المنشورات

طرف [من]أخبارهارون الرشيد وسيرته

كَانَ الرشيد يحب العلم ويؤثره ويستفيده، فنال علما كثيرا، وكانت لَهُ فطنة قوية.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري قَالَ: حَدَّثَنَا المعافى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دريد قال: حدثنا أبو 144/ ب حاتم عَنِ/ الأصمعي قَالَ: دخلت عَلَى هارون الرشيد ومجلسه حافل، فَقَالَ: يا أصمعي مَا أغفلك عنا، وأجفاك لحضرتنا؟ فقلت: والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا ألاقتني بلاد بعدك حَتَّى أتيتك. فأمرني بالجلوس فجلست، فلما تفرق الناس- إلا أقلهم- نهضت للقيام، فأشار إلي أن أجلس، فجلست حَتَّى خلى المجلس [4] ، فلم يبق غيري وغيره ومن بين يديه [من] الغلمان، فَقَالَ لي: يا أبا سعيد: ما ألاقتني؟ قلت: [ما] [5] أمسكتني، [وأنشدته] :
كفاك كف لا تليق درهما جودا ... وأخرى تعط بالسيف الدما
فَقَالَ لي: أحسنت، وهكذا فكن وقرنا فِي الملأ، وعلمنا فِي الخلاء، فأمر لي بخمسة آلاف [6] درهم. وفي رواية دينار.
قَالَ الأصمعي: وتأخرت عَنِ الرشيد ثُمَّ جئته، فقال: كيف كنت يا أصمعي؟
قلت: بت والله بليلة النابغة- فَقَالَ: إنا للَّه هو والله قوله [1] :
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش فِي أنيابها السم ناقع
فعجبت من دكائه وفطنته لما قصدت.
وَقَالَ أَبُو سَعِيد بْن مسلم: كَانَ فهم الرشيد فوق فهم العلماء. أنشده العماني فِي وصفة فرس بيت:
كَانَ أذنيه إذا تشرفا ... قادمة أو قلما محرفا
فَقَالَ الرشيد: دع كَانَ، وقل: تخال أذنيه.
وَكَانَ الرشيد يتواضع لأهل العلم والدين.
أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو العلاء الواسطي قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد المزني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن مرة قَالَ: حَدَّثَنَا حسن الأزدي قَالَ: سمعت عَلِيّ بْن المديني يَقُول: سمعت أبا معاوية يَقُول:
أكلت مَعَ الرشيد طعاما يوما من الأيام فصب عَلَى يدي رجل لا أعرفه، فَقَالَ هارون: يا أبا معاوية تدري من يصب عليك [2] ؟ وقلت: لا، قَالَ: أنا/ قلت: أنت يَا أَمِيرَ 145/ أالمؤمنين، قال: نعم إجلالا للعلم [3] .
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْن عَلِيّ المدبر قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر بْن ابْن المسلمة قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد قَالَ: حدثنا أَبُو علي الحسين بْن القاسم الكوكبي قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن الجنيد قَالَ: سمعت عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه- يعني ابْن المديني- قَالَ: قَالَ أَبُو معاوية الضرير:
حدثت الرشيد بهذا الحديث- يعني قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وددت إني أقتل فِي سبيل اللَّه ثُمَّ أحيا ثُمَّ أقتل» - فبكى هارون حَتَّى انتحب، ثُمَّ قَالَ: يا أبا معاوية ترى [لي] [4] أن أغزو؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، مكانك في الإسلام أكبر، ومقامك أعظم،ولكن ترسل الجيوش، قَالَ أَبُو معاوية: وما ذكرت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا قَالَ صلى اللَّه عَلَى سيدي [1] .
وَكَانَ الرشيد معظما للسنة شديد النفور من البدع.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن الفضل الْعَطَّار قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر درستويه قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بْن سُفْيَان قَالَ: سمعت عَلِيّ بْن المديني يَقُول: قَالَ مُحَمَّد بْن حازم: كنت أقرأ حديث الأعمش عَنْ أبي صالح على أمير المؤمنين هارون، فكلما قلت قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قال: صلى الله على سيدي ومولاي، حَتَّى ذكرت التقاء آدم وموسى فَقَالَ عمه: يا مُحَمَّد، أين التقيا؟ فغضب هارون الرشيد وَقَالَ: من طرح إليك هَذَا؟ وأمر به فحبس، فدخلت إِلَيْهِ فِي حبسه فَقَالَ: يا مُحَمَّد، والله مَا هو إلّا شيئا خطر ببالي، وحلف لي بالعتق وصدقة المال، وغير ذلك من معضلات الأيمان مَا سمعته من أحد ولا جرى بيني وبين أحد فِيهِ كلام. قَالَ: [فكلمته فِيهِ] [2] فأمر به فأطلق من الحبس، وَقَالَ لي: يا مُحَمَّد، ويحك، إنما توهمت أنه طرح إِلَيْهِ بعض الملحدين بهذا الكلام فأردت أن يدلني عليهم فأستفتحهم وإلا فأنا عَلَى يقين أن القرشي لا يتزندق [3] .
وَكَانَ الرشيد إذا عرف الصواب رجع إِلَيْهِ سريعا.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا/ أَبُو عمر الْحَسَن بْن عُثْمَان الواعظ قَالَ:
حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد الواسطي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطيب النعمان بْن أَحْمَد القاضي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن زكريا بْن سفيان قَالَ سمعت أصحابْنا يقولون: قَالَ أَبُو معاوية:
دخلت عَلَى هارون [الرشيد] [4] فَقَالَ لي: يا أبا معاوية، لهممت أنه من تثبت خلافته علي فعلت به وفعلت [به] . فسكت، فقال لي: تكلم [تكلم] [5] . فقلت: إن أذنت لي تكلمت. فَقَالَ: تكلم، قلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قالت تيم منا خليفة رسول الله، وقالت عدي: منا خليفة خليفة رسول الله، وقالت بْنو أمية، منا خليفة الخلفاء، فأين حظكم يا بْني هاشم من الخلافة؟ والله مَا حظكم فِيهَا إلا عَلِيّ بْن أبي طالب رضي اللَّه عنه، فَقَالَ:
واللَّهِ يا أبا معاوية لا يبلغني أن أحدا لم يثبت خلافة علي إلا فعلت به كذا وكذا.
وَكَانَ الرشيد يستقبح المدح بالكذب ويذم المادح به. قَالَ يوما لبعض ولاته:
كيف تركت النّاس؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أحسنت فيهم السيرة وأنسيتهم سيرة العمرين. فغضب الرشيد واستشاط وَقَالَ: ويلك يا ابْن الفاعلة، العمرين العمرين، وأخذ سفرجلة فرماه بها فكادت تهلكه، وأخرج من بين يديه.
وَكَانَ الرشيد يكثر الحج والغزو واتخذ قلنسوة مكتوب عَلَيْهَا: غاز حاج.
قَالَ ابْن البراء: كَانَ يحج سنة ويغزو سنة، حج بالناس ست مرات، [فَقَالَ داود بْن رزين] [1] :
بهارون لاح البدر فِي كل بلدة ... وقام به فِي عدل سيرته النهج
إمام بذات اللَّه أصبح شغله ... وأكثر مَا يعنى به الغزو والحج
تضيق عيون الناس عَنْ نور وجهه ... إذا مَا بدا للناس منظره البلج
وإن أمين اللَّه هارون بالندى ... ينيل الَّذِي يرجوه أضعاف مَا يرجو [2]
وَقَالَ أَبُو المعلى الكلابي:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
/ ففي أرض العدو علي طمر ... وفي أرض البْنية فوق كور
[3] 146/ أوألح عليه فِي بعض غزواته الثلج، فَقَالَ بعض أصحابه: أما ترى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا نحن فيه من الجهد والرعية وادعة فَقَالَ لَهُ: أسكت، عَلَى الرعية المنام، وعلينا القيام، ولا بد للراعي من حراسة رعيته. فَقَالَ بعض الشعراء فِي ذلك:
غضبت لغضبتك القواطع والقنا ... لما نهضت لنصرة الإسلام
ناموا إِلَى كنف بعدلك واسع ... وسهرت تحرس غفلة النوّام
وَكَانَ الرشيد إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبْنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رَجُل بالنفقة التامة والكسوة الطاهرة، وَكَانَ يصلي كل يوم مائة ركعة إِلَى أن فارق الدُّنيا، إلا أن تعرض لَهُ علة، وَكَانَ يتصدق من صلب ماله فِي كل يوم ألف درهم بعد زكاتها [1] ، وَكَانَ يقتفي أخلاق المنصور ويطلب العمل بها، إلا فِي بذل المال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك، وَكَانَ يميل إِلَى أَهْل الأدب والفقه، ويكره المراء فِي الدين، ويحب الشعر والشعراء، والمدح ولا سيما من شاعر فصيح، فدخل عليه يوما مروان بْن أبي حفصة فأنشده من قصيدة لَهُ:
وسدت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر
وما انفك معقودا بْنصر لواؤه ... لَهُ عسكر عنه تشظى العساكر
فكل ملوك الروم أعطاه جزية ... عَلَى الرغم قسرا عَنْ يد وَهُوَ صاغر
إِلَى وجهه تسمو [2] العيون وما سمت ... إِلَى مثل هارون العيون النواظر
ترى حوله الأملاك من آل هاشم ... كما حفت البدر النجوم الزواهر
إذا فقد الناس الغمام تتابعت عليهم ... بكفّيك الغيوث المواطر
146/ ب/ عَلَى ثقة ألقت إليك أمورها ... قريش كما ألقي عصاه المسافر
فطورا يهزون القواطع والقنا ... وطورا بأيديهم تهز المخاصر
ليهنكم الملك الَّذِي أصبحت بكم ... أسرته مختالة والمنابر
أبوك ولي المصطفى دون هاشم ... وإن رغمت من حاسديك المناخر
فأعطاه عشرة آلاف دينار وكساه، وأمر لَهُ بعشرة من رقيق الروم وحمله عَلَى برذون [3] .
وللرشيد أشعار حسان، منها: مَا أَخْبَرَنَا به عبد الرحمن بْن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ قَالَ: أَخْبَرَنَا سليمان بْن أَحْمَد الطبراني قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن موسى بْن حسان قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بْن إِبْرَاهِيم بْن صالح قَالَ:
حَدَّثَنَا عمي عَلِيّ بْن صالح قَالَ: قَالَ الرشيد فِي ثلاث جوار:
ملك الثلاث الغانيات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن فِي عصياني؟
مَا ذاك إلا أن سُلْطَانَ الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني [1]
وَكَانَ الرشيد طيب النفس، فكها يحب المزح.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن علي الصيرفي قَالَ: أخبرتنا فاطمة بْنت عَبْد اللَّه الخبرية قالت:
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الحسين بْن الفضل قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن خالد الكاتب قَالَ:
أَخْبَرَنَا علي بْن عَبْد اللَّه بْن المغيرة الجوهري قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن سعيد الدمشقي قَالَ:
حدثني الزبير بْن بكار قَالَ: حدثني عَلِيّ بْن صالح قَالَ: كَانَ مَعَ الرشيد ابْن أبي مريم المديني، وَكَانَ مضاحكا محداثا فكها، وَكَانَ الرشيد لا يصبر عَنْ محادثته، وَكَانَ قَدْ جمع إِلَى ذلك [المعرفة] [2] بأخبار العرب من [3] أَهْل الحجاز ومكائد المجان، فبلغ من خصوصيته به أنه أنزله منزلا فِي قصره وخلطه ببطانته وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، فكشف اللحاف عَنْ ظهره، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كيف أصبحت؟ فَقَالَ: يا هَذَا، مَا أصبحت بعد، مر إِلَى عملك، قَالَ: ويلك، قم إِلَى/ الصلاة قال: هذا وقت صلاة 147/ أأبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي، فقام [4] ومضى وتركه نائما، وقام الرشيد إِلَى الصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين، قَدْ قام إِلَى الصلاة، فألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا هو يقرأ فِي صلاة الصبح وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي 36: 22 [5] فَقَالَ لَهُ ابْن أبي مريم: لا أدري والله فما تمالك أن ضحك فِي صلاته، ثُمَّ التفت كالمغضب فَقَالَ: يا ابْن أبي مريم، فِي الصلاة أيضا؟! قَالَ: يا هَذَا، ما صنعت؟ قال:
قطعت علي الصلاة. قَالَ: والله مَا فعلت، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي 36: 22 [6] [فقلت: لا أدري] [7] . فضحك، وَقَالَ: إياك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدها [8] .
وَكَانَ الرشيد مَعَ حبه اللهو كثير البكاء من خشية اللَّه، محبا للمواعظ، وقد وعظه الفضيل [بْن عياض] [1] ، وابْن السماك، والعمري والبهلول، وغيرهم، وكان يتقبل الموعظة ويكثر البكاء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أبي علي الأصبهاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِسْحَاق الشاهد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن منيع قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أيوب الواعظ- أو قَالَ: العابد- قَالَ: سمعت منصور بْن عمار يَقُول: مَا رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة: فضيل بْن عياض، وأبي عَبْد الرَّحْمَنِ الزاهد، وهارون الرشيد، وأتاه يوما رَجُل من الزهاد، فَقَالَ: يا هارون، اتق اللَّه، فأخذه فخلا به، وَقَالَ: يا هَذَا أنصفني، أنا شر أم فرعون؟ قَالَ: بل فرعون، قَالَ:
فأنت خير أم موسى؟ قَالَ: بل موسى، قَالَ: أفما تعلم أن اللَّه تعالى لمّا بعثه وأخاه إِلَيْهِ قَالَ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً 20: 44 وقد جبهتني بأغلظ الألفاظ، فلا بأدب اللَّه تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت. قَالَ: أخطأت وأنا أستغفر الله، فقال: غفر الله لك، وأمر لَهُ بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها. فهذه الأخلاق الطيبة.
وفي هذه السنة: ولد المأمون فِي ربيع الأول، وولد الأمين/ فِي شوال [2] .
وَفِيهَا: عزل الرشيد عُمَر بْن عَبْد العزيز العمري عَنْ مدينة الرسول [عليه السلام] ، وولاها إِسْحَاق بْن سليمان بْن عَلِيّ [3] .
وَفِيهَا: أمر الرشيد بسهم ذوي القربى قسم فِي بْني هاشم بالسوية [4] .
وَفِيهَا: عزل الرشيد الثغور كلها عَنِ الجزيرة وقنسرين، وجعل لها حيزا واحدا، وسمّيت العواصم [5] .
وَفِيهَا: عمرت طرسوس عَلَى يدي أبي سليم، فخرج الخادم التركي ونزلها الناس [1] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر البرمكي قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الحسين بْن عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الزَّيْنبيّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بْن زهير قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن البربري قَالَ: حَدَّثَنِي أبي- وَكَانَ أول من سكن طرسوس حين بْناها أَبُو سليم، وَكَانَ شيخا قديما- قَالَ: كَانَ يغازينا [2] من الشام ثلاثة أخوة فرسان شجعان، وكانوا لا يخالطون العسكر، وكانوا يسيرون وحدهم، وينزلون كذلك، فإذا رأوا العدو لم يقاتلوا مَا كفوا، فغزوا مرة، فلقيهم الطاغية في جمع كثير، فقاتلوا المسلمين فقتلوا وأسروا، فَقَالَ بعضهم لبعض: قَدْ ترون مَا نزل بالمسلمين، وقد وجب علينا أن نبذل أنفسنا ونقاتل فتقدموا، وقالوا لمن بقي من المسلمين: كونوا وراء ظهورنا وخلوا بيننا وبين القتال نكفيكم إن شاء الله تعالى. فقاتلوا فقهروا الروم، فَقَالَ ملك الروم لمن معه من البطارقة: من جاءني برجل من هؤلاء قدمته وبطرقته. فألقت الروم أنفسها عليهم فأخذوهم أسرى، لم يصب رجل منهم كلم، فَقَالَ ملك الروم: لا غنيمة ولا فتح أعظم من أخذ هؤلاء. فرحل بهم حَتَّى نزل بهم القسطنطينية، فعرض عليهم النصرانية وَقَالَ:
إني أجعل فيكم الملك وأزواجكم بْناتي. فأبوا عليه ونادوا: يا محمداه، فَقَالَ الملك: مَا يقولون؟ قالوا: يدعون نبيهم، فَقَالَ لهم: إن أنتم أجبتموني/ وإلا أغليت قدورا ثلاثة 148/ أفيها الزيت، حَتَّى إذا بلغت أناها ألقيت كل واحد منهم فِي قدر. فأبوا، فأمر بثلاث قدور فنصبت، ثُمَّ صب فِيهَا الزيت، ثُمَّ أمر أن يوقد تحتها ثلاثة أيام يعرضون في كل يوم عَلَى تلك القدور، ويدعوهم إِلَى النصرانية، وإلى أن يزوجهم بْناته، ويجعل الملك فيهم، فيأبون أن يجيبوه، وأقاموا عَلَى الإسلام، فنادى الأكبر، ودعاه إلى دينه فأبى، فناشده وَقَالَ: إني ملقيك فِي هَذِهِ القدر. فأبى فألقاه فِي قدر منها، فما هو إلا أن سقط فِيهَا، فارتفعت عظامه تلوح، ثُمَّ فعل بالثاني مثل ذلك، فلما [رأى] [3] صبرهم على ما فعل بهم، وحفظهم لدينهم، ندم الملك وَقَالَ: فعلت هَذَا بقوم لم أر أشجع منهم، فأمر بالصغير فأدنى منه فجعل يفتنه عَنْ دينه بكل أمر فيأبى، فقام إِلَيْهِ علج من أعلاجه فقال:
أيها الملك مَا تجعل لي إن أنا فتنته؟ قَالَ: أبطرقك، قَالَ: قَدْ رضيت، قَالَ: فبماذا تفتنه؟ قَالَ: قَدْ علم الملك أن العرب أسرع شيء إِلَى النساء، وقد علمت الروم أنه ليس فيهم [امرأة] [1] أجمل من ابْنتي فلانة، فادفعه إلي حَتَّى أخليه معها، فإنها ستفتنه، قال:
فضرب الملك بينه وبين العلج أجلا أربعين يوما، ودفعه إِلَيْهِ، فجاء به فأدخله مع ابنته، وأخبرها بالذي ضمن للملك [2] ، وبالأجل الَّذِي ضربه بينه وبينه، فقالت: لَهُ: دعه، فقد كفيتك أمره، فأقام معها نهاره صائما، وليله قائما، لا يفتر من العمل، حَتَّى مضى أكبر الأجل، فسأل الملك العلج: ما حال الرجل؟ فرجع إِلَى ابْنته فَقَالَ لها: مَا صنعت؟
قالت: مَا صنعت شيئا هَذَا رجل فقد إخوته في هذه البلدة، فأخاف أن يكون امتناعه من أجل أخويه، كلما رأى آثارهما، ولكن استزد الملك فِي الأجل، وانقلني وإياه إِلَى بلد غير هَذَا البلد الَّذِي قتل فِيهِ أخواه، فسأل العلج الملك فزاده فِي الأجل، أياما، وأذن له في 148/ ب خروجهما/، فأخرجهما إِلَى قرية أخرى، فمكث عَلَى ذلك أياما صائم النهار، قائم الليل، حَتَّى إذا بقي من الأجل أيام قالت لَهُ الجارية ليلة من الليالي: يا هَذَا، إني أراك تقدس ربا عظيما، وإني قَدْ دخلت معك فِي دينك، وتركت دين آبائي فلم يثق بذلك منها، حَتَّى أعادت عليه مرارا، فَقَالَ لها: فكيف الحيلة فِي الهرب والنجاة مما نحن فِيهِ؟
فقالت لَهُ: أنا أحتال لك وجاءته بدواب وقالت لَهُ: قم بْنا نهرب إِلَى بلادك، فركبا، فكانا يسيران الليل ويكمنان النهار، وطلبا فخفيا، فبينما هما يسيران ذات ليلة سمع وقع حوافر [3] خيل، فقالت لَهُ الجارية: أيها الرجل، ادع ربك الَّذِي صدقته وآمنت به أن يخصلنا من عدونا، فإذا هو بأخويه ومعهما ملائكة رسل إِلَيْهِ، فسلم عليهما وسألهما عَنْ حالهما، فقالا لَهُ: مَا كانت إلا الغطسة الَّتِي رأيت حَتَّى خرجنا فِي الفردوس، وإن الله أرسلنا إليك لنشهد تزويجك بهذه الفتاة. فزوجوه إياها ورجعوا، وخرج إِلَى بلاد الشام، فأقام معها، وكانا مشهورين بذلك، معروفين بالشام فِي الزمن الأول. وقد قيل فيهما من الشعر ما أنسيته غير هذا البيت: 
ستعطي الصادقين بفضل صدق ... نجاة فِي الحياة وفي الممات
وفي هذه السنة: حج بالناس الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أَهْل الحرمين عطاء كثيرا، وقسم مالا جزيلا [1] .
وغزا الصائفة سليمان بْن عَبْد اللَّه الركابي [2] .
وَكَانَ العامل عَلَى مكة والطائف عَبْد اللَّه بْن قثم، وعلى المدينة إِسْحَاق بْن سليمان الهاشمي، وعلى الكوفة موسى بْن عيسى وخليفته عَلَيْهَا ابْنه الْعَبَّاس بْن موسى، وعلى البصرة والبحرين وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس مُحَمَّد بْن سليمان بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عباس/ [3] .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید