المنشورات

قتل الرشيد جعفر بن يحيى [بن خالد] ، وإيقاعه بالبرامكة

فأما سبب غضبه على جعفر الذي قتله لأجله فقد اختلف فيه، وفي سبب تغيره عَلَى البرامكة.
فقال بختيشوع: إني لقاعد في مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خَالِد، وكان يدخل بلا إذن، فلما صار بالقرب/ من الرشيد وسلم عليه رد عليه ردا ضعيفا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير، ثم أقبل علي الرشيد فقال: يا بختيشوع، يدخل عليك في منزلك أحد بلا إذنك؟ فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك، فَقَالَ: ما بالنا يدخل علينا بلا إذن. فقام يحيى فقال: يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ علمت فإني أكون في الطبقة الثانية من أهل الإذن والثالثة إن أمرني سيدي بذلك. قَالَ: فاستحى، وكان من أرق الخلفاء وجها، وعيناه في الأرض، ما يرفع طرفة. ثم قَالَ: ما أردت ما تكره، ولكن [3] الناس يقولون. وخرج يحيى [4] .
وقال ثمامة بن أشرس: رفع محمد بن الليث رسالة إلى الرشيد يعظه فيها ويقول:
إن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يدي الله فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: استكفيت يحيى أمور عبادك. أتراك تحتج بحجة يرضاها. مع كلام فيه توبيخ وتقريع، فدعى الرشيد يحيى وقد تقدم إِلَيْهِ خبر الرسالة، / فَقَالَ: تعرف محمد بن الليث؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: فأي الرجال هُوَ؟ قَالَ: متهم على الإسلام. فأمر به، فوضع في الحبس دهرا، فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين. قَالَ: تَقُولُ هذا!؟ قَالَ: نعم، وضعت رجلي في الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت [1] ، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك؟ قَالَ:
صدقت. وأمر بإطلاقه، ثم قَالَ: يا مُحَمَّد، أتحبني؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي. فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت فَقَالَ: يا مُحَمَّد، أتحبني؟ قَالَ: أما الآن فنعم، قد أنعمت علي، وأحسنت إلي. قَالَ: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك. قال: فقال الناس في البرامكة، فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير [2] حالهم [3] .
وقال محمد بن الفضل مولى سليمان بن أبي جعفر: دخل يحيى بن خالد بعد ذلك إلى الرشيد [4] ، فقام الغلمان إِلَيْهِ فقال الرشيد لمسرور [الخادم] [5] : مر الغلمان أن لا يقوموا إليه إذا دخل. فدخل فلم يقم إليه أحد، فاربد لونه، وكان الغلمان والحجاب بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه، فكان ربما استسقى الشربة فلا يسقونه [6] .
/ وقال أبو محمد اليزيدي: من قال إن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعي به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه إلى أن قال لَهُ: اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا مُحَمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلم، فو الله ما أحدثت حدثا، ولا آويت [1] محدثا. فرق لَهُ وقَالَ: اذهب حيث شئت من بلاد اللَّه. قَالَ: وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ بعد قليل. فأرد إليك أو على غيرك. فوجه إليه من أداه إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقَالَ: ما أنت وهذا، لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري. فانكسر الفضل، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما كان بينهما أن قَالَ: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال الثقيلة. فَقَالَ: بحياتي! فأحجم جعفر، وكان من أرق الخلق ذهنا، وأصحهم فكرا، فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به [2] ، ولا مكروه عنده. قَالَ: نعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره/ حتى كاد يتوارى عن وجهه، ثم قَالَ: قتلني الله بسيف الهدى [3] على عمل الضلالة إن لم أقتلك. فكان من أمره ما كان [4] .
وقال إدريس بن بدر: عرض رجل للرشيد فَقَالَ: نصيحة، فَقَالَ لهرثمة: خذ إليك الرجل وسله عن نصيحته. فسأله فأبى أن يخبره وقَالَ: هي سر من أسرار الخليفة. فأخبر هرثمة الرشيد [5] فَقَالَ له: لا تبرح بالباب [6] حتى أفرغ له. فلما كان في الهاجرة، وانصرف من كان عنده، دعا بِهِ، فَقَالَ: أخلني. فالتفت هارون إلى بنيه فَقَالَ: انصرفوا يا فتيان. فوثبوا، وبقي خاقان وحسين على رأسه، فنظر إليهما الرجل فَقَالَ: تنحيا عنا.
ففعلا، ثم أقبل على الرجل فَقَالَ: هات ما عندك. فَقَالَ: على أن تؤمنني. قال: على أن أؤمنك وأحسن إليك. قَالَ: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف [1] أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه برصد، يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم أعوانه، ومع [كلّ] [2] واحد منهم منشور يأمن له إن عرض لَهُ. قال: تعرف يحيى بن عبد الله؟ قَالَ: أعرفه قديما، وذلك الّذي حقق معرفتي به بالأمس. قَالَ:
فصفه. قَالَ: مربوع، أسمر، رقيق البشرة، أجلح، حسن العينين/، عظيم البطن.
قَالَ: صدقت هو ذَلِكَ. قَالَ: فما سمعته يَقُولُ؟ قال: ما سمعته يقول شيئا غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلاما من غلمانه أعرفه قديما جالسا على باب بالخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل، فألقاه في عنقه، ونزع الجبة الصوف، فقال لَهُ: أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك، فمن أنت؟ قال: رجل من أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام. قال: فمنزلك بها؟ قَالَ: نعم. فأطرق مليا، ثم قال: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي؟ قَالَ: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين.
قَالَ: كن بمكانك حتى أرجع. فدخل حجرة كانت خلف ظهره، فأخرج كيسا فيه ألفا دينار، فَقَالَ: خذ هذه ودعني وما أدبر فيك. فأخذها وضم عليها ثيابه، ثم قَالَ: يا غلام.
فأجابه خاقان وحسين، فَقَالَ: اصفعا [3] ابن اللخناء، فصفعاه [4] نحوا من مائة صفعة، ثم قَالَ: أخرجاه [5] إلى من بقي في الدار [6] وعمامته في عنقه، فقولا [7] : هذا جزاء من يسعى ببطانة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا [8] ذلك وتحدثوا بخبره، ولم يعلم بحال الرجل أحد [9] ، ولا بما ألقى إلى الرشيد حتى كان من أمر البرامكة ما كان [10] .
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عبد الجبار قال: أخبرنا/ أبو محمد الجوهري قَالَ: أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قَالَ: حدثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال: حدّثني أبو الفضل ميمون بن مهران [1] قال: حدثتني أمية البرمكية [2] قالت: الناس يكثرون في قصة البرامكة، وأوكد الأسباب فيما نالهم أن جعفر بن يحيى كان اشترى جارية [مغنية] [3] يقال لها «فتينة» [4] لم يكن لها نظير في الدنيا في حسن الخلق وسجاة وطيبة [5] ، وكان ابن جامع إذا سمعها بكى ما دامت تغني، وكان غيره من الحذاق يسلمون لها، وكان شراؤها على جعفر مائة ألف دينار، فطلبها منه الرشيد فلم يدفعها إِلَيْهِ، فلم يكن إلا قليلا حتى نزل بهم ما نزل، فأخذت وأخذ جميع من معها من الجواري [6] والعوامل، ثم جلس لنا وأدخلنا عليه وفي يد كل واحدة منا ما تعمل بِهِ، فأقبل يأمر واحدة واحدة، فتغني المغنية، وتزمر الزامرة، حتى بلغ إلى «فتينة» [7] فقال لها: غني. فأمسكت، فقلنا لها ونحن نرعد: ويحك غني! فأسبلت دمعها وقالت: أما بعد السادة فلا. فحثثناها على ذلك فأبت، فنظر الرشيد إلى أقبح من على رأسه وهو الحارث بن بسيحر وقال: خذها، قد وهبتها لك. فأخذ بيدها ومضت معه، فلما ولت دعا الحارث وأسر إليه شيئا علمناه فيما بعد، أمره أن لا يقربها، إذ كان إنما أراد كسرها، ثم أمر بصرفنا فانصرفنا، ومكثنا أياما، ثم ذكرنا فأمر بإحضارنا/ على السبيل التي حضرناها [أولا] [8] ، فلما وقفنا بين يديه قال للحارث: ما فعلت فلانة؟ يعني: فتينة. قال:
هي قبلي يا أمير المؤمنين. قَالَ: هاتها. فأحضرها وجلست وجلسنا، فأخذنا في شأننا وقَالَ: هيه غني. فعصرت عينيها ثم بكت [1] وقالت: أما بعد السادة فلا. فغضب الرشيد وقَالَ: سيف ونطع، ثم قال لها: غني. فردت مثل قولها الأول، وأسبلت الدموع، وذهبت عقولنا نحن، ووقعت علينا الرعدة من شدة الخوف، فقال للسياف: انظر إلى يدي، فإذا عقدت لك بالخنصر اثنين فأمسك [2] ، فإذا عقدت بالوسطى ثلاثا فاضرب.
فأخذ السياف السيف ووقف وراءها شاهرا به. فقال لها الرشيد: غني: فقالت: أما بعد السادة فلا، وهي تبكي وقد علا بكاؤها، فعقد بيده واحدة، ثم قَالَ لها ثانية فقالت القول الأول، فعقد اثنين، ورفع يديه يريها السياف وأقبل يحرك الوسطى ويقول لها: غني.
وأقبلنا عليها نناشدها في نفسها وفينا [3] ، فاندفعت تغني:
لما رأيت الديار قد درست ... أيقنت أن النعيم لم يعد
فوثب إليها الرشيد، فأخذ العود من يدها، وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تفتت، وأقبلت الدماء، وتطايرنا نحن، وحملت من بين يديه وقيدة [4] ، فمكثت ثلاثا/ وماتت [5] .
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري [6] سببا [7] عجبا في خبر البرامكة في هلاك جعفر قال: كان الرشيد لا يصبر عن جعفر وأخته عباسة بنت المهدي، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها، ولا تمسها. فكانا يحضران مجلسه، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحبلت منه، فولدت غلاما، وخافت من [8] الرشيد، فلم يزل الأمر مستورا، ووجهت المولود مع خواص لها من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستورا عن الرشيد حتى [1] وقع بين عباسة وبعض جواريها شر، فأنهت أمرها [وأمر الصبي] [2] إلى الرشيد، وأخبرت بمكان الصبي، ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته بها أمه [3] ، فلما حج هارون هذه الحجة أرسل إلى الموضع من يأتيه بالصبي وحواضنه، فلما حضرن سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، وكان ذلك سبب ما نزل بهم [4] .
وقد ذكر [أبو بكر] [5] الصولي أن علية بنت المهدي قالت للرشيد: ما رأيت لك يوم سرور منذ قتلت جعفرا، فلأي شيء قتلته؟ فَقَالَ: لو علمت أن قميصي يعلم السبب الذي قتلت له جعفرا لأحرقته. وكان يحيى بن خالد قد كتب إلى جعفر: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة يعرف بها أمرك، وإن كنت أخشى أن تكون التي لا سوى لها. وقال يحيى للرشيد: يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك، ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك، فلو أعفيته واقتصرت/ به على ما يتولاه من جسيم أعمالك كان ذلك واقعا بموافقتي. قَالَ الرشيد: يا أبت، ليس بك ذلك [6] ، ولكن [7] تريد أن تقدم عليه الفضل.
وقد أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِي بْن المحسن التنوخي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين علي بن هشام قال: سمعت الحسن بن عيسى يَقُولُ: الشره قتل جعفر بن يحيى. فقيل لَهُ: إن الناس يقولون إن ذنبه أمر بعض أخوات الرشيد.
فَقَالَ: هذا من رواية الجهال من كان يجسر على الرشيد بهذا إنما كان جعفر قد حاز ضياع الدنيا لنفسه، وكان الرشيد إذا سافر لا يمر بضيعة أو بستان إلا قيل: هذا لجعفر.
فما زال ذلك في نفسه، ثم جنى على نفسه بأن وجه برأس بعض الطالبيين في يوم نيروز من غير أن يكون قد أمره بقتله، فاستحل بذلك دمه.
وقيل: بل أرادت البرامكة إظهار الزندقة وإفساد الملك فقتلهم لذلك.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك [1] ، ومحمد بن ناصر قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، أخبرنا أبو عبد الله النصيبي، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سُوَيْد، حدثنا أبو بكر الأنباري قَالَ: حدثني أَبِي، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن المدائني قَالَ: قال أبو زكار [2] الأعمى: كنت عند جعفر البرمكي في الليلة التي قتل فيها وهو يغني بهذا الشعر:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يبكر أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما ... وإن بقيت تصير إلى نفاد/
فلو فوديت من حدث الليالي ... فديتك بالطريف وبالتلاد
فقلت: يا سيدي، ممن أخذت هذا الشعر. قَالَ: من أحسن شعرا من حكم الوادي. فما قام عن موضعه حتى جاء مسرور غلام الرشيد فأخذ رأسه [3] .
قال علماء السير [4] : لما انصرف الرشيد عن الحج في سنة ست وثمانين قال مسرور الخادم: سَمِعْتُ الرشيد يقول في الطواف: اللَّهمّ إنك تعلم أن جعفر بن يحيى قد وجب عليه القتل، وأنا أستخيرك في قتله فخر لي. قالوا: ثم عاد إلى الأنبار وبعث إليه بمسرور وحماد بْن سالم، والمغني يغني:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يبكر أو يغادي
قال مسرور: الذي جئت فيه من ذاك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين. قال:
فوقع عَلَى رجلي يقبلها ويقول: حتى أدخل فأوصي. فقلت: أما الدخول فلا سبيل إِلَيْهِ، ولكن أوص بما شئت. فتقدم في وصيته بما أراد، وقَالَ: كل مال لي فهو صدقة، وكل عَبْد لي فهو حر، وكل من لي عنده وديعة أو حق فهو في حل. ثم أتت رسل الرشيد تستحث مسرورا، فأخرجه إخراجا عنيفا، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد فَقَالَ: ائتني برأسه. فجاء إلى جعفر وأخبره، فقال: الله الله، والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو/ سكران، فدافع بأمري [حتى أصبح] [1] أؤامره في ثانية. فعاد ليؤامره، فَقَالَ: يا ماص بظر أمه ائتني برأس جعفر. فرجع إليه فأخبره فقال:
عاوده ثالثة. فأتاه فحذفه بعمود وقَالَ: نفيت من المهدي إن جئتني ولم تأتني برأسه لأرسلن إليك من يأتيني برأسك، فأتاه برأسه [2] .
وكان قتله ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين بأرض الأنبار، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ثم أمر بنصب رأسه على الجسر، وتقطيع بدنه، وصلب كل قطعة على جسر، فلم يزل كذلك حتى مر عليه الرشيد حين خروجه إلى خراسان، فَقَالَ:
ينبغي أن يحرق هذا. فأحرق.
قال علماء السير: وجه الرشيد في ليلة قتل جعفر من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه ومن [كان] [3] منهم [4] بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضرا، وحول الفضل بن يحيى ليلا فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذَلِكَ، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلته رجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم، وما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وفرق الكتب من ليلته في جميع الغلمان في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم وأخذ [5] وكلائهم [6] فلما أصبح كتب إلى السندي بتوجيه جثة [7] جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط، وقطع جثته وصلب [1] كل قطعة على/ الجسر الأعلى والجسر الأوسط. ففعل السندي ذَلِكَ، وأمر بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن أمنهم أو آواهم [2] إلا محمد بن خالد وولده وأهله وحشمه، فإنه استثناهم لما ظهر من نصيحة محمد لَهُ، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة، وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه مع العم، ووكل بالفضل، ومحمد، وموسى، وأبي المهدي صهرهم حفظة من قبل هرثمة بن أعين إلى أن وافى بهم الرقة، وأتى بأنس بن أبي شيخ صبيحة الليلة التي قتل فيها جعفر فأمر بقتله، وكان من أصحاب البرامكة، وكان قد رفع [إليه] [3] عنه أنه على الزندقة [4] .
وقيل ليحيى بن خَالِد أن الرشيد قد قتل ابنك، فَقَالَ: كذلك يقتل ابنه [5] .
أنبأنا مُحَمَّد بْن أبي طاهر البزاز، أنبانا علي بن المحسن التنوخي، عن ابنه قال:
حدثني علي بن هشام، أخبرنا علي بن عيسى قَالَ: حدثنا أبي، حدثنا داود بن الْجَرَّاح قَالَ: قال لي الفضل بن مروان قَالَ: كنت أعمل في أبواب ضياع الرشيد الحساب، فنظمت في حساب السنة التي نكب فيها البرامكة، فوجدت ثمن هدية دفعتين من مال الرشيد أهداهما إلى جعفر بن يحيى بضعة عشر ألف دينار، وفيه بعد شهور من هذه الهدية قد بينا الحساب لثمن نفط وحب قطن ابتيع فأحرق به جثة جعفر بن يحيى بضعة عشر قيراطا ذهبا.
وقد ذكر [أبو بكر] [6] الصولي: أن الرشيد كان يقول، لعن الله من أغراني بالبرامكة، ما رأيت رخاء بعدهم، ولا وجدت لذة راحة.
قال الصولي: / وحدثنا الغلابي، حدثنا العتبي قَالَ: قال لي الرشيد بعد قتل البرامكة: وددت والله إني شوطرت عمري، وغرمت نصف ملكي، وأني تركت البرامكة على أمرهم.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري، أخبرنا محمد بن العباس قَالَ: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال: أخبرني أبو النضر هشام بن سعيد الزُّهْرِيّ قَالَ: أخبرني أَبِي قَالَ: لما صلب الرشيد جعفر بن يحيى وقف الرقاشي الشاعر [1] فَقَالَ:
أما والله لولا خوف [2] واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى ... حساما فله السيف الحسام
على اللذات [3] والدنيا جميعا [4] ... ودولة آل برمك السلام
فقيل للرشيد، فأمر به فأحضر فقال لَهُ: ما حملك على ما فعلت؟ قَالَ: تحركت نعمته في قلبي فلم أصبر. قَالَ: كم أعطاك؟ قَالَ: كان يعطيني كل سنة ألف دينار. قال:
فأمر له بألفي دينار [5] .
أخبرنا القزاز أخبرنا [أحمد بن علي] [6] الخطيب. قَالَ: أخبرنا محمد بن عبد الْوَاحِدِ [بْن عَلِيّ] [7] البزاز قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي قَالَ:
أخبرنا محمد بن أَبِي الأزهر قَالَ: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله قَالَ: لما قتل جعفر بن يحيى وصلب بباب الجسر رأسه، وفي الجانب الغربي جسده، وقفت امرأة على حمار فاره، فنظرت إلى رأسه فقالت بلسان فصيح: / والله لئن صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم [1] غاية، ثم أنشأت تَقُولُ:
لما رأيت السيف خالط جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطت ذا إلى الغاية القصوى
ثم إنها حركت الحمار الذي تحتها وكأنها [كانت] ريحا لم يعرف لها أثر [2] .
وفي هذه السنة: هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجّه الرشيد محمد بن منصور فأصلح بينهم [3] .
وفيها: زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعة [من الليل] [4] .
وفيها: غزا هارون الروم، وافتتح هرقلة فظفر بابنة بطريقها فاستخلصها لنفسه، وأغزى ابنة القاسم الصائفة، ووهبه للَّه عز وجل، وجعله قربانا له ووسيلة، وولاه العواصم، فدخل أرض الروم في شعبان، فأناخ على حصن سنان، فجهدوا، فبعث إليه [ملك] [5] الروم يبذل له إطلاق ثلاثمائة أسير وعشرين أسيرا من أسارى المسلمين على أن يرحل عنهم، ففعل [6] .
وفيها: غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه، وكان بلغه أنه يروم الخلافة، فلم يزل محبوسا حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشّام [1] .
وفيها: نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي/ قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الهالك لهم، وكان سبب النقض: أن الروم كانت عليهم امرأة تملكهم، فخلعوها وملكوا عليهم نقفور، فكتب إلى الرشيد:
من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي [2] أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها [3] ، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد [4] ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما أن [5] قرأ الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يمكن أحدا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه خوفا، واستعجم الرأي على الوزير [من] [6] أن يشير عليه أو يتركه برأيه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم. من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه. والسلام.
ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى، وخرب وأحرق، واصطلم. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما/ رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق، وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجوعه إليه، فأتى الخبر بارتداده عما أخذ عَلَيْهِ، فلم يتهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عَلَيْهِ وعلى أنفسهم من الكرّة في مثل تلك الأيام، فاحتيل لَهُ بشاعر من أهل جدة يقال لَهُ: أبو محمد عبد الله بن يوسف فأخبره بذلك في أبيات [1] .
وفي هذه السنة: قتل إبراهيم بن محمد [بن عثمان] [2] بن نهيك. وقيل: إنما قتل في سنة ثمان وثمانين [3] .
وسبب قتله: أنه كان كثيرا ما يذكر البرامكة فيبكي حبا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء ودخل في باب طالبي الثأر، فكان إذا خلا بجواريه فشرب وسكر قَالَ: يا غلام، سيفي، فيجيء غلامه بالسيف، فينتضيه ثم يقول: وا جعفراه، وا سيداه، والله لأقتلن قاتلك. فلما كثر هذا من فعله جاء ابنه [4] عثمان إلى الفضل بن الربيع فأخبره، فأخبر الفضل الرشيد، فَقَالَ: أدخله. فأدخله فَقَالَ: ما الذي قال عنك الفضل؟ فأخبره بقول أبيه وفعله [5] . فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قَالَ: نعم، خادمه. فدعا خادمه/ سرا فسأله، فَقَالَ: قد قال ذلك غير مرة [6] . فَقَالَ الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليا من أوليائي بقول غلام وخصي [7] ، لعلهما تواصيا على هذا. فأراد أن يمتحن إبْرَاهِيم، فقال للفضل: إذا حضر الشراب فادعه، فإذا شرب خلني وإياه. ففعل ذَلِكَ الفضل، فلما خلا به الرشيد قَالَ: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر من قلبك [8] ؟ قال: يا سيدي، أنا كأحسن عبيدك وأطوع خدمك. قَالَ: إن في نفسي. أمرا أريد أن أودعك إياه قد ضاق صدري، وأسهد [9] ليلي. قَالَ: إذا أخفيه أن تعلمه نفسي. قَالَ: ويحك! قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أني خرجت من ملكي، وأنه كان بقي لي، فما وجدت طعم النوم [10] منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته. فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وقَالَ: رحم الله أبا الفضل وتجاوز عَنْه، والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله. فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يا ابن اللخناء [1] ! فقام ما يعقل، فانصرف إلى ابنه [2] فقال: يا بني [3] ، ذهبت والله نفسي. فما كان إلا ثلاث ليال حتى قتل [4] .
وفيها حج بالناس عُبَيْد الله بن العباس بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس [5] .







مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید