور عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن صفوان الجمحي، وَكَانَ عَلَى خراج الكوفة ثَابِت بْن موسى، وعلى خراسان حميد بْن قحطبة، وَكَانَ عَلَى ديوان الخراج بالبصرة وأرضها عمارة بْن حمزة، وعلى قضائها والصلاة عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن العنبري، وعلى أحداثها سَعِيد بْن دعلج، وعلى الشرط ببغداد عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ أخو عَبْد الْجَبَّارِ، وقيل: موسى بْن كعب.
وَفِيهَا: أصاب الناس وباء شديد.
وَفِيهَا: هلك طاغية الروم.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید