المنشورات

الفضيل بن عياض، أبو علي التميمي

ولد بخراسان بكور أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وعطاء بن السائب، وحصين بن عبد الرَّحْمَن، وغيرهم.
ثم تعبد وانتقل إلى مكة، فمات بها في أول هذه السنة. وكان ثقة فاضلا زاهدا.
أخبرنا محمد [3] بن ناصر قَالَ: حدثنا [4] حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ/ الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو سعيد الجندي قَالَ: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: كانت قراءة الفضيل حزينة شهية بطيئة مترسلة [5] ، كأنه يخاطب إنسانا، وكان إذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة تردد فيها وسأل [6] ، وكان يلقى له حصير بالليل في مسجده، فيصلي من أول الليل ساعة حتى تغلبه عيناه فينام على الحصير [7] ، فينام قليلا، ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام، ثم يقوم، هكذا حتى يصبح.
وسمعته يَقُولُ: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبّل [8] ، كبّلتك خطيئتك.
أخبرنا المحمدان: ابن ناصر، وابن عبد الباقي قَالا: حَدَّثَنَا حَمَدُ [1] بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زكريا [2] الغلابي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْجَرْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْفُضَيْلُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: حَجَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَتَانِي فَخَرَجْتُ مُسْرِعًا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو أرسلت [3] إليّ أتيتك. فقال: ويحك! قد حَكَّ فِي نَفْسِي شَيْءٌ، فَانْظُرْ لِي رَجُلا أَسْأَلُهُ.
فَقُلْتُ/: هُنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. فَقَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ. فَأَتَيْنَاهُ فَقَرَعْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قُلْتُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَخَرَجَ [4] مُسْرِعًا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ أَتَيْتُكَ، فَقَالَ لَهُ: خُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ رَحِمَكَ اللَّهُ. فَحَدَّثَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَبَا الْعَبَّاس، اقْضِ دَيْنَهُ.
فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُكَ شَيْئًا، انْظُرْ لِي رَجُلا أَسْأَلُهُ. قُلْتُ: هُنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ. قَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ. فَأَتَيْنَاهُ، فَقَرَعْتُ الْبَابَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ:
أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَخَرَجَ مُسْرِعًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ أَتَيْتُكَ [5] .
قَالَ: خُذْ لِمَا جِئْنَاكَ له. فحادثه ساعة، ثُمَّ قَالَ: هَلْ عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَبَا عَبَّاسٍ، اقْضِ دَيْنَهُ.
فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُكَ شَيْئًا، انْظُرْ لِي رَجُلا أَسْأَلُهُ. قُلْتُ: هُنَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. قَالَ: مُرَّ بِنَا إِلَيْهِ. فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَتْلُو آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، يُرَدِّدُهَا، فَقَالَ: اقْرَعِ الْبَابَ. فَقَرَعْتُ الْبَابَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا لِي وَلأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا عَلَيْكَ طَاعَةٌ، أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ/ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لَيْسَ للْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» ؟ فَنَزَلَ فَفَتَحَ الْبَابَ ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى الْغُرْفَةِ، فَأَطْفَأَ الْمِصْبَاحَ، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نَجُولُ [1] عَلَيْهِ بِأَيْدِينَا، فَسَبَقَتْ كَفُّ هَارُونَ قَبْلِي إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا لَهَا مِنْ كَفٍّ، مَا ألينها، إن نجت غدا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَيُكَلِّمَنَّهُ اللَّيْلَةَ بِكَلامٍ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ رَحِمَكَ اللَّهُ.
قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُلِّيَ الْخِلافَةَ دَعَا سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، ومحمد بن كعب القرظي، وَرَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأَمْرِ [2] فَأَشِيرُوا عَلَيَّ.
فَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ غَدًا من عذاب الله عز وجل فصم [عَنِ] [3] الدُّنْيَا، وَليَكُنْ إِفْطَارُكَ فِيهَا [4] الْمَوْتَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَلْيَكُنْ كَبِيرُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَكَ أَبًا، وأوسطهم أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقّر ْأَبَاكَ، وَأَكْرِمْ أَخَاكَ، وَتَحَنَّنْ عَلَى وَلَدِكَ.
وَقَالَ لَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ غَدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ/ فَأَحِبَّ لِلْمُسْلِمِينَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ مِتْ إِذَا شِئْتَ، وَإِنِّي أَقُولُ لَكَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَشدَّ الْخَوْفِ، يَوْمًا تَزَلْ فِيهِ الأَقْدَامُ، فَهَلْ مَعَكَ- رَحِمَكَ اللَّهُ- مَنْ يُشِيرُ عَلَيْكَ بِمِثْلِ هَذَا؟
فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: ارْفُقْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا بْنَ أُمِّ الرَّبِيعِ، تَقْتُلُهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَأَرْفُقُ أَنَا [5] . بِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين، بلغني أَنَّ عَامِلا [6] لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَكَى إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ:
يَا أَخِي، أُذَكِّرُكَ اللَّهَ طُولَ سَهَرِ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بِكَ مَنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْكَ وَانْقِطَاعَ الرَّجَاءِ [1] .
فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ طَوَى الْبِلادَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز فقال: ما أقدمك؟
قال: خلعت قلبي بِكِتَابِكَ، لا أَعُودُ إِلَى وِلايَةٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ الْمُصْطَفَى صلّى الله عليه وسلّم جاء إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِّرْنِي عَلَى إِمَارَةٍ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الإِمَارَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِ استطعت أن لا تَكُونَ أَمِيرًا فَافْعَلْ» . قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا، وَقَالَ لَهُ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ/.
قَالَ: يَا حَسَنَ الْوَجْهِ أَنْتَ الَّذِي يَسْأَلُكَ اللَّهُ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقِيَ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ النَّارِ فَإِيَّاكَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ وَفِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ غَاشًّا لِرَعِيَّتِهِ لَمْ يَرِحْ [2] رَائِحَةَ الْجَنَّة» . فبكى هارون وقال لَهُ: عليك دين؟ قَالَ: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قَالَ: أعني من دين العباد. قَالَ: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أوحده وأطيع أمره، فقال عز وجل: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 51: 56- 58 [3] .
فقال لَهُ: هذه ألف دينار خذها أنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك. فَقَالَ:
سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني [4] بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك. ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قَالَ: أبا الْعَبَّاس، إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت لَهُ: يا هذا، قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، / فلو قبلت هذا المال فانفرجنا بِهِ. فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كثر نحروه فأكلوا لحمه.
فلما سمع هارون هذا الكلام قَالَ: تدخل فعسى يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس على السطح على باب الغرفة، فجلس هارون إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينا نَحْنُ كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا، قد أذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك اللَّه. فانصرفنا.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید